| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الجمعة 24/6/ 2011

 

سليل البروليتاريا

تقي الوزان

تلفت في المكان , سُرت عدة خطوات , ولم أجده , يبدو انه لم يصل لحد الآن رغم ان الساعة تجاوزت الثامنة والنصف وهو موعد لقاءنا . عدت إلى بائع الشاي الذي وجد فسحة صغيرة بجانب معرض موبيليات الإخوان ليجعل منها مقهى يبيع فيها الشاي على الواقف , وهو المكان الذي واعدت ثابت فيه. المكان فيه حركة دائمة ولا يلفت النظر إليك حتى لو انتظرت لفترة أطول , مقابل صاحب الشاي منطقة وقوف باص مصلحة نقل الركاب , والصالحية معروفة بمعارضها الجميلة والأنيقة , في جهة الشارع المقابلة مقهى الفنانين الذي يتواجد فيه اغلب الممثلين العراقيين المعروفين لكونه بجانب مبنى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون , التي يقابلها وبمحاذاة نهر دجلة ملاهي راقصة , كان أبرزها ملهى ليالي الصفا الذي كان يرتاده صدام واستعرض أولى شقاواته فيه قبل أن يستلم البعث السلطة ويصبح نائبا للرئيس ثم الرئيس .

أين ذهب ثابت ؟! هذه ليست من طبيعته خاصة في مثل هذه الأيام . واعدته هنا كي اصطحبه معي إلى صديقنا جليل الذي سيسافر الليلة إلى تركيا في إحدى شركات النقل عند نهاية الشارع . جليل لا يعرف ان ثابت سيأتي معي لتوديعه , وقد يرفض إن عرف , أرجو أن لا اندم على هذا التصرف . بامكاني الذهاب وحدي لأنه تأخر , وهو لا يعرف بموعدي مع جليل ولا بسفره . ولكن , كيف سأواجهه بعد كل عشرة العمر هذه حتى لو عرف بعد سنوات ؟!! كيف سأبرر له تخوفي منه ؟! وهو الذي دفع كل هذا الثمن الباهض .. ولم يبق احد غيري يستطيع أن يدرك عمق نقائه ومعي جليل كما يعتقد . أنا مدين له بسلامتي , ولا اعرف كيف سأصمد لو كنت مكانه . جليل اختفى منذ عدة اشهر , لا احد يعرف بمكانه , ولا أنا إلا من خلال ما يضعه هو من مواعيد .

اشعر بالضيق , فات الوقت كثيرا , رفعت يدي وحدقت بساعتي , إنها متوقفة على السابعة والنصف وظننتها في الثامنة والنصف , نظرت إلى الساعة التي فوق مكتب بائع الموبيليات , وجدتها تشير إلى الثامنة , لايزال باقي نصف ساعة . طلبت قدح شاي آخر , أربعون يوما قضاها ثابت تحت وطأة أساليب فاشية الأمن العامة , وأصر على انه لا يعرف غير مسؤوله الذي سافر إلى الخارج وعلاقته فردية به , اعترف عليه أخوه الصغير واثنان معه , كانوا خلية الأعضاء التي يقودها . عجزوا منه , وأطلقوا سراحه بعد أن وقع لهم على تعهد بان لا يعمل مع الحزب الشيوعي مرة أخرى . وعندما دخل علينا في دائرة طابو الرصافة التي نعمل بها سوية , كدت أن لا اعرفه لما حصل له من ذبول . طلب مني أن لا التقي به لبعض الوقت , استعاد صحته بسرعة , وعادت حيويته وتعليقاته الساخرة .

اطمئن أكثر عندما فهم ان التنظيم لا يزال مستمرا . أردت أن اعرف كيف تم التحقيق معه ؟؟ لم يشكو , ولم يبرر رغم الجرح الذي أحدثه التعهد , والتقطت منه نظرة حانية وفخورة لسلامتي وسلامة الآخرين. سألته عن التعذيب , لم يجبني , تهرب وحاول نقل الحديث .

أكدت له : إني لا أخاف من الموت , لكن التعذيب .

قاطعني بشدة : كلنا نقول هذا , كلنا نخاف من التعذيب وليس وحدك . لا تعطيه كل تفكيرك حتى يكون هو المشكلة الوحيدة , حط أمام عينك فقط : شنو الما يعرفوه؟ اليعرفوه راح, والما يعرفوه تحافظ عليه . وهو الطريق الوحيد اللي أتحافظ بيه على نفسك . الخيانة مو بالتعهد , لكن اكو ناس فرحوا بتوقيع التعهد حتى يبررون رعبهم وكشفهم لكل شي يعرفوه .

كان واضحا بشكل قاطع , ولم يترك لي إعادة تدوير عشرات الأسئلة التي تعذبني . مطاردة الشيوعيين تشتد أكثر يوما بعد يوم , ومع كل يوم جديد تزداد الفجوة مع الآخرين , ويزداد توحدك في مواجهة المجهول . لا اعرف هل إن كلامه دفاعا عن وضعه الذي يشي بأنه نجح رغم قسوة التعهد , أم انه توصية لي كي لا انزلق وأخون مثل آخرين إذا قبض عليّ ؟ كلامه منحني دفقة من الاسترخاء طمعت باستثمارها أكثر , فقلت : طلعت فعلا سليل البروليتاريا .

