| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الجمعة 22/7/ 2011

 

مشكلتي مع ابني

تقي الوزان

مدخل البيت يرتفع عن الشارع قليلا والبوابة تكفي لدخول شاحنة صغيرة الحجم , وعند الدخول تظللك قمرية عنب توصلك إلى طارمة وضعت فيها أريكتا خشب وبعض الكراسي جلس على احدها شاب ملتحي يحمل بندقية , ترك الكرسي عند دخولنا ووقف عند مدخل البيت . لم يمض وقت طويل وعاد الذي اصطحبني وقد تغيرت سلوكيته بالكامل واخذ يعتذر لأنه لم يعرفني , وبدل البندقية يحمل صينية فيها استكان شاي وقنينة ماء وضعها على الطاولة الصغيرة أمامي , وسألني ان كنت ارغب بشئ ؟

شكرته , وأكدت : أريد فقط أن أرى مسئولكم .

مثل ما تريد , أجابني : يكمل شغل بيده ويجيك .

تغير سلوكيته أعاد لي بعض الاعتبار , وقدرت ان احد الموجودين في المقر شاهدني من خلف زجاج الشباك واخبره بأني من أبناء المدينة القدماء .

كان معي في السيارة صديقي عباس , توقعت أن لا يتركني .. ولكنه لم يكن يقصد إقناعي عندما أجابني بعصبية , كان يدافع عن حقيقة تتملكه , واقسم لي بالله العظيم انه : متأكد من ان سيد حسن يمتلك جني .

سألته : هل رأيته ؟!

لا , أجابني بانزعاج : شلون واحد يشوف جني ؟! لو تريد تتمسخر ؟

أجبته : أريد اعرف أنت بأي طريقة تأكدت ؟! لو غيرك حاجيهه اكًدر استوعبهه , مو أنت .

عباس : ذهبت أساله من يكون الذي سرق ألمائتي ألف دينار من زوجتي , وهي في البيت ؟!

سألني عن من دخل البيت في ذلك اليوم ؟

وأجابني بعد أن عمل بعض الإشارات وتحدث بكلمات لم افهمها : وليد , وليد , ابن آختك وليد .

وعندما جئت به إليه , وليد تفاجأ واخذ يرتجف من الخوف وسأله بصوت آمر : وين الفلوس ؟

وليد تلعثم واخبره بأنه صرف منها أربعين , واخرج المئة والستين الباقية .

سيد حسن معلم , ويقال ان والده رحمه الله يشوّر . وليد طالب عنده في المدرسة , ويسكنون في ذات الشارع .

ضحكت وهززت يدي

أجابني بعصبية : والله لو تشوف الجني بعينك هم ما تصدكَ .

لم اعد أدرك الوضع , عباس يدافع عن الجني , مفرزة جيش المهدي حاولت ان تعتدي علي بعد ان وجدت معي بطلي ويسكي عند عودتي من بغداد . عباس ما الذي جرى له وأصبح يؤمن بالجني ؟! كان لاعب كرة قدم جيد , وكثيرا ما يسألني ابني الذي يحب اللعبة عنه , ابني قدم من العراق وهو طفل , ولرغبتي في تنمية مشاعر ابني بحب العراق اذكر له الكثير من الذكريات الجميلة مع عباس , وفي بعض الأحيان اكذب واختلق حالات اعرف إنها ستنغرس وتنمو في ذاكرته , وتجعل من العراق أجمل ما موجود في الوجود . ابني يلح علي بالذهاب الى العراق .

سألني : لماذا ذهبت عدة مرات ؟ ولم تدعني اذهب معك لمرة واحدة ؟!

هذه المرّة سأراوغ معه عندما يسألني عن عباس . عباس كان يرغب بدخول الكلية العسكرية , ولكونه شيوعي رفض طلبه . وعندما كان في الصف الثالث كلية الهندسة كان البعث يخطط لبناء مؤسسات التصنيع العسكري الضخمة , فعرض على جميع طلاب كلية الهندسة ان يقبلوا ضباط برتبة ملازم أول , وراتب من أول يوم إذا قبلوا فقط أن يسجلوا بعثيين , ورفض عباس . وسيق بعد التخرج جندي مكلف , وفي الحرب مع إيران سحبت مواليده لخدمة الاحتياط , انفجرت بالقرب منه قنبلة ودخلت شضية كبيرة في جهة آليته اليمنى , استؤصل على إثرها الجزء الأكبر منها .

صديقنا الخياط خضير يقول : آني تك عين يسموني اعور , تك رجل يسموه أعرج , أنت شيسموك ؟ تك فردة ؟ لك هاي حتى بالقاموس ما موجودة , حيرتني شلون راح افصل بنطرونك .

ابني يرتاح كثيرا لأجواء الألفة هذه , وتبقى التعليقات الساخرة عالقة في ذهنه .

نظرت إلى ساعتي , مضى أكثر من نصف ساعة . كان البعثيون يذلون من يستدعونه للمنظمة او لدائرة الأمن بالانتظار لساعات , وبعض الأحيان يصرفونه بدون أي سؤال ويطلبون منه القدوم في يوم آخر . الاعتذار وقدح الشاي أثرا في تقديري للتأخير , ربما عندهم عمل وقدومي طارئ .

الشاب الذي فتش السيارة سألني : شنو هذا حجي ؟!

أجبته باستغراب : ويسكي , ما شايