| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الأحد 3/4/ 2011

 

آني بعثي ....

تقي الوزان

في المدن الصغيرة الجميع يعرف الجميع , وهذا يولد تكافل اجتماعي بأشكال عفوية , مثل تشعب الصداقات , وتقديم المساعدة بكل أنواعها , وتامين الحماية للضعيف , وغيرها من المظاهر التي هي أعراف تربط أبناء المدن الصغيرة, وتولد استقرار اجتماعي ونفسي اكبر بكثير من العيش في المدن الكبيرة , وهذا هو السبب الرئيسي في عودة أبناء الصويرة إلى مدينتهم يوميا رغم تواجد أعمالهم في بغداد , ولم تكن الطرق ووسائط النقل مثل اليوم . وكان لقربها من بغداد دافعا لإثارة حماس وحيوية شبابها في عدة مجالات, ومن أبرزها لعبة كرة القدم . لقد امتلكت المدينة بشكل مبكر قاعدة شعبية كبيرة لهذه اللعبة , وفي النصف الثاني من ستينات القرن الماضي كانت تمتلك لاعبين عدة يلعبون في فرق المقدمة العراقية مثل منعم جابر وغسان عبد الرحمن وياس عباس , وفي تلك الفترة تشكل فريق " فتيان الصويرة " يوم كانت الفرق الشعبية الفاعل الأساس في نشاط الكرة العراقية , ثم تحول اسمه لاحقا الى فريق " الجبهة الوطنية ".

الفريق اختار مقهى عدنان بولاني الذي يقع في بداية السوق القديم مقرا له , كان الفريق يشكل منتخب المدينة , وطموح جميع الشباب اللعب في الفريق , لما يمثله من واجهة تجمع خيرة اللاعبين , ولما حققه من نتائج كانت تتصدر الصحف الرياضية في تلك الفترة مثل الملعب والملاعب والجمهور الرياضي , والأخيرة يصدرها نادي الأمة . والاهم ان الاهتمام لم يقتصر على الشباب الرياضي فقط , بل كانت المدينة بأغلب عوائلها تتابع نشاط الفريق , ولم تمض جمعة او جمعتين الا وله مباراة سواء في الصويرة او في بغداد او مع باقي فرق المدن القريبة مثل الحلة والمسيب والمحمودية , ومع فرق تتمتع بشهرة كبيرة مثل اتحاد فيوري الذي يضم الكثير من لاعبي منتخب العراق , اتحاد الكسرة الذي كان يقوده اللاعب الدولي مجبل فرطوس , واتحاد حبيب , والنهضة الكاظمي , وزمالك الكرادة , وجميع فرق العوينة وغيرها الكثير من الفرق الشعبية العريقة . وفي الكثير من الأحيان كان الفريق القادم الى الصويرة يأتي ومعه ( باص ) من مشجعيه , كانت سفرة سياحية بالنسبة لهم لما يجدوه من روح رياضية وضيافة تكشف طيبة الروح العراقية الحقيقية , إضافة لقضاء أوقات ممتعة في بساتينها المطلة على شواطئ دجلة الرملية الواسعة , والتي يفتقدونها في اغلب مناطق بغداد .

كان البعث يشجع على ان تلفق أقوال أو تهم بلا دليل , وتؤخذ كقضية مسلما بها , وينقلب الأمر , لا يطالب الكاذب المفتري بأن يقيم البرهان على صحة ما يقول , وإنما يطالب الآخرون بإقامة البرهان على انه افتراء كاذب . أي ان الافتراء والاتهام هو ما يجب ان ينشغل به أفراد البعث في صراعهم فيما بينهم او مع الآخرين . وبعد سنوات طويلة وجدت ذيول البعث بعد ان خرجت من العراق وبدوافع شتى , وجدت نفسها تشن حملات شعواء من الكذب والافتراء على احزاب المعارضة ومنتسبيها , واتهامهم بمختلف الاتهامات السياسية والشخصية , وليس بالضرورة لإعاقتهم عن مواصلة معارضتهم , بقدر ما هي احد أوجه المنظومة الأخلاقية التي تربوا عليها , ولا تزال تترك آثارها لحد الآن على الكثير من مواقف العراقيين .

ما من كلمة تقال , او إيماءة قصدها تلطيف الجو , الا وفسرت بوحي الريبة التي افترضها البعث بكل شئ . وعلى ضوء هذه الريبة دخل مفوض الأمن " كراش " , وهو اسم لمشروب غازي , ولا احد في المدينة يعرفه بغير هذا الاسم , وينحدر من قضاء بيجي , بشرته صفراء متربة , وكانت استدارة فكيه تكملة لحدبته التي لم يكتمل تشوهها , عيون صغيرة غائرة , وانف غريب عن باقي مكونات وجهه ويحول حتى رائحة المسك الى روائح كريهة . كان يكره عدنان لكثرة تعليقاته الساخرة , ويعتقد انه من سماه " كراش " , كان عاجزا عن مسك احد تعليقات عدنان ليجعل منها مادة جرمية . دخل المقهى يستعرض قدراته في ( اخذ بوش ) الآخرين , ويتفحص الجدران جيدا , واستقر نظره على الجدار المقابل للباب الذي تستقر عليه مجموعة الهدايا والكؤوس والأعلام المثلثة التي يحصل عليها الفريق من الفرق التي يتبارى معها . وكان في وسطها صورة للإمام علي عليه السلام , حدق " كراش " في وجه عدنان الذي اخذ يتشاغل في غسل الصحون, وهو يتمثل الشدة والحزم , وبعصبية : هذي شنو الصورة اللي ابين الهدايا ؟!
عدنان : هذا ؟ ما تعرفه ها ؟! هذا الامام علي ابو الحسنين فدوه لاسمه .
كراش : اعرف , تكَول مالي علاقة بأي سياسة ؟!
عدنان : عمي على كيفك , البارحة شيوعي , اليوم شيعي , باجر صبي , شلون شغله هاي .
كراش : لعد هذي الصورة شنو؟!
عدنان : صورة الإمام علي , هذي هدية منتخب الكوفة , وشتريد تسوي سوي . (انفجر الأربعة الجالسين بالضحك)
وأكمل عدنان : وليكن بعلمك آني سني ابن سني , وأخاف متعرف آني ربع العركَ عندي يسوه ميت رادود . ويقصد تسميته لأكبر صورة لرئيس الجمهورية احمد حسن البكر معلقة في واجهة مدرسة الصويرة الابتدائية , والتي يرفع فيها يده اليمنى يحي الجماهير على طريقة رواديد اللطميات الحسينية , ويعرف بتسميته للبكر هذه اغلب اهل المدينة. احد الاربعة الجالسين بعثي انبطح على الطاولة من شدة الضحك .

فريق الجبهة تحول الى هاجس يقلق البعثيين في الصويرة , ويتابعون باهتمام جميع تفاصيل نشاطاته عسى ان يجدوا شيئا يمكنهم من حل الفريق , ولا يوجد في الفريق سوى ثلاثة رفاق شيوعيين فقط , من بينهم رئيس الفريق كمال جاسم اللبان . كان الفريق لا يقحم السياسة بين نشاطاته , وتشد لاعبيه روح رياضية عالية , كانت مهمة نجاح الفريق واستمرار تصاعد نشاطه الركيزة التي جمعت اهتمام كل اللاعبين , وكان بينهم البعض من البعثيين حاولت المنظمة الحزبية البعثية إخراجهم من الفريق , ولم تتمكن . جرت إحدى اللعبات مع احد الفرق البغدادية المهمة يوم 31 آذار عيد ميلاد الحزب الشيوعي العراقي , وحاولت المنظمة البعثية ان تستغلها للضغط على اللاعبين البعثيين كون اللعبة دعاية للشيوعيين وهذه خيانة للبعث , فلم يفلحوا . المنظمة لا يوجد عندها أي اتهام بشأن الشيوعيين وغير متأكدة من وجود علاقة تنظيمية لهم مع الحزب الشيوعي , شكلت فريق موازي له , وبذلت عليه كثيرا , وساعدت باقي الفرق الأخرى بسخاء , دون ان تتمكن من سحب اهتمام المدينة به , وأصبح تشجيع الفريق ابرز وسيلة للتعبير عن مجافاة البعثيين , وكلما زاد التشجيع او التبرع لوجبات طعام استضافة الفرق القادمة من بغداد او غيرها من المدن القريبة كان تعبيرا على الاحتقار وليس المجافاة فقط , مما دفع المنظمة للضغط على المتبرعين باتهامهم بمساعدة الشيوعيين للامتناع عن مساعدة الفريق . كانت المنظمة البعثية تتهم الحزب بأنه يصرف على الفريق , خاصة وان اللاعبين الموظفين كانوا يقدمون المساعدة لبعض اللاعبين المحتاجين , مثل أجور سفر , شراء ملابس , فتح دورات تقوية لطلبة الإعدادية في الفيزياء والرياضيات واللغة الانكليزية . والذي زاد الطين بلة ان اللاعبين البعثيين يقبلون هذه المساعدات بدون تحسس, كواجب تضامني بين أعضاء الفريق , وبالمقابل رفضوا مساعدات كبيرة من قبل المنظمة البعثية .

