| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الجمعة 6/5/ 2011

 

دوائر الوفاء

تقي الوزان

كانت أشبه بلوحة بانوراما تمتد أمامه , تمترس أبو الهيجا خلف صخرة كبيرة رصاصية اللون مشوهة لا تمتلك أي قرب من أي شكل هندسي , واسند ظهره إلى جذع شجرة بلوط متوسطة الحجم لا تبعد عن الصخرة أكثر من متر ونصف المتر , كان الموضع مناسب للمقاومة , المفرزة تتوسط منحدر سفح الجبل وتنتشر على مساحة لابأس بها . الجحوش بأعداد تفوق عدد مفرزتنا الاثنين والعشرين بعشرات المرات يصعدون بتوجس , ومن الصباح الباكر والمدفعية لم تكف عن إطلاق نيرانها , ودخان الحرائق يتصاعد من أماكن عدة متفرقة . في الصباح حلقت طائرة هليكوبتر , وكان آمر المفرزة قد وضع مقاومة الطائرات الوحيدة التي كنا نملكها بالقرب من قمة الجبل كي تستطيع ان تغطي انسحابنا , وفي نفس الوقت فاجأت الهليكوبتر بنيرانها , أصابتها ولم تسقطها , ربما اعتقدوا إننا نملك أكثر من واحدة فلم يرسلوا الطيران بعدها واكتفوا بالمدفعية والجحوش .

أبو الهيجا يرى الجحوش يصعدون ولكنه لم يطلق النار , التزاما بالخطة التي تقتضي بتقربهم أكثر لغاية ما يكون التصويب أدق , وعندما يطلق آمر المفرزة أول اطلاقة ويكون قد حدد المسافة . انفجار صم الآذان لقذيفة سقطت أمام الصخرة التي يختفي خلفها , ورغم الرطوبة التي لا تزال تملئ المكان الا ان النيران أخذت تلتهم الأعشاب نحوه . الإجهاد اخذ الكثير من أبو الهيجا وهو يحدثني عن تلك المعركة التي قامت رحاها على سفح جبل كَاره في بهدنان , والذي يقع خلف مصيف سرسنك . تبلل بالعرق بعد ان ارتفعت حرارته وهو ممدد على السرير , ولابد من تبديل ملابسه , كانت ترافقه زوجته , وأخبرتني : ان هذه الحالة تتكرر عنده أربعة أو خمسة مرات في اليوم , ويغرق في النوم بعدها . سألتها بعد أن أبدلت ملابسه : من كان آمر المفرزة ؟ أبو ليلى , أجابتني .

ابو ليلى هو القائد الأنصاري المعروف صباح ياقو توماس والذي شكل مع مفرزته خطورة كبيرة على مواقع السلطة في محافظة دهوك وباقي مدن بهدنان . أبو ليلى أكمل دراسة الدكتوراه في جامعة موسكو قبل التحاقه بقوات الأنصار , وعلى ما اعتقد كان تخصصه في الزراعة . كان موضع ثقة جميع الأنصار في السرية الذين كانوا يتفاخرون بوجودهم في المفرزة التي أخذت اسم آمرها, والمعروفة بنشاطها وحيويتها . ربما نتيجة هذا النشاط المتواصل , لم يتمكن ابو الهيجا من البقاء مع زوجته سوى ثلاثة أيام فقط كشهر عسل عند زواجهم , كما تقول الرفيقة ام الهيجا .

صدام التكريتي الاسم الذي يوتر الدم في شرايين العراقيين , ويدفع بالتدفقات المتواترة للخوف في ضربات القلب المرعوب , لتزيد سرعته عشرات الأضعاف كي يلتهم العمر بجنون , ولا يتركه ان يفرق بين الطفولة والمراهقة وباقي المحطات الأخرى , فالشباب كهول والكهول شيوخ ولم يعد يدركوا غير الخوف والحفاظ على حياتهم . احد المعارف يعمل مصورا في تلفزيون بغداد , ولحذاقته في تصوير أفضل الزوايا لبعض زيارات صدام عندما كانوا يحتاجونه , أدرج اسمه ضمن الذين سيكرمهم صدام . وقبل ان يمد يده لمصافحته سقط المصور مغشيا عليه , ضحك صدام بقهقهة رددت صداها قاعة الاستقبال , جميع المكرمين تجمد الهواء في أنفاسهم ولا يعرفون ماذا يفعلون , احد أفراد الحماية شمم المصور قلونيا كان يحملها في جيبه وكأنه كان عارفا بما سيحدث . عاد المصور لبعض وعيه , حاول النهوض , التقت عيناه بعيني صدام فسقط مرة أخرى , فازداد إشراق صدام , وضحكه . تحت هذه الظلال تمظهرت تكريت في ذهن اغلب العراقيين , خاصة بعد ان جند الكثير من البدو الأجلاف من أطراف المدن الغربية , وحثالات الريف من الأميين والمتخلفين , ومنحهم كل سلطات التحقيق والتنكيل بكل العراقيين , وحتى أبناء الغربية جعلهم على درجات وعلى رأسهم التكارتة , ويجري تفسير الصراع بينهم على أساس تقاسم النفوذ فقط ولا وجود في تفكير اغلب العراقيين لمعارضين دفعوا حياتهم ثمنا لإسقاطه . تكريت تحولت إلى أفضل مدن العراق , وأرخصها , ومبذولا فيها كل ما تحتاجه المدن العراقية الأخرى أيام الحصار الأسود , وأصبحت قبلة العراقيين الذين يبحثون عن الجاه والمال , وأصبحت قرية صدام العوجة أم القرى , ومن تمكن من مقابلة صبحة أم صدام وحاز على إعجابها فقد تمكن من سكن خانات السلطة والجبروت . وأصبحت المفردات الغربية وعلى رأسها ( يولو) يتفاخرون بترديدها , وهجمت قيم الريف على المدينة , وكلما ازداد الرعب والدمار كلما ازداد الكره لتكريت ومن يسكنها حتى بات الجميع مشتركون في الجريمة , فقط لكونهم تكارتة . وظلم المعارضون لصدام من التكارتة مرتين , الأولى , للإيغال بالتنكيل بهم من قبل نظام صدام , والأخرى النظرة الحاقدة للعراقيين عليهم , ومن بين أبناء تكريت الشرفاء كان أبو الهيجا .

أبو الهيجا نجاح خليل الجبوري مواليد 1952 , ترك الجامعة المستنصرية وهو في الصف الثاني وسافر إلى موسكو لحصوله على زمالة دراسية عام 1974 , وخلال دراسته تعرف على زوجته أم الهيجا التي كانت تدرس التاريخ في جامعة موسكو أيضا , أكمل دراسة الماجستير هندسة عام 1980 وكان متحمسا لتلبية نداء الحزب في الكفاح المسلح . ترك موسكو وذهب إلى احد معسكرات التدريب في بيروت , وبعد ثلاثة اشهر دخل بهدنان عن طريق تركيا . نجاح كان متوسط الطول , وصاحب بنية قوية ورشيقة يحمل ألبي كي سي ومعها مخزنان (صينية ) , جرئ لا يعرف التردد , وسيم وشعره اصفر , عيون ملونة وبشرة حمراء , وكثيرا ما يلاطفه الرفاق الأنصار بأنه مضرّب من قبل الضباط الإنكليز الذين يعبرون تكريت إلى بغداد أيام الحكم الملكي . كان الحذر في حياة البيشمركَة كبيرا في عدم كشف المدينة التي ينحدر منها النصير , او الاسم الصريح , وكل ما يتعلق بالأمور الأمنية التي تكشف الشخص خوفا من تأثير ذلك على مطاردة عوائل الأنصار من قبل النظام , إلا ان البعض من رفاق المنطقة الغربية وجدوا في الكشف عن شخصياتهم واجبا للرد على من يتهم أبناء الغربية وبالذات التكارتة من كونهم في ركاب النظام , كانت لغيرتهم ووفائهم لحزبهم وأبناء مدنهم ما عمق جذر التحامهم , وعلى عمق هذا الالتحام كان عمار احد معالم مقاومة النظام الفاشي في أرياف السليمانية ومدنها .

عمار معلم من الرمادي , اسمر , أحول , جسم صغير ويديه أطول من الطبيعية . كان يمتلك حاسة خاصة في التصويب بمدفع الهاون وكأنه سلاح خفيف , ونادرا ما تذهب قذيفته هباء . كان معروفا في مناطق قرداغ التي هي أماكن انتشار الفوج الخامس عشر لقوات بيشمركَة الحزب الشيوعي , وفي إحدى المرات تقدم الجحوش باتجاه احدى القرى عند بداية قرداغ والقريبة من الشارع الذي يتجه إلى مدينة كلر , وقصرت إحدى قذائف مدفعية الجيش وسقطت وسط مجموعة الجحوش المتقدمين , وقتل اثر سقوطها ستة وجرح أربعة آخرون . ورغم ان القذيفة ثقيلة , وجاءت من الاتجاه المعاكس , إلا أن الأهالي تناقلوا: ان قذيفة عمار هي التي أصابتهم . استشهد عمار عند تنفيذ عملية على موقع عسكري في دربندخان , فجرح ولم يتمكن من مواصلة السير مع المفرزة التي كان يقودها , طلب منهم ان يتركوه ويسرعوا بالانسحاب , وظل ينزف إلى أن استشهد . وعند الفجر اكتشف العسكر جثته , فسحلوه الى داخل المعسكر , وعندما عرف آمر المعسكر من احد الجحوش الذي كان سابقا بيشمركَة ان الشهيد هو عمار , أقام احتفالا واخذ يطلق الرصاص في الهواء , وسحلت جثته الى الساحة المقابلة للسوق , وأرسلت سيارة تحمل مكبرة صوت تدعو أهل المدينة لمشاهدة جثة المجرم عمار . اجتمع حشد كبير من أهالي المدينة بين مصدق ومكذب , وعمار قد شدت جثته إلى عمود كهرباء , وعندما تجمعت النساء تحول المشهد الى بكاء وعويل اثار الواقفين , وتحول الموقف الى ذعر ارتسم على وجوه المسئولين , فأسرعوا بإنزاله وأخذه قبل انفجار الموقف .

