| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  السبت 9/4/ 2011

 

إلى أعضاء البرلمان الذين غادروا جلسة يوم 4 نيسان

تقي الوزان

تسمرت قدماي وتجمد نظري , اخترقني تيار افقدني الإحساس بكياني وأنا أقابله وجها لوجه , لم يكن يبعد عني أكثر من متر عندما تبينته وسط الزحام . كان بين يديه بعض الأوراق المالية من التومان والدينار العراقي , رفع صوته ليسمعنا : دولار , دينار , دولار , دي.., وقطع كلامه أمام تفرسي به , تراجع بجسمه الى السياج الحديدي الذي يحيط بحوض نباتي في وسط السوق , سألني بتردد , وحاول أن لا يكشف عن خوفه : العفو أخي تعرفني ؟! لا , أجبته وقد استرجعت السيطرة على مشاعري : أتصورتك واحد من أقربائي . صديقي محمد الذي يصغرني وجدته يقبض على زندي بشدة , اخبرني بعدها , انه كان خائفا أن اهجم عليه بعد أن رأى الشرر يتطاير من عيني , وأضاف : نحن لا نعرف احد في السوق , وهو يعمل فيه , يعني جماعته اهوايه .

جئت عدة مرات الى " كوجه مروي " لزيارة ابن مدينتي عباس الذي يملك محلا لبيع الأحذية في السوق , ولكنها المرة الأولى التي أشاهده فيها , لم اعرف انه يعمل هنا . " كوجه مروي" الكوجه تعني الزقاق الضيق ومروي اسم شخص , وهو السوق الرئيسي للعراقيين في طهران , والسوق معروف ببيع جميع أنواع الممنوعات والتزوير , وعندهم سماح من الأمن الإيراني على ان يزوروا جميع الأوراق الرسمية الأجنبية عدا الإيرانية . محمد لم يشاهدني بهذا التوتر سابقا, سألني : ما الذي دفعك لكل هذا التشنج عندما رأيت ابو التصريف ؟! ولو ان معرفتي به قريبة إلا ان محمد أصبح الأقرب إلي . قبل فترة لا تتجاوز الشهر كنت عائدا الى البيت بعد أن أكملت بيع ما تبقى لدي في العربة التي املكها من فواكه , وعادة لا أبيع أكثر من سلعتين , وفي الأغلب تفاح ولالنكَي . كنت اسكن مع أمي وشقيقتي في غرفة مؤجرة في بيت يتكون من ثلاث غرف ومنافع مشتركة , يقع عند نهاية زقاق سيد علي المتفرع بعد الحسينية النجفية في شارع جهار مردون ( الرجال الأربعة ) في مدينة قم , وعند دخولي البيت سمعت صوت أمي تطلب مني ان أتوقف عن دخول الغرفة لغاية ما تتمكن ام محمد وبنتها من لبس الحجاب , تعرفت على محمد وأهله , وأخبرتني والدتي إنها تعرفت عليهم أثناء الطواف في ضريح معصومة - ومعصومة الأخت الصغرى لثامن ألائمة ألشيعة الرضا عليه السلام , وكان اسمها فاطمة ماتت وعمرها ثماني سنوات فسميت معصومة , لأنها طفلة ومعصومة من الخطأ – وأقسمت أمي بمعصومة أن لا تذهب أم محمد وعائلتها إلى الفندق , بل تبقى عندنا لغاية انتهاء الزيارة ورجوعهم لطهران . أخذت محمد وذهبنا للمبيت في بيت عقيل , وهو احد أقربائي وقد فقد اثنين من إخوته أيضا بعد احتجاز صدام لهم عند التسفير وأعدمهم حال الآخرين . كان عقيل يلعب كرة القدم في فريق الاهواز الذي حاز على بطولة الدوري الإيراني قبل ان ينتقل الى قم .

