| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الخميس 25/7/ 2011

 

بالأبيض والأسود

تقي الوزان

انتهينا للتو من التمرين الأخير ( جنرال بروفة ) , وبعد ساعتين سنقوم بالعرض الأول للمسرحية . أخذنا نتفحص اللوحة الجميلة التي رسمها أبو أيار كخلفية للمسرح , وهي لا تتناسب مع أحداث المسرحية الواقعية التي تتعرض لمتابعة شيوعي يعتقل , ويواجه أساليب التعذيب الفاشي للبعثيين . اغلب مساحة اللوحة كتل رمادية تتفاوت في شدتها , وتشعرك في بعض ضربات الفرشاة بثقل اللون الرصاصي وما يتركه من وحشة وبرودة تلتصق بالعظام , وعند الأفق تتمازج بقع بين الأحمر والأصفر , ولا يعرف هل انه فجر , أم غروب يتبعه ليل دامس . اليوم فقط رأيت اللوحة قبل التمرين ولا أريد أن اخبره بأنها لا تتماشى مع واقعية المسرحية رغم جمالية التجريد والرؤيا العامة التي تحتويها .

أبو أيار ممثل رئيسي في المسرحية , وهو رسام , وهذه المرة الأولى التي يمثل فيها , ولولا إلحاحي عليه لما قبل أن يمثل . لا أريد أن أوضح له الخلل ولم يبق على العرض الا القليل خوفا من ان ينعكس على أدائه . ركزت في الحديث معه على هارمونية اللوحة كلوحة فقط .

روبرت وهو ممثل رئيسي في المسرحية أيضا , يتحدث مع الممثل الآخر أبو طالب بصوت أراد به أن يسمع الآخرين وبالذات أبو أيار : آني هاي اللوحة كلش عجبتني , شوف هاي اللطخة الجبيرة شلون محنفشة على ذني الزغار .

أبو أيار يضحك : تبقى متخلف , أنت متوسطة ما عندك تريد تفتهم لغة الألوان ؟

روبرت يفرح لتواصل أبو أيار معه : الله عليك , هذا الخط الأحمر والأصفر مو قصدك حبل سري طالع من بطن الغيمة .

أبو أيار : لا , من بطن ... .

روبرت : هسه أمي شنو علاقتهه ؟ لو متقبل نقد .

أبو أيار : جماله يكًول نقد ؟! لك أنت فهم علم .

روبرت : على كيفك بس لا تصير عصبي , قصدي لو آني راسمهه مو أحسن من هذا التلطخ مالك , وجماله خريج ايطاليا.

أبو أيار يندفع إليه وروبرت يهرب خارج القاعة .

يقول روبرت : أهم شي بالمسرح هو التمثيل . الديكور , الموسيقى , الإنارة , الملابس , كلها هيج . المهم الممثل شلون يقنع الجمهور بتمثيله .

روبرت واسمه الحقيقي ( خليل أوراها ) في منتصف العشرينات , شعر اصفر , وعيون خضراء . عنده مشهد صامت يجسد فيه درجات متفاوتة من الألم , دوره شيوعي تحت التعذيب الوحشي للبعث , وبالذات عند تسليط الضوء على ردود فعل الجسم لعذاب مرور التيار الكهربائي , وخاصة إذا كان الجسم يحتوي على قطعة بلاتين , الخوف , التشنج , الهزات المرعبة , فقدان الوعي , جحوظ العينين , العودة المتقطعة للوعي , التواءات الألم , الزبد , نزيف العرق . ثم تكرار إيصال التيار . كلها تتطلب مرونة جسدية عالية , وهو ذو قامة قصيرة , مربوع أشبه برافعي الأثقال . يتدرب خارج التمرين مع نفسه , يسألني عن أدق التفاصيل , يحاول ان يساعد الممثلين الآخرين في تفاصيل حركة أي واحد منهم .

يقول : ان نجاح أي ممثل من نجاح المسرحية .

سألته : كيف تكوّن عنده هذا الاهتمام وهذا الإلمام بالحركة ؟

روبرت : آني هل واحد لامي , فتحت عيني على الشغل , تنقلت بعدة أعمال لذلك تشوفني اعرف حركات عدة أشغال , خياط , عامل بناء , خباز , طباخ , يومية شكل . جنت ابوك من اليومية قبل ما أسلمهه لامي , حتى أروح لشارع الوطني أشوف فلم , تعرف السينمات بالبصرة بس بالوطني .

نبهني أبو طالب للإسراع بالذهاب الى غرفة الإعلام في الفوج للقاء المشاركين في المسرحية , كلقاء أخير قبل العرض نتدارس فيه الإشكالات التي يمكن ان تحدث . والمسرح في البيشمركَة مسرح يفتقر لجميع المكونات الفنية , ويعتمد فقط على المبادرات الشخصية , والتركيز يجري على أداء الممثل , ورغم وجود طاقات تمثيلية جيدة الا ان الجميع ليسوا ذوي اختصاص , شيوعيون يحبون الحياة والثقافة والخير .

مقر الفوج الأول في قاطع بهدينان لأنصار الحزب الشيوعي في وادي مراني المعروف بكثرة أشجار الجوز العملاقة , وهو احد منحدرات جبل كَاره , وغرفة الإعلام تقابل قاعة نوم الرفاق التي سنعرض فيها المسرحية .

في الإعلام وجدنا الرفيق هجار , وهو آمر فصيل بصحبة عضو لجنة الإعلام في الفوج الشاعر الشعبي أبو رعد (كامل الركابي) , ومعه في اللجنة الرسام أبو أيار ( فؤاد يلدا ) , وأبو طالب ( الشاعر عبد القادر البصري ) .ابو طالب اسمر طويل , ونحيل , من أهل البصرة , خريج كلية العلوم كيمياء . وقد وعد الرفيق هجار ان يأخذ له صورة فوتوغرافية .

هجار : صار أكثر من نص ساعة احنه ننتظرك , تمام أبو رعد .

أبو طالب : آني ما مواعدك اليوم .

هجار : اعرف , بس آني مستعجل عليها .

أبو طالب : ممكن باجر الصبح .

هجار : مثل ما كَتلك , نحتاجهه لشغله مهمة .

ابو طالب بتوتر : عزيزي شنو الفرق إذا هسه وإذا باجر الصبح ؟! لازم احضر الغرفة والإنارة , اقل شي فد نص ساعة وشوفنه شكَد تعبانين , والمسرحية بعد شويه نعرضهه .

هجار : اهو , عشر دقايق ما تاخذ منك , مو دا أحاجيك بالعربي , يعني الا تريد تعرف الشغلة ؟!

ابو طالب يكاد ان يفقد أعصابه , التفت , لم يجد الرفيقة التي معنا في المسرحية , أدار ظهره لهجار , نزع الشروال واللباس , وانحنى .

وقبل ان يدرك هجار حركة أبو طالب , روبرت بسرعة : ابتسم , ابتسم , هذي الصورة بالأسود والأبيض , الثانية راح نأخذها ملونة , أتحضر أبو أيار .

ضحك أبو أيار بصوته الخشن وهو نادرا ما يضحك , أبو أيار من أهل الموصل , أشقر , بشرة حمراء , وعيون زرقاء .

أجاب : آني ما افتح الأستوديو مالي إذا ما أتأكد من ابتسامة هجار .

روبرت انب أبو أيار كثيرا , وختمها : لو ما أنت ما صار هذا الجنبش .

أبو أيار : آني شنو علاقتي .

روبرت : الصورة بالأسود والأبيض ماجانت واضحه , هو طمع بالملونه .

محاولات روبرت بتحويل ( الجنبش ) إلى مسخرة لكي يمتص غضب أبو طالب الذي تحمل القسط الأكبر من ثورة هجار لم تجدي نفعا . حاولت أن أثير بعض الأسئلة بشأن العرض , خاصة وان بعضهم يشترك لأول مرة بعمل مسرحي , وتتنازعه مخاوف جادة بعد ان وجد عملية المعرفة المسرحية هي ليست تقليد شخصيات فقط كما يتصورها البعض , كررت تذكيرهم , وبالذات روبرت , بان العواطف الجياشة يجب ان تظهر في الفن بشكل مهذب , ولا تطلق المشاعر الا بالقدر الذي تتطلبه فكرة المسرحية .

ظل أبو طالب ساكتا , ومنكمشا , ولم يساهم بكلمة واحدة تجعلني اطمئن لوضعه .

عند الباب سألني روبرت : أشوفك قلق ؟

أجبته : القلق مو بس على المسرحية , الأكثر على ابوطالب , هو عصبي النوب أجه هجار , وهو بالأساس الحفظ عنده ضعيف .

روبرت : آني حافظ كل حواره , آني اذكره إذا نسه .

أجبته : بينكم وبين الجمهور متر , ما عندك مسرح نظامي حتى تتلافى بعض المشاكل بدون ان يشعر الجمهور .

رغم بعض العثرات إلا ان العرض بدأ مؤثرا , وسرعان ما حبس الجمهور أنفاسه .

تؤكد بلقيس ( هند ابنة الشهيد وصفي طاهر ) وهي تمثل زوجة الشيوعي الذي سقط في قبضة البعث : كنت في البداية خائفة , كيف سأواجه الأنصار بشخصية غير شخصيتي ؟ وهل سأنجح ؟ لكن بعد دقيقة او دقيقتين او خمسة دقائق , لا اعرف , هدئت وأخذت أنفذ تفاصيل الدور .

