| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الأثنين 28/3/ 2011

 

المخرج أكرم فاضل والحلم المغدور

تقي الوزان

في صيف عام 1977 تجمع عدد كبير من الشيوعيين العراقيين في بودابست عاصمة المجر , كان اغلبهم من محافظات الوسط والجنوب ومناطق متفرقة من بغداد , حيث اشتدت حملة النظام البعثي في ملاحقة الشيوعيين . كانت التقديرات متضاربة , فالبعض يعتقد ان النظام لن يكف عن استمراره في التنكيل الا بعد القضاء على الحزب الشيوعي, والذين في مناطق اقل سخونة يرى : إنها " جرت إذن " للحد من معارضة الحزب للنظام . ويشتد النقاش : اية معارضة للنظام ؟! الحزب لم يستطع إيقاف الهجوم الذي أصبح دمويا على الرفاق وفي أماكن متفرقة من العراق . وتتبلور دوامة النقاش في سؤال محدد : ما هو مستقبل العلاقة مع البعث ؟! ولا احد يستطيع ان يتبين حدود يستطيع ان يقنع بها الجميع , والحيرة سيدة الموقف .

كان أكرم من بين الذين فلتوا من مطاردة أجهزة النظام لسنوات وهو يعمل في أول الأجهزة التي عمل النظام على تبعيثها منذ بداية استلامهم السلطة وهي مؤسسة الإذاعة والتلفزيون, النافذة التي يستطيع النظام من خلالها إعادة تشكيل وعي الجماهير بقبول ( شرعيتهم ) كحزب وحيد يقود السلطة , وعبر مختلف أشكال الدجل والكذب الرخيص . واعتمد النظام لمسئولية هذه المؤسسة محمد سعيد الصحاف , الذي كشفت سنوات حكمهم الطويلة وبالذات فترة سقوط النظام الفاشي على أيدي قوات التحالف, وكم تمتلك هذه الشخصية من الصدق والأمانة وشرف المهنة في تعاملها مع العراقيين والعالم في توضيح الحقيقة ؟! كان مثالا حقيقيا لتجسيد خسة البعث وانحطاطه . يقول احد الفلاسفة : " ان الحيوانات تلد حيوانات .. أما الإنسان فلا تلده إنسانا بل تربيه ليصبح كذلك " . وهو تربية تراث البعث بحق .

كل من عمل في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون , وحتى في الوسط الفني بشكل عام , يعرف أساليب الصحاف , وكم هو مهموم في إسقاط الجميع تحت مظلة النظام , ولا يكتفي بهذا , بل يتابع الفنان في كل صغيرة وكبيرة لأعماله , ويحاول ان يضعه في حياة اقرب للروح العسكرية التي تمتثل لكل أمر , والويل لمن يستطع ان يمرر أي شئ خارج هذه الأطر .

أكرم فاضل كان من بين القلائل الذين استمروا في العمل والمحافظة على كيانهم المستقل عن إرادة هذا الغول , مما دفع الأخير لفرض رقابة صارمة عليه . هددوه عدة مرات في النقل الى دائرة غير فنية , وحاولوا الإيقاع به عن طريق فبركة كلام ملفق , حرموه من كل المكافآت والتعويضات التي كانت تبذل بسخاء لأعمال تفتقد لأبسط المميزات الفنية , عدى كونها تمجد وحل البعث . أرسلوا له فتاة جميلة , كانت ابنة احد المسئولين لزيادة الإيهام بأنها ليست من الساقطات اللواتي يستخدمهن البعث للإيقاع بالآخرين . كان متأكدا من نفسه, ويعرف انه أفضل مخرج برامج أطفال في التلفزيون , وهم بحاجة كبيرة اليه ولن يستطيعوا الاستغناء عنه .

أكرم فاضل من مواليد 1951 من أهالي البصرة , كان قبل قدومه الى بغداد يعمل مع والده في الخياطة لكسب عيش العائلة الكبيرة . قدم الى بغداد بعد ان قبل في اكاديمية الفنون الجميلة مع شقيقه الذي يكبره , اكرم في قسم الفنون المسرحية , وشقيقه ضياء في قسم الفنون التشكيلية وأصبح من الرسامين المعروفين في العراق . أكرم يمتلك وجه طفولي , وجسم رشيق , وصوت ممتلئ بالبحة الجنوبية المحببة , كان شخصية اجتماعية قوية ويفرض احترامه على الجميع , وبالذات مع الشخصيات الكبيرة , وهذا ما جعله في دائرة اهتمام وحقد الصحاف أكثر , كان يعتبره طفلا بذلك الوجه الطفولي والتلقائية التي يقابل بها أصعب الاحراجات .

كان أكرم يحلم بإقامة تلفزيون خاص بالأطفال , وبإيمان يؤكد بأنها اللبنة الأساس للنهوض بالمجتمع . كان اكرم لا يعاني أية صعوبة عندما يزور المدارس الابتدائية ويختار الأطفال لبرنامجه , كان الأطفال يحبونه كثيرا , ولا يسمونه إلا أكرم وهي الأقرب لقلوبهم , ولا يعتقدون انه عمو .

كان أكرم طيلة فترة الجبهة حريصا على ان لا يكشف انتمائه للحزب الشيوعي نتيجة الموقع الحساس الذي يعمل فيه , وحتى في حضور الحفلات الرسمية والتي تعج بالكثيرين من المثقفين والفنانين, كان حريصا على ان يحرم نفسه من لقاء آت الكثير من أصدقائه الشخصيين الشيوعيين . ولكن في السنة الأخيرة اشتدت عليه المراقبة وكثر الضغط , ولم يجد له سبيلا إلا بالسفر إلى الخارج . في بودابست التقى بأعضاء المنظمة الحزبية هناك , وكان على رأسهم الرفيق سلمان داوود الذي اهتم به كثيرا , والذي استشهد في طريق التحاقه بفصائل الأنصار في كردستان , ورغم اهتمام الجميع , إضافة لتواجد احد قيادي الحزب في بودابست , لم يستطع الحصول على منحة دراسية سواء في المجر او غيرها من الدول الاشتراكية .

كان الألم والحيرة تمزقه , ولكنه لم يستسلم , فأكرم مخرج تلفزيوني معروف , ويمكنه العمل في اغلب التلفزيونات العربية , ولكنه متردد في الإقدام على هذه الخطوة خوفا من ضغوطات في هذه التلفزيونات مشابهة لتلفزيون البعث. ترك بودابست وذهب الى لندن , لكي يلحق بعدم نفاذ المبلغ الذي تبقى لديه في ترتيب أموره هناك . وفي لندن تمكن من الحصول على عمل وعلى قبول لدراسة الإخراج السينمائي . بعد التخرج عمل في أحدى الشركات السينمائية البريطانية , وفي منتصف الثمانينات حصل على عقد لإخراج فلم سينمائي عن احد أنشطة الحياة في السعودية . وفي الطريق الذي يربط العاصمة الرياض بالمنطقة الشرقية تعرض لحادثة اصطدام أدت بحياته , ودفن هناك , وليخسر العراق مخرجا فذا , وإنسانا لم يتماهل قط في الحفاظ على نقائه وتطوير إمكانياته .







 

 

free web counter