ستار لا يزال يبيع العملة في " كوجه مروي " لحد الآن , ووسع عمله في الترجمة للعراقيين الذين يأتون لمراجعة الأطباء في طهران , قصيرا وبطينا , واثر كبير لحبة بغداد على خده الأيسر , لم أكن ارغب بتوضيح سبب كرهي له , الا ان محمد الذي حسبته نسى الموضوع أعاد السؤال وبإلحاح , فأجبته : عند تسفيرنا في بداية الثمانينات لم يمض وقت طويل على وجودنا في الاوردكَاه ( كمب لاجئين ) الذي استحدثته الحكومة الإيرانية في المنطقة بين ديزفول وخرم آباد , وهو مدرسة قديمة متروكة استخدمت للإدارة ونصبت حولها مئات الخيام لإسكاننا . تركنا والدي , أنا وأمي وشقيقتي وذهب يبحث عن معارفه في المدن التي يتواجد فيها العراقيون كي يدبر أمره ويستطيع سحبنا من الاوردكَاه . والدي كان مدرس علوم في ثانوية العزة للبنين في الكوت , نقلوه إلى وزارة الري لأنه لم يقبل أن يسجل بعثيا , كانوا يلحون عليه ويضايقوه كي يوقع تعهد يؤكد عدم العمل مع أي حزب آخر , رغم إنهم يعرفون بأنه مستقل . ففي عام 1963 وتحت التعذيب اجبر على توقيع براءة من الحزب الشيوعي لكي يطلق سراحه ويعود لمواصلة دراسته الجامعية , وبعدها خجل من العودة للشيوعيين رغم اعتزازهم به . وعندما اشتدت حملة تسفير الأكراد الفيلية كانت أمي تلح عليه أن يوقع التعهد او يسجل بعثيا كي لا يسفروننا , وسألها والدي : هل تعتقدين ان التوقيع سيوقفهم عن تسفيرنا ان هم أرادوا ذلك ؟! وفعلا سفرونا وكان معنا عمي وهو عضو فرقة في حزب البعث , وهو اكثر من ضايق والدي على ضرورة التوقيع .

كنت مع والدتي في إدارة الاوردكَاه لاستلام ما ستوزعه علينا الحكومة الإيرانية , استلمت بطانيتين , وتركت والدتي لاستلام الأرزاق , وعند اقترابي من الخيمة التي نسكنها صعقني رعب صرخة أختي , قفزت الى داخل الخيمة , وجدت هذا الكلب يحاول افتراسها , لم تتجاوز الثانية عشر , هجمت على رقبته , وضربة عكسية منه طرحتني أرضا, واكمل برفسة على وجهي , وهرب . كان هذا قبل اثني عشر عاما , كنت في الرابعة عشر من عمري ولم ينبت شاربي بعد , ولهذا لم يعرفني ستار . النظام الإيراني يحترم المرأة , وبالذات في مسألة الاعتداء الأخلاقي عليها , وشرع قوانين شديدة لردع الاعتداء عليها وستار يدرك هذا . كان يتهرب من أن أراه , إلى ان تدبر أمره بسرعة وترك الكمب . أقنعتني والدتي أن لا نشتكي عليه خوفا على سمعة أختي , وأقنعتني بعدها ان لا أجيب سيرة هذا الموضوع أمام والدي , الذي عاد بعد شهرين وأخذنا لنسكن معه في قم .

تجمد محمد كالتمثال وهو يستمع الي , وسقطت دمعة من عينيه , سألته ولم يجب , لمت نفسي لإخباره , واعتقدت كلامي سبب وجومه , لكنه قبلني وطلب تأجيل الموضوع . كان والدي موظفا ولم يتعلم أية مهنة في حياته , واضطر ان يدفعني للعمل في مطعم للدجاج المشوي مع احد أصدقائه المهجرين قبله , وسمح له صديقه أيضا ان يضع بسطة صغيرة لبيع السكاير والعلوج وبعض المحابس بجانب باب المطعم . كان والدي صاحب نكتة , ويستحوذ على انتباه من يحدثهم بسرعة , خاصة في السياسة , وخلقت له هذه اللباقة علاقات محترمة مع الجميع , كنت اعتز بها مع نفسي كثيرا . مرض واخذ صوته يبح , عرض نفسه على طبيب , وعرف ان السرطان قد تمكن من حنجرته , ولعدم وجود الإمكانية المادية للمعالجة تدهور بسرعة اكبر , وانتقل الى رحمة الله .

