| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

الأحد 2/1/ 2011

 

إسماعيل حمه والنبل الفطري

تقي الوزان

عندما أعاد النظام الملكي عام 1949 محاكمة رئيس الحزب الشيوعي العراقي فهد ورفاقه الآخرين في القيادة , وأصدر عليهم الحكم بالإعدام , ونفذ الحكم بسرعة , كان الهدف من العملية هو إشاعة إلارهاب, وبالذات للقوى الثورية والديمقراطية في البلد , وللحد من تصاعد الاندفاعة الجماهيرية التي كادت ان تتحول الى انتفاضة شعبية . ورغم كل ذلك الجو البوليسي , يقول إسماعيل حمد الهماوندي , فانه رزق بولده البكر وسماه فهد , وكان موضع ترحيب حتى من قبل كاتب النفوس الذي سجل الطفل . كان يحدث صاحبه حسين الذي اخذ يتلفت مذعورا , خوفا من وجود احد البعثيين , بعد ان اشتكى له بهمس من كاتب النفوس الذي رفض ان يسجل اسم طفله عباس كما يرغب , وسماه صدام وقال له : شتريد بعد أكثر من هذا الشرف ؟! ابنك اسمه صدام حسين . رجاه ان يكون اسمه عباس لأنه ناذر للإمام العباس عليه السلام ان يسميه عباس إذا رزق بولد بعد البنتين . فأجابه : تبقون بهذي الخرافات ؟ دحمد ربك واشكره سميته صدام , باجر عكَبه تجيك هدية من السيد الريس , وسلمه الهوية .

إسماعيل أبو فهد خياط من الصويرة , والصويرة من المدن التي تعتز بتاريخها الوطني والديمقراطي المشهود , وكان لقربها من بغداد أثرا كبيرا في تطور الحركة السياسية فيها بشكل مبكر . ومن المفارقات ان الحركة الشيوعية نشأت فيها على يد احد أبنائها الإقطاعيين , وهو الشخصية الوطنية المعروفة المرحوم حسن النهر .

جرت العادة سابقا ان تحسب العائلة بأكملها على جهة سياسية نتيجة انتماء ابرز أفرادها لهذه الجهة , حتى وان كان بعض أفرادها ينتمون الى جماعة ثانية , وهذا ما احتسبت عليه عائلة الهماوندي نتيجة انتماء ابو فهد المبكر للحزب الشيوعي رغم انه لم يكن الأكبر بين أخوته . المدينة مثل أية مدينة أخرى , معرفة تاريخها مرتبط بمعرفة كبار العوائل التي شكلتها , والأحداث الكبيرة التي مرت عليها , والأشخاص المهمين الذين ساهموا في تشكيل الحياة العامة فيها . وأبو فهد رغم فقر حاله , واعتماده على مهنة الخياطة كمصدر عيش وحيد لعائلة كبيرة , وثقافته التي اعتمدت في الأساس على ما بذله من جهد ذاتي في تطويرها , إضافة لمساعدة رفاقه الذين كانوا يتخذون من محل عمله أشبه بالمقر ألدائمي , وكان زبونا دائما لسجون مختلف الأنظمة , جعلت منه احد الوجوه الاجتماعية التي يجري الارتكان إليها في معرفة التاريخ السياسي للمدينة . ولم يعرف عنه انه ترك المدينة أو زار مدن أخرى , عدا كركرك مدينة أجداده التي يزورها عندما يزعل مع أم فهد , وكان سفره محدودا لقضاء واجب اجتماعي كالأعراس في بغداد , أو الذهاب لدفن احد في النجف .

