| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

الأثنين 26/7/ 2010

 

حكمت حكيم والألوان الباهرة للراية الوطنية

تقي الوزان

مسيحيو شمال العراق , من الأقوام التي امتلكت تاريخ متواصل ومعلوم, منذ فجر التاريخ ولحد الآن , وبالذات الآشوريين والكلدانيين . وهم من أسس ما يعرف بالكنيسة الشرقية , التي امتد تأثيرها إلى وسط وشرق آسيا وروسيا . والتي تتلمذ في كنائسها الصحابي الجليل سلمان الفارسي , في بحثه الدءوب عن سر الوجود , والتبحر في أسرار الديانة المسيحية , ليلتحق بعدها بالنبي محمد ( ص ) في الجزيرة العربية , بعد أن شاع خبر دعوته للإسلام , ويصبح احد المقربين منه , ويثير حفيظة بعض زوجات الرسول لكثرة ما يجلس معه أطراف الليل يتناقشون في أسرار الديانات السماوية الأخرى . ومسيحيو شمال العراق ينتشرون في محافظات الموصل ودهوك وكركوك , وتاريخهم حافل بالمآثر الوطنية , وما التمييز والاضطهاد الذي مورس ضدهم من قبل السلطة الشوفينية البعثية إلا دلالة واضحة يراد منها تغيير هويتهم الدينية والقومية , والإبقاء على طارق عزيز وزيرا لخارجية صدام هو لذر الرماد في الأعين, ومغازلة الغرب المسيحي بعدم اضطهاد المسيحيين . هذا الواقع دفع البعض منهم لمغادرة العراق , والبعض الآخر انخرط في صفوف المعارضة الوطنية , وقد التحق هؤلاء الشباب بالقيادات المسيحية في الحزب الشيوعي العراقي , وعلى رأسهم العسكري الشهير توما توماس , الذي تمكن من تأسيس قاطع بهدنان للبيشمركَة الشيوعيين , ومقره في أرياف دهوك . وكان الرفاق المسيحيون احد الألوان الباهرة لراية الأنصار الشيوعيين , وسقط منهم الكثير من الشهداء والجرحى . كان قاطع دهوك صورة صادقة للتآخي الشيوعي من كافة القوميات والأديان, وإحدى بوابات الحرية وسط ذلك الظلام الصدامي الرهيب , ليتركوا تراثا نضاليا تتغنى به الأجيال , وكان من بينهم الدكتور حكمت حكيم .

أكمل ( أبو شهاب ) وهذا اسمه الحركي , دراسته العليا دكتوراه قانون في الاتحاد السوفيتي , وعمل أستاذ جامعي في عدن في جمهورية اليمن الديمقراطية سابقا . والتحق بقوات الأنصار الشيوعيين عندما تشكلت في كردستان , ونسب للعمل في الفوج الثالث في قاطع بهدنان , حيث كان القاطع يتكون من فوجين, والسرية الخامسة المستقلة , وسرية المقر , وفصيل المكتب السياسي الذي حمايته في عهدة القاطع .

كان لقاطع بهدنان شبكة تنظيمية مدنية كبيرة , تغطي مدن ونواحي كثيرة, وتصل لأطراف الموصل وأرياف دهوك . ومثلما كان للقاطع اختراقات لأجهزة الدولة والمؤسسات الأمنية , كان للسلطة أيضا محاولاتها الدؤوبة في اختراق التنظيمات الشيوعية في بهدنان أكثر من القواطع الأخرى . ففي قاطعي السليمانية واربيل , ركزت السلطة أكثر على كسب وخداع فصائل من المعارضة, تكون الوجه الثاني للجحوش الكردية أكثر من اندساساتها الفردية . أما في بهدنان التي أصبحت بوابة النظام العراقي لتصدير نفطه بعد استمرار الحرب العراقية الإيرانية , فكان التداخل اكبر, نظرا لكبر المساحات المنبسطة , وانتشار القرى الكردية والعربية والمسيحية واليزيدية وباقي المكونات الأخرى,أي لم تكن بوضوح التجانس الكردي مثلما في السليمانية واربيل , وهذا سهل لهم إرسال اكبر عدد من المندسين إلى صفوف المعارضة , وبالذات إلى تنظيمات الحزب الشيوعي , وهم يدركون الخطورة الحقيقية للشيوعيين على سلامة نظامهم , لكون الحزب الشيوعي يمثل كل العراقيين , ويعطي الطابع الوطني العام لكل المعارضة الكردستانية .