بعد وفاة والدي مباشرة , شقيق صاحب المطعم اخذ يراقبني كثيرا في العمل , ويقف على رأسي عندما استلم النقود وأعيد باقي الحساب للزبائن . أدركت انه يريد ان يدفعني لترك العمل , تمكنت من تدبير ألفي تومان وهو ما يعادل اليوم دولارين , اشتريت بهما عربة لبيع الفواكه . وعند مبيتنا في بيت قريبي عقيل , وهو صاحب عربة أيضا , ويشتري لي الفاكهة معه عندما يذهب من الفجر الى سوق الخضرة في الجانب الآخر من قم , أوضح محمد رغبته في الانتقال الى قم والعمل معنا لكي يساعد والدته في تدبير أمورهم , وهي كانت تذهب الى سوريا عبر تركيا لجلب بعض الحاجيات وبيعها في دولة آباد احدى ضواحي طهران الجنوبية التي يسكنونها مع الكثير من العراقيين . رحب عقيل بالفكرة وأبدى استعداده بالمساعدة , وفعلا وجد لهم سكن مناسب قريب منا انتقلوا إليه , واخذ يعمل معي في العربة .

يقول محمد : ان اسمي ليس محمد , انه اسم أخي الكبير , أنا اسعد , ولكون أمي تلقب بأم محمد وأنا فقط معها , مشينا الاسم . محمد كان طالبا في كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة بغداد السنة الأخيرة , اختفى ولم نعرف عنه شئ , بعد أسبوعين اعتقلوا والدي الذي كان يملك محلا لبيع الهدايا في سوق الاستربادي في الكاظمية , وكنا نعتقد لكونه كردي فيلي حيث اشتدت حملة تسفير الفيلية . نحن ولدان وثلاث بنات , بعد اعتقال والدي بأسبوع اعتقلوا اختيّ الكبيرتين , وكانتا طالبتين في الجامعة , منى في التربية الرياضية ومها سنة أولى إنكليزي في الآداب مع محمد . لم نعرف ماذا يجري ولكن أمي لكونها معلمة وتمتلك علاقات اجتماعية واسعة عرفت ان محمد ينتمي الى حزب الدعوة , وهو مطلوب للنظام , واعتقل والدي للتحقيق معه لمعرفة أين يكون محمد , أما لماذا اعتقلت منى ومها ؟! الله وحده يعلم. بعد أكثر من شهر سلمت لنا جثة والدي , وابلغوا والدتي ممنوع إقامة الفاتحة , ممنوع الحزن ولبس السواد , ممنوع الكلام , والبنات رهينة لغاية ما يسلم محمد نفسه .

طردت والدتي من التعليم الى كاتبة ذاتية في مديرية تربية الكرخ , وتحت رحمة مدير بعثي متسلط اجبرها على ترك الوظيفة , وأخذت تعمل خياطة لإعالتنا . بعد أكثر من ستة اشهر عرفنا باعتقال محمد لأنهم أطلقوا سراح منى ومها , ويا ليتهم لم يطلقوا سراحهما . كانت بطنيهما منتفختين , وحاملين في الشهر السادس , وتحول اللقاء إلى مأتم أنسانا مصير محمد ومأساة والدي وما نحن فيه من خوف ورعب .

سألت والدتي عن كيفية تعارفها بأم محمد؟ كنا نطوف بمعصومة أنا وأختك بثينة تقول أمي : عندما سمعتها تنوح , لم يكن صوتا يندب حبيبا , بل كان جرح ينزف , لم استطع مواصلة السير , اقتربت منها , كانت تتحدث مع ابو محمد , ومحمد , كانا يجلسان معها , حنينها , ولوعتها لشم رائحة ابنها , وزوجها , كانت تطلب من ابنها ان يسامحها لأنها تركت جهاز عرسه الذي جمعت اغلبه في بيتهم في بغداد , وتقسم لزوجها بأنها منعت من إقامة ألفاتحه , ومنعوها من لبس الأسود عليه , وصدق ظنها بأنه مات شهيد , كانت تقبل أيديهم , وجباههم , تمسك الشباك بقوة , تضمه الى صدرها , لا تريد ان تفلته , لواعج صوتها شل الموجودين , ابكي ليس على والدك وشقيقيك المحتجزين , بل على فجيعة نعيها , لم اسمع مثل صوتها , اقسم لك سمعت بكاء معصومة , وسمعتها تقول : الموت أهون من فقدان الأحبة , لم نكن نحن العراقيات نبكي فقط , بل الإيرانيات وهن لا يعرفن ماذا تقول . وعندما سكتت , كان الصمت يلف الجميع , ليس في جهتنا فقط , بل في جهة الرجال أيضا , كانوا معنا ينتظرون العودة لواقع الحال .

أم محمد تقول أمي : تنحدر من محافظة ديالى , وعند زواجها من ابو محمد استأجرا بيت صغير في منطقة السفينة في الاعظمية بجانب المشتل الذي يملكه شقيقها الكبير , ثم تمكنا من شراء بيت صغير بمساعدة شقيقها في نفس المنطقة .

وعندما قررت التوجه إلى إيران مع أبنائها سألت مساعدة أخيها الأصغر .تقول ام محمد لامي : كان أخي شيوعي ,ومتخفي عن أعين السلطة , وانتظرت فترة ليست قليلة قبل أن أراه , كان في كردستان , أخبرته برغبتي , وبعد أيام جاءنا بسيارة تويوتا , تركنا البيت على حاله , وزيادة في التمويه تركنا حتى الغسيل مشرورا على الحبل . انحشرنا في سيارته , وعند العصر كنا في السليمانية , وعند الغروب سلمنا الى البيشمركَة الشيوعيين الذين نقلونا بعربة يسحبها تراكتور اوصلتنا لقرية بعد ما يقارب الساعتين . بتنا ليلتنا , وفي الصباح عبرنا الحدود سيرا على الأقدام مع الدليل ليوصلنا بعد الظهر إلى أول مدينة إيرانية .

سألت أمي : وهل تعرفين بقضية بناتها ؟

أمي : تزوجهما اثنان من التوابين بعد ان عرفا بقضيتهما , منى تسكن في كرمنشاه , ومها قريبة من أمها في دولة آباد.

سألتها : لماذا لم تخبريني بالتفاصيل؟

تكسرت العبرات في كلامها وسألت : لماذا أخبرك ؟ هذه أشياء مضت . ولكن أريد أن تفرحني ونخطب لك صغيرتهم رشا . قبلت يدي أمي وحضنتها .

تذكرت تفاصيل هذه الأحداث التي رواها لي هادي عن حالته الاجتماعية , وأنا أشاهد الجلسة التي انسحب منها قسم كبير من أعضاء البرلمان يوم 4 نيسان والمخصصة لمناقشة مأساة الفيلية . وتدحرجت عشرات الأسئلة في ذهني , ومن بينها : هل يعرف النواب المنسحبون ان المهجرين رغم كل المآسي التي مروا بها , كانوا لأكثر من ربع قرن لا يملكون الجنسية في إيران بل كارت اخضر أبدل بأبيض يثبت إنهم لاجئون , ولا يحق لهم التملك , والبيوت التي اشتروها بعرق جبينهم وليس بالمضاربات السياسية التي تمارسونها, كانت مسجلة بأسماء الإيرانيين ولم نسمع إن أحدا منهم قد تنكر للعراقيين وسلب بيته . ولا يحق لهم العمل في الدوائر الرسمية حتى لو كانوا يحملون أعلى الشهادات واكبر الخبرات , ولا يحق لأبنائهم الدراسة في الجامعات , ولا يملكون الدفترجة ( التأمين الصحي ) , والزواج من الإيرانية أو من الإيراني لا يمنحه الجنسية , وغيرها الكثير . تذكرت هذا وطلبت من هادي أن أقابل عمته أم محمد . زرتها , ووجدتها مقعدة , طلبت منها ان انشر هذه التفاصيل , لم تجب , وطرقت إلى الأرض , بعدها سألتني : وشراح أيفيد إذا نشرتها ؟! نذكرهم بالمأساة على الأقل , أجبتها بخفوت . ام محمد : ابني احنه ما نستجدي منهم , والكلام وياهم ما راح أيفيد , سامع بالمثل ( يجفيك شر الهافي والمتعافي ) , احنه ألنه الله . ينراد سنين طويلة , وكت غير هذا الوكت الأغبر , ووجوه جديدة حتى ينصفونه . ابني اكتب باليعجبك . قبلت يديها , وخرجت أتعثر بعبرتي .




 

 

free web counter