في بداية الأربعينات من القرن الماضي كانت الصويرة مدينة صغيرة , والجميع يعرف الجميع , والعوائل متداخلة فيما بينها في الكثير من العلاقات . يقول ابو فهد : منظمة الصويرة كانت أشبه بالعائلة الواحدة . والمسئولية التي يتحملها الرفيق ليست لعلاقة الرفقة فقط , بل تتعداها في دعم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية , وكثيرا ما يذكر المرحومة خنيسة والدة الرفيق المرحوم جبار جمعة الفيلي , كمثال لطيبة ذلك النسيج الاجتماعي المتكافل في اخطر الأمور , كانت المرحومة تحول يوم الاجتماع في بيتهم الى وليمة نفتقد حلاوتها في بيوتنا , كانت تزور السجون التي سجن فيها جبار مثل سجن الكوت والرمادي ونكَرة السلمان , ولا تأتي بحاجيات ابنها فقط عند المقابلة , بل بما تشعره في حاجة الآخرين , تأتي محملة بكل شئ وفي كثير من الأحيان البريد الحزبي أيضا , كانت لا تنقطع عن البعض حتى بعد إطلاق سراح ابنها جبار , كانت لا تترك من تشعر انه بحاجة الى زيارتها وقد انقطع عنه أهله . لم تكن أمنا فقط , بل أم لكل من عرفها من الرفاق .

مع اشتداد الهجمة على الشيوعيين عام 1979 حورب ابو فهد حتى في رزقه , بعد ان ترك مهنة الخياطة التي لم تكن في الأساس تسد حاجة العائلة , وفتح من بيته دكانا يبيع فيه ما تيسر من مواد غذائية واستهلاكية , وأصبحت الحركة محسوبة عليه في داخل المدينة , وتكاد ان تنحصر بين البيت والدكان , والتسوق يقوم به احد أبنائه . يقول ابو فهد : كان لقيام الحرب مع إيران الفضل في تخفيف الضغط علينا , والاهتمام الأكبر للسلطة ومرتزقتها اخذ يتوجه لمتطلبات إدامة الحرب .

كان يؤكد على ان المعاناة الأكثر إيلاما في زمن النظام الفاشي المقبور هو الحصار الإعلامي والثقافي , وفترات ليست قصيرة كان المصدر الوحيد لمعرفة تفسير الواقع هو ما تمتلكه من ثقافة شخصية فقط , تساعدك في مراقبة كيفية التفسخ الذي رافق الحرب واخذ ينخر بالنظام رغم زيادة بذخه من جهة , والإيغال في الدموية والتنكيل من جهة أخرى . كانت جميع الإذاعات العربية والأجنبية تطبل وتزمر للنظام بما فيها إذاعة موسكو , ونادرا ما كنا نلتقط إذاعة الحزب الشيوعي " صوت الشعب العراقي " وفي غفلة ممن هم من أفراد عائلتك . وبعد احتلال الكويت ومعاداة اغلب المجتمع الدولي للنظام ألصدامي, انفتحت علينا إذاعات الكويت وباقي دول العالم .

بعد سقوط النظام وانهيار الدولة العراقية , انفتح الإعلام على أوسع أبوابه , والكتب بجميع أصنافها , ولم يبقى شئ لم يكن موجودا في السوق . إلا ان أبو فهد أنهكته السنون , ولم يعد بتلك القدرة والإمكانية في متابعاته الثقافية , وقد اقتصر نشاطه على متابعة القنوات الفضائية التي أبهرت العراقيين بتنوعها في بداية التغيير , ومتابعة صحيفة الحزب " طريق الشعب " , وقراءة بعض الكتب , وكان آخر كتاب تمكن من قراءته " شهادة للتاريخ " للأستاذ عزيز الحاج .

يقول ابو فهد : ان الحاج كتب شهادته للتاريخ بعد عشرين عاما , وحاكم تلك المرحلة ليس بواقعها , بل بما استجد في هذه السنين من انهيار لمعسكر الدول الاشتراكية , وما تركه هذا الانهيار من كشف لنواقص العمل السياسي في الحركة الشيوعية العالمية , وجمع أسوء ما موجود من ترسبات العمل الشيوعي في العراق , لا بل وتنكر للكثير من الأعمال الوطنية المجيدة للحزب الشيوعي , وبالذات قيادته للاحتجاجات والانتفاضات الشعبية قبل ثورة تموز 1958 . لكي يبرر الانشقاق , ويخفف من وطأة الانهيار المريع الذي كشف عنه في ندوته التلفزيونية , وما تبعها من انعكاسات سلبية تركت آثارها الكارثية على مجمل العمل الشيوعي في العراق , والمذكرات كتبت بنفس أسلوب " أضواء على الحركة الشيوعية في العراق " التي أصدرتها الأمن العامة , ومن المحتمل أن يكون الحاج قد ساهم في تحريرها.