وفعلا تداخل هدوء بلقيس بعنفوان رفض مرارة الظلم لزوجة المناضل . الوسائل الفنية التي نستخدمها كانت بسيطة وبدائية , الملابس نفسها ملابس البيشمركَة عدا ملابس الممثلة التي استعارتها من عائلة احد الرفاق تسكن بجانب المقر , المؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية مسجلة على بكرة كاسيت وأي خطأ يجعلها عديمة الجدوى , الإنارة بعض الشموع والمصابيح اليدوية .

في البداية اخذ المسجل يتباطأ , والمصابيح اليدوية خف توهج ضوئها , وسيعيق خلق الظلال التي هي جزء مهم في تكوين بعض المشاهد . الاثنان المسجل والمصابيح ركيزة المشهد الصامت الذي تنتهي به المسرحية , استبد بي القلق , أبو طالب كان متوترا منذ البداية , وأكثر بقليل مما يتناسب مع دوره كضابط امن يحقق مع المناضل روبرت , لم يتلكأ في الحفظ , بعدها اندفع مع روبرت في الكشف عن تفاصيل الصراع بحيوية اكبر بكثير من التمرين , قريبين من الجمهور واستفادا من تعبير الوجه التي يراها الجالسون بوضوح . صوت التنفس السريع لروبرت وهو تحت التعذيب , وزمجرة ضابط الأمن يسمع في كل القاعة . المسجل توقف , المصابيح اليدوية توقفت . الفنان التشكيلي أبو بسام ( ستار عناد ) كان يصور العرض , ازدادت ضربات الفلاش عنده , وفي تلاحق اخذ الصور نرى كيف يحاول روبرت التغلب على مأزقه, كان يتلوى من الألم , أراد أن يبصق على الضابط وهو يكاد أن يغمى عليه . الضابط ازدادت وحشيته في الضرب , لحظات , توقف اخذ الصور , وفي الظلام الدامس سمعنا شخرة روبرت .

نجاح العرض جعلنا ننسى الكثير من النواقص , ورغم مرور ربع قرن لا اعرف لحد الآن هل ان أبو بسام عندما استخدم الفلاش بهذه الكثرة أراد التعويض عن فقدان تأثير المصابيح اليدوية , أم انه أراد تغطية المشهد المؤثر بأكبر عدد من الصور ؟

احتفاء الأنصار بالممثلين أزاح الكثير من القلق الذي كان ينتابهم قبل العرض , أبو أيار رغم جديته كان أكثر انتشاء , وبذل جهدا ليس بالقليل كي تكون حركته وإيقاعه أسرع من عادته الحياتية وأكثر خفة , ويتبعها باستجابة عقلية سريعة وحوارات أسرع , وجميعها بعكس شخصيته المعروفة مما أثار إعجاب الجميع .

أبو أيار : فرحت ليس بالنجاح فقط , بل بالوفاء للأمانة التي تحملتها في تمثيل الدور .

هجار احتفى بالممثلين أكثر , أراد تعويض ثورته عليهم , وزاد بان دعاهم على ثلاثة علب لحم هوش يقدمها لهم في غذاء اليوم التالي , وأضاف : عاشت اديكم وفعلا بيضتوا الوجه .

روبرت : هاي بدون موسيقى وملابس وإنارة وديكور .

أبو أيار مقاطعا : يعني كسر بجمع , عرضنه بالأبيض والأسود .

هجار : اهو , لك اعرف راح أموت وما اخلص منها .

انصبت تعليقات روبرت وأبو أيار وأبو طالب بعد ان هدأت الشحنات بنجاح المسرحية على ( مدير الإنتاج ) كما يسمونه , وكيف ان ( بخله ) بعدم شراء بطاريات جديدة تسبب بحرمان العرض من الموسيقى والإنارة . والمقصود إداري الفوج أبو حازم , والرفيق أبو حازم حاله حال اغلب الإداريين في القواطع والأفواج والسرايا , يكون حرصهم على أموال الحزب اكبر من حرصهم على أنفسهم , وتأخذ في كثير من الأحيان شكل مبالغ فيه .

انتبه أبو طالب : متشوف, حتى ما أجه هنانه .

استشهد فؤاد يلدا - أبو أيار يوم 12/9/ 1988 بالقرب من قرية ميزي في حملة الأنفال الفاشية , بعد ان استنفذ عتاد بندقيته الكلاشنكوف واستمر يقاوم بمسدسه الشخصي , وعندما طوق بالكامل لم تبق عنده غير طلقة واحدة أنهى بها حياته .

خليل أوراها - روبرت استشهد ليلة 23/24 / 7 / 1987 في معركة ضارية مع الجحوش .


 


 

 

free web counter