تعرفت على نجاح وزوجته عند انسحاب قاطع السليمانية من سلسلة جبال قرداغ إلى هزار ستون القريب من الحدود الإيرانية اثر اتفاقية ( ديوانة ) الموقعة بين مسئول القاطع بهاء الدين نوري وبين قوات الاتحاد الوطني (اليكتي) , والتي تنص على عدم الاعتداء والتعاون بين الطرفين . وديوانة قرية في قرداغ , وقوات الاتحاد الوطني في المنطقة كانت الأقوى من بين قواته في المناطق الأخرى من كردستان , ووقعت الاتفاقية قبل أيام من هجوم الاتحاد الوطني على المقر المركزي للحزب الشيوعي في بشتاشان , وحدثت معارضة قوية للاتفاقية , وكادت ان تحدث مذبحة بين الشيوعيين أنفسهم , وجردت قيادة بهاء الدين نوري بعض الرفاق من أسلحتهم . والاتفاقية مكنت الاتحاد الوطني من تحريك اغلب قواته في قرداغ الى بشتاشان , ولولا ديوانة لما تمكن الاتحاد الوطني ان يضرب تلك الضربة الغادرة للشيوعيين , وبسبب ديوانة تم طرد بهاء الدين نوري من الحزب عند انعقاد المؤتمر الوطني الرابع للحزب عام 1984 , وليس كما يدّعى ابوسلام بهاء الدين نوري بأنه تم اعتقاله بسبب خلاف فكري , وروّج له البعض ممن يجدوا في كل إساءة للحزب تربة يركعون عليها . والجميع يعرف إن أبو سلام كان لأسباب ذاتية تتعلق بقناعته , حيث يعتقد انه الأجدر بقيادة الحزب يتصرف بهذه الطريقة التي كلفت الحزب كثيرا .

بدأ التعب يظهر واضحا على نجاح في هزارستون , وتعاوده فترات متكررة من الخمول , واخذ يتعرق كثيرا , وفحصه اثنان من الرفاق الأطباء - احدهم جراح الآن في اكبر مستشفيات كوبنهاكَن - , ونتيجة الافتقار للأجهزة الطبية لم يتمكنا من تشخيص حالته . تربطني بنجاح صداقة عميقة رغم قصر فترة تعارفنا , ورغم اني أجد الكثير من الأسباب لكي اخلق له جو من المرح واجعله يضحك الا ان زوجته لا تود رؤيتي , لكوني ألاطفها ببيت أبوذية يقول ( شردت منه يخلك الله وتاني ... لكَيته ابحضرموت ايخم عليّ ) وهو ما يضحك نجاح . والسبب ان الرفيقة أم الهيجا بلقيس حاتم الدعمي وهي من احد العوائل الكريمة في الديوانية قد سافرت من موسكو الى اليمن الجنوبية بعد إكمال دراستها أملا بانتظار خطيبها نجاح ان يلتحق بها عند إكمال دراسته بعد ستة اشهر , وكانت إحدى محطاتها في اليمن حضرموت . وشاءت الظروف ان يتوجه نجاح مباشرة إلى لبنان ثم إلى كردستان , مما اضطرها لترك وظيفتها والالتحاق به ليتزوجا في كردستان . ونتيجة الظروف الصعبة وغير الطبيعية في كردستان تأخر إرسال نجاح الى العلاج في الخارج , وكانت حالته في تدهور مستمر . خرجا إلى اليمن , وبعدها إلى بلغاريا , ثم قدما للاستقرار في السويد , ولا اعرف بالضبط أين تم تشخيص سرطان الدم الذي أكل جسمه .

بعد فترة قصيرة من زيارتي له في مستشفى مدينة هلسنبوري في جنوب السويد وافاه الأجل يوم 1993.09.06 ودفن يوم 1993.09.10 . نحن في العراق نقول للإنسان الذي لا يقصر في وفائه " حليبه طيب " , والرفيقة بلقيس حاتم الدعمي قد وفّت لهذا الحليب الطيب , ليس لزوجها فقط , ولكن للعائلة الكريمة التي أنجبتها وزرعت فيها كيف يجب ان يكون الإنسان , ورغم انها لم تتأخر في رعاية زوجها طيلة هذه السنوات , فإنها أبت أن تفارق مدينة هلسنبوري لحد الآن , رغم الدعوات الكثيرة التي وجهت لها بالانتقال , وبالذات بيت شقيقها في لندن , ولا تزال مستمرة في زراعة الورود حول قبره , ولا تتخلف عن إيقاد الشموع حول البلاطة التي تحمل اسمه في كل المناسبات التي كان يعشقها , وأولها يوم الشهيد الشيوعي في 14 شباط من كل عام .






 

 

free web counter