كان الواقع الأمني للمنظمات الحزبية والأنصارية في الفوج الثالث من المهمات الرئيسية , وفي كثير من الأحيان المهمة الأولى في العمل , وكان حكمت حكيم المسئول الأمني في الفوج , ويجري التحقيقات الواسعة للملتحقين الجدد , أو للضباط من عناصر امن ومخابرات النظام, يتم القبض عليهم من قبل مفارز الأنصار بالتعاون مع التنظيمات المدنية الحزبية , او في غارات سريعة على المواقع العسكرية والدوائر الحكومية ومقرات حزب البعث , وعادة يتم التركيز على الضباط ومسئولي الأمن ومن يرتكب الجرائم من البعثيين .

كان ابو شهاب يتمتع بذكاء استثنائي مع من يحقق معهم , وذاكرة يعتمد عليها بثقة , لحفظ سير التحقيق دون الالتجاء للورقة والقلم , مما يربك المقابل بسرعة تواتر الأدلة , ولا يترك له وقت لتنظيم أفكاره. كان يمتلك سرعة بديهية , وأسئلته وتعليقاته فيها الكثير من المشاكسة , وتخلق حالة من التوثب حتى بين رفاقه والبشمركَة . كان يبحث دائما عن شئ يشغله , كثير المطالعة , والتدخين . كشف اغلب الذين بعثهم النظام , وكان بينهم أبناء شهداء شيوعيين – ولا نستطيع أن نقول : كشفهم جميعا – فقد يكون هناك من لم يكتشف , او من استرجع ضميره واستمر بالعمل لصالح الحزب .

في إحدى المرات, التحق جندي عربي من أهالي بغداد , كان يعمل مراسل عند آمر سرية مشاة استقرت بالقرب من دهوك, التحق في صفوف البشمركَة بعد أن تمكن من إجراء صلة بأحد أفراد تنظيمات الحزب , وتمكن من الهرب مع بندقيته الكلاشنكوف, وثلاثة مخازن للعتاد . وطال التحقيق معه لأكثر من شهرين , وظهر الضيق على بعض البيشمركَة , لأنهم يخدمونه دون أن يشارك في الواجبات , إلا أن أبو شهاب أصر على أن لا تعطى له واجبات أمنية مثل الحراسة , ويبقى تحت المراقبة , خاصة وفي الفوج سجن كبير لعملاء ومرتزقة السلطة ... لوحظ عليه انه يحاول الاقتراب من السجن , ويعرف كيف يستفسر من بيشمركَة يظهر عليهم الغباء , ويغريهم بشراء علب (حلقوم) تركي , ويستدرجهم لشرب ( العرق ) المتوفر في بعض قرى المنطقة , كي تنفتح أفواههم بعد ان يسألهم , ويخبروه بأسماء السجناء . وبعد جلستين من الشرب تمكن ( الأغبياء ) من الإيقاع به , بإشراف أبو شهاب . وظهر انه ملازم ثاني مخابرات , جاء ليعرف من في السجن , ثم ينفذ خطة لتسميم وجبة غذاء مقر الفوج , بعد ان يستلم علبة ثاليوم من احد العملاء في المنطقة .