ويواصل ابو فهد : ليس غريبا أن لا يتطرق الحاج في مذكراته لذكر زوجته السيدة آمنة حسن النهر
وابنهم , لانهما تنكرا له بعد الانهيار الذي أظهره في الندوة التلفزيونية . والسيدة آمنة النهر شقيقة الشاعرة والأديبة حياة النهر , والصحفي نصير النهر , واستشهد اثنان من أشقائها , الأول معين وكان استشهاده في مقابلة مسلحة مع مفرزة امن في بغداد , والثاني ظافر الذي اعتقل مع ابن خاله في كردستان واعدما في بغداد . وشقيقها الأصغر هاني , واسمه الحركي احمد النهر تيمنا باسم احد أعمامه الذي أودع نكَرة السلمان عام 1963 وهو في بداية شبابه . واحمد النهر ( هاني ) رئيس " جيش التحرير الشعبي " , وهي منظمة سياسية عسكرية حاولت أن تواصل طريق " القيادة المركزية " , وكان مقرها في دمشق .

الأخلاق الكفوءة , والأمانة الحزبية , لا تأتي بالرغبة او بالتوجيه فقط , بل هي تمرين وممارسة طويلة , وفي كثير من الأحيان شاقة , للحصول على مرونة النبل والإيثار الذي يجعل أهمية العمل الجماعي أكثر جدوى من الرغبات الفردية . حالها حال الرياضة , بدون جهد ومثابرة على التمرين لن تستطيع الوصول الى اللياقة الكاملة في أية لعبة كانت , وعندما يترك التمرين لسنوات ستفتقد الكثير من هذه الإمكانيات . والشيوعي لا يختلف عن باقي أفراد المجتمع في تأثره بالشائع, إلا من تجذر عنده الحس الطبقي , والوضوح الفكري الكفيل بتفسير التردي والتحصن ضده . كان أبو فهد يتألم كثيرا حينما يرى البعض من الشيوعيين القدماء , الذين دفعوا أثمان غالية في التحايل وعدم الانجرار لفقدان الكرامة البشرية التي كان يطالب بها النظام الفاشي المقبور من الشيوعيين , كبطاقة تزكية لعدم عدائهم له , وهم الآن يمارسون أخلاقيات ذاتية لا تليق بحجم اصغر معاناتهم التي استمرت طويلا , ويطالب الجميع ان يكونوا مثله .


ان الحزبي الذي لم يمارس منذ فترة طويلة سعادة العمل الجماعي , والشعور ألرفاقي السامي , والاستعداد للتضحية بمصالحه الشخصية في سبيل مصلحة الجماعة , ويحب الحزب في ذاته , وليس الشعور بكونه يمتلك الحزب لكونه عضوا او كادرا فيه . ان امتلاك هذه الفكرة العظيمة والنبيلة , والهدف السامي , هما القادران على إقصاء كل ما من شأنه إفساد الحزب , كنزعات الأنانية وحب ألذات والحسد والعداوة وللامبالاة والمصالح التافهة . وحينما تناقش أبو فهد بهذا المنطق , للتخفيف عليه من وطأة المعاناة من التردي الحاصل , وهو في هذا العمر الذي تجاوز الخامسة والثمانين, يقتنع على مضض , لكنه يرجع ليؤكد : يبقى الأساس في الحليب الطيب .
ابو فهد وافاه الأجل في الشهر التاسع عام 2010 .
 



 

 

free web counter