سرق في احد أيام التمرين كل ما يملكون في جيوب ملابسهم التي تركوها في غرفة نزع الملابس القريبة من ساحة التمرين , وفي المساء عند التقائهم , اخبر احد اللاعبين البعثيين رئيس الفريق : ان السرقة تمت من قبل الذين يريدون إنهاء الفريق . ويقصد المنظمة , ويقول انه متأكد من سرقتها من قبل احدهم ولا يستطيع البوح باسمه : الله ما يخلصني من الرفاق البعثيين . وفي اليوم الثاني عاتبه رئيس الفريق كمال بعد ان عرف هو الذي سرقها .
كمال : ليش ما كَلت محتاج وآني انطيك ؟!
اللاعب: والله خجلت , قبل أسبوع طلبت منك وانطيتني, وشعندك انت ؟ مال قارون ؟!
كمال : زين ليش ردتنه نتهم الجماعة ؟! اسكت مثل الآخرين , ليش تكذب .
اللاعب : ( ابتسم بخجل ) هو منو ايبوكَنه غيرهم ؟! بعدين آني ما كاذب , آني خره , آني بعثي .

عندما استلم البعثيون السلطة مرة ثانية , كان بينهم معتدلين حاولوا نقد تجربتهم الأولى , ولكن كلما تقدم ترسخ السلطة وازدياد مركزيتها تم تصفية البعض من هؤلاء المعتدلين , ووجد الآخرون أنفسهم مرغمين على الاندفاع مع موجة الولاء لدموية صدام , ذلك الولاء الذي صادر كل المكونات الحزبية الأخرى , وأصبح عنوان الإخلاص الوحيد للنظام او الاتهام بالعداء وثمنه الموت , والجميع أدرك هذه الحقيقة , الاعتدال يعني الخيانة .

لم تكن مشكلة البعثيين مع نجاحات فريق الجبهة , بل أرادوا ان يستثمروها وتحسب لهم , ويفاخرون بها عندما تحتسب النجاحات في توسيع القاعدة الجماهيرية للعبة , كانت مشكلتهم مع اسم الفريق ومن يقوده , وطرحت في احدى الاجتماعات : لماذا لا نعود الى الاسم القديم " فتيان الصويرة " ؟ والتأكيد على ذكر اسم المدينة في تسمية الفريق . وكان الجواب قاطعا في ضرورة المحافظة على الاسم . في مباراة تكررت بعد فترة قصيرة مع فريق المشتل الذي كان يقوده اللاعب الدولي نافع شقيق الملحن البعثي المعروف داود القيسي .
سأله داود : هذي الأيام صايرة علاقتك قوية بالشيوعيين ؟!
نافع : شلون ؟
داود : عدكم لعبة ثانية مع فريق الجبهة بالصويرة خلال شهر واحد ؟!
نافع : شنو يعني ؟ فريق الجبهة اغلبه بعثيين .
داود : تعتقد واحد يسمي فريق الجبهة غير الشيوعيين ؟!

اعتقل رئيس الفريق كمال اللبان أثناء الحملة الدموية على الشيوعيين عام 1980 , في المكتب الذي كان يشغله في مدخل نفق ساحة التحرير عند نهاية شارع الجمهورية , حيث كان يعمل مهندس في أمانة العاصمة , وبلغت عائلته بإعدامه عام 1985 .




 

 

free web counter