كان مقر الفوج الثالث يغص بالحركة اغلب الأيام طوال العام , بين مفارز ذاهبة , وأخرى قادمة , مفارز قتالية تنفذ واجبات عسكرية محددة , وأخرى تصل بعيدا عن الأراضي المحررة , لتختفي فترات قد تطول لأشهر في مناطق السلطة , لقضاء واجبات حزبية تتعلق بإيصال وثائق حزبية لقواعد في العمق , ويتم نقلها من هناك إلى بغداد وباقي المدن العراقية , أو إيصال رفيق يذهب إلى الداخل , أو لاختطاف احد القتلة من البعثيين , أو لجلب دواء ومواد أولية لاستخدامات الطوارئ . المهمات كثيرة, ومتنوعة , وكانت إحدى المفارز القتالية عادت بعد تنفيذ مهمتها , ومعها جريحين من الأنصار . رقدا في مستشفى الفوج الذي يتكون من غرفتين , قاعة صغيرة للمرضى , وأخرى للطبيب وباقي التجهيزات الطبية . كان احد الجريحين حالته خطرة , وتصدت للاعتناء به وتمريضه الرفيقة "دروك" , ودروك رفيقة مسيحية , من عائلة مطاردة من قبل النظام , ودروك فاضت طيبتها على جميع من كان في المقر , أو من يأتي ضيفا لبضعة أيام , ولا تجد سببا لوجودها إلا في خدمة الرفاق , والاعتناء الرؤوم بالرفيق الجريح جزء من رقة تكوينها . كانت الإصابة فادحة , وأخذت وقتا طويلا للشفاء , ونبتت بين الممرضة والجريح نبتة الحب الطاهرة , وعند تماثله للشفاء , فاتحها بالزواج , واستجابت برغبة مماثلة . وعند إعلان خطوبتهما , تصدى لها احد أقربائها , لكون دروك مسيحية والآخر مسلم . وحدثت شوشرة , واستعراض للرفض مبالغ فيه , وكادت الخطوبة ان تفسخ . الى ان جاء الرفيق ابو شهاب , كان خارج الفوج , والجميع بانتظاره, وهو صاحب الكلمة الفصل , لكونه مسيحي وقانوني . وعند التقائه بالذي رفض الخطوبة , حاول إقناعه بشتى الوسائل, وان لا فرق بين مسلم ومسيحي , رغم انه يدرك ما يقوله من تبريرات من كون المسيحيين قلة , وضرورة المحافظة على هذه القلة . وعندما عجز من إقناعه , سأله : ان فسخت الخطوبة , هل تتزوجها ؟! لم يجبه , ابو شهاب استغل كون دروك تعاني من تشوه في ظهرها (حدبة ) , وسأله هذا السؤال - وهو يعرف رفضه - وبعد أسبوع تم زفاف الخطيبين .

من المعروف ان المسيحيين من أكثر المكونات العراقية استجابة للتحضر , وفي نفس الوقت متعصبون لوطنهم الذي يسكنونه منذ فجر التاريخ , وهم متهمون بالطائفية ( العراقية ) أيضا , حالهم حال الأكراد الفيلية والصابئة المندائيين , لا كما صوره البعث وحثالات الفكر القومي في تفسير الهجرة المسيحية : على انه ميل للغرب المسيحي . وعندما شعر المسيحيون بتسرب هويتهم الدينية والحضارية من بين أيديهم , نتيجة الحروب, والحصار , واشتداد الإرهاب , وتجريد جميع مكونات المجتمع من خصوصياتها , وتحويلها إلى طبول وأبواق في جوقة تأليه صدام وحملته الإيمانية , وانسداد الأفق عن إمكانية أي تغيير , اخذوا يتسربون , حالهم حال الملايين العراقية التي أخذت تبحث في الغرب عن مكان يصون آدميتها , ويوفر لها لقمة العيش .

وعندما حدث التغيير وأزيح النظام الصدامي , و( تفجرت ) الديمقراطية , واخذ رذاذها يضرب في كل الاتجاهات , وكسر حاجز الخوف . تداخلت الكثير من المواقف , واختلطت المصلحة الشخصية بالمصالح الوطنية , وأصبح الدرك عنوان المستنقع الذي سقطت فيه الحركة السياسية , حتى بات البعض من حثالات النظام المقبور ومرتزقته يدّعي النضال , والوقوف بوجه صدام , لأنه هرب في السنوات الأخيرة من عمر النظام , بعد ان وجد لا شئ يمكن ان يغتصبه مثلما كان سابقا . ليجد التأييد والاحتضان لدى بعض الأحزاب السياسية المتنفذة , وتدفع بهم للواجهة الأمامية في تصدر المشهد السياسي . هذا حال جميع العراقيين , ولا يستثنى منهم المسيحيون , هذه المأساة التي كَوَت خيرة العراقيين الحقيقيين , تجد من مصلحتها تشويه التاريخ الوطني الناصع لحكمت حكيم وأمثاله , من الذين يعرفهم العراقيون جيدا , كونهم لم يكتفوا بالدفاع عن حقوقهم الدينية والقومية فقط , بل رفعوا راية العراق عاليا , ليدفنوا في ظلها , ويصبحوا احد علامات الطريق الوطنية .





 

 

free web counter