ضحك وقال : شكد مشتاق لسوالفه , هواي أتسلم لي عليه إذا التقيت به . ويقصد جليل .

كان والد ثابت يعمل ( مدلكجي ) في احد حمّامات الكاظم , وبعد ان تخرج ثابت من الجامعة وحصل على عمل , أراد أن يريح أباه من صعوبة هذه المهنة , ومثلما اخبرنا ثابت إن والده ينظف أرضية الحمّام ويعزل المناشف ولا يأخذ أجور من مالك الحمّام , أجوره فقط من إكرامية الشخص الذي يدلكه , مثل صانع الحلاق , وعز عليه أن يستمر والده بهذا العمل . فطلب من والده أن يتقاعد ويستريح , إلا ان والده رفض وطلب من ثابت أن يهتم بنفسه ويجمع جم فلس لزواجه .

ثابت : بابه لخاطر الله , بعد ما أتحمل أشوفك تشتغل هيج شغله .

والده : أها , كَول من البداية آني استنكف من شغلك , بعد ليش اتكَلي صرت جبير وتعبت . لك شوف هاي شغلتي ألما تعجبك وكَمت تخجل لان أبوك يشتغل بيها , هي اللي عيشتك وسوتك رجال , وخلتك تدرس وتكمل جامعة , وما خلتك تمد أيدك على واحد .

ثابت : أهوه , يومية هل قوانه , ما خلتك تمد أيدك على واحد , سوتك رجال . يابه والله ما استنكف منها وما ناكرهه , بس رحمه لأهلك قابل دتشتغل جراح , وأخاف المرضى يفتقدوك ؟ اكَعد والعيشة راتبي موجود .

والده : لك والله من أشوف الفرحة بوجه الزبون وهو يشوف أبعينه شلون اطلع فتايل الوسخ منه , أطير من الفرح , الحمّام بعد ما يلمني .

ثابت : كَرة عينها للبروليتاريا .

والده : أنجب واحجي عدل .

ولا نعرف بعدها هل قذفه بالنعال كالعادة والشتائم تلاحقه وهو خارج من البيت , أم خرج سلامات .

وعلى أثرها جليل يلقبه بسليل البروليتاريا .

في الموعد تماما وصل ثابت , طلبت منه أن نذهب بسرعة لمكاتب السفريات التي تقع في نهاية الشارع كي نلحق بأحد الأصدقاء الذي سيسافر الليلة الساعة التاسعة , ولم يبق إلا نصف ساعة . لم اخبره باسم جليل أو توجهه إلى تركيا , ولا باسم شركة النقليات , وهو كعادته لم يسألني من يكون الصديق ؟ سرنا بسرعة وخلال خمسة دقائق وصلنا مكاتب الشركات . طلبت منه أن ينتظرني , وذهبت ابحث عن جليل ... بعد أكثر من عشر دقائق عدت وأخبرته بأنني لم أجد الصديق . عدنا صامتين , وفي الطريق اقترحت عليه أن نجلس في بار الخضراء , رحب بالفكرة .

مقابل الخضراء اقترح أن نعبر جسر الأحرار ونجلس في بار شريف وحداد الذي يقع عند مدخل الجسر من جهة شارع الرشيد .

عند صعودنا الجسر سألني : لماذا رفض أن أودعه ؟!

سألته وقد صعقت : من ؟

ثابت : جليل .

سكت , سألته : كيف عرفت ؟

ثابت : رأيتك تحدثه في مكتب شركة العكَيلي . والذي آلمني أكثر هو سرعة عودتك قبل أن تكمل توديعه وتتحرك السيارة , كان بامكاني أن انتظر لعشرة دقائق أخرى .

سكت , اشعر بالإدانة , تواطئي مع خوف جليل جعلني اشعر بالخزي , ناكر جميل . رغم انه يشعر بالضعف , ولكن من منا يمكن أن يكون بصلابة موقفه ؟! من يعرف ؟!

حاولت أن ادفع الشبهة عن موقفي : جليل حقه , الخوف ما يخلي واحد يشوف زين , وأنت تعرف أي خطأ مهما يكون بسيط ممكن أن يؤدي إلى كارثة .

أجابني : آني ما اعتب عليه , أنت ليش وضعتني بموقف يجرّحني ؟!

في البار , وبعد نصف ساعة . نظر في عيني مباشرة , سقطت دمعة من عينيه , انحدرت من وجنتيه إلى شاربيه , مسحها .

بصوت يتكسر بالعبرات : بالسلامة .. ( نظر إلى ساعته ) هسه ارتاح , طلع من سيطرة التاجي .

أشرت له أن يغير الموضوع , الجالس معنا يمكن أن يسمع أي شئ نتحدث به , كان البار مزدحما , وكل طاولة تحتوي أربعة مقاعد , استأذن بأدب وجلس معنا على الطاولة .

ثابت : كل عريس بعد أن شاف كل هذا المرار والتعب , يستحق أن نحتفل بزواجه , واليوم جليل أزفه بدموعي , بروحي , بكل ما املك .

أجبته : هو راح يتزوج , المفروض تفرح .

ثابت وهو ينهض : وشمدريك آني ما فرحان ؟ كل إنسان يفرح بطريقته , وآني دموعي هي هلاهلي .

ناديت على العامل ودفعت الحساب , عاد ثابت من المغاسل , تأبطت ذراعه وخرجنا .

في شارع الرشيد , قال : من التقيت بيك وخبرتني نروح نودع صديق , عرفت جليل , ما عدنه غيره , فرحت , فرحت لان حصل على جواز وراح أيسافر ويسلم على نفسه , وفرحت لان راح أشوفه وأودعه, بس الفرحة ما كملت . ( يتحشرج صوته ) لك والله ما استاهل , هو يعرف شنو اللي شفته وما خليتهم يعرفون منو انتوا ؟! آني , آني ما رايد احد يشكرني , لكن لازم تعرفون انتوا هنا ( يؤشر على قلبه ) واللي يريد يعرفكم لازم يفتحه للكَلب .

أردت أن اخفف عنه المرارة فسألته :اشو كَمت تحجي آني وانتوا ؟ أنت تبقه واحد من عدنه , والشريف شريف حتى لو تحطه بالميدان .

أجابني بألم : أني ما أريد واحد يواسيني لو يعطف عليّ , آني كلش زين اعرف وين واكَف . بس أني قلق , قلق عليكم , أبوس أيدك حاول أن تطلع بأي طريقة , لا تبقى , ذولة وحوش , والله العظيم الوحوش أكثر رحمة منهم , على الأقل الوحش من يشبع بعد ما يهاجمك , بس ذولة ما يشبعون . آني ما خسران شي , لكن إذا لزموك هي هاي الخسارة , يقتلوك , والله يقتلوك , لا تكَلي آني ما أخاف من الموت , المشكلة منو يبقى ؟؟؟ شلون راح نبقى عايشين إذا ما أنأمن انتو باقين .

قبل أن أودعه , حضنته , وطمأنته بأني سأخرج في الأيام القادمة أيضا , قبلته وشددت على يديه , وفارقته . وعلى الضوء الخافت لمصابيح شارع الرشيد تابعني بنظره إلى أن اختفيت .

كنت قد تركت الدائرة واختفيت بعد أن اشتد الضغط علي , وبعد فترة قصيرة تمكنت من الوصول إلى مناطق الأنصار الشيوعيين في السليمانية عن طريق بعض المعارف . كانت المفارز في بداية تشكيلها , والصعوبات كبيرة جدا , وكلفت بالنزول إلى بغداد لقضاء بعض المهام . لم أتمكن من الالتقاء بثابت , إلا إنني عرفت إنهم أخذوه جيش شعبي في بداية الحرب مع إيران , وفي إحدى المعارك أصيب بساقه , وكانت إصابته كبيرة , وعلى إثرها أحيل على التقاعد ولم أكن اعرف أين بيتهم . جليل أكمل دراسته العليا في الاتحاد السوفيتي السابق والتحق بالأنصار عام 1986 , ولم أتمكن من الالتقاء به في كوردستان , كان هو في قاطع بهدنان وأنا في قاطع السليمانية , وعند اجتياح صدام لكردستان المسمى بالأنفال, خرجت أنا إلى إيران , وهو إلى تركيا ومنها حصل على اللجوء في السويد .

بعد سقوط النظام بأربعة اشهر عرفت بقدومه إلى بغداد بعد أن سأل عني وترك لي رسالة في مقر الحزب في الأندلس . ذهبت لزيارته , وكانت المفاجأة ان وجدت ثابت عنده , بعد خمسا وعشرين عاما بالتمام والكمال . كان مع ثابت ابنه البكر عماد الذي تجاوز العشرين من عمره , وعماد لا يختلف عن والده في الأريحية والتعليقات الساخرة , كان يقوم بخدمة الضيوف الذين يأتون لزيارة جليل وكأنه واحد من عائلة جليل . أحاديث كثيرة , استرجاعات , ذكريات , وعرفت ان ثابت عنده ثلاثة أولاد وبنتين , وهو وابنه عماد يعملون في إحدى منظمات الحزب في الرصافة .

قلت : على الاقل صارت عندك عائلة , آني وجليل حتى ما تزوجنا .

ثابت : لان انتو مو سليلي البروليتاريا .

ضحكنا وسألته عن والده : ماذا حل به ؟

أجاب : وافاه الأجل بعد ذهابكم بفترة قصيرة . وأضاف : حرامات ما بقى وشاف نهاية صدام, جان هواي فرح بجلود البعثيين الثخينه .

وقبل أيام قابلته في احدى مظاهرات ساحة التحرير, فعلق: آخ لو الوالد باقي لحد الآن , جان شاف الفتل مال الجماعة , ذوله مو فتل عدهم , حبال , حبال مال وساخة .





























 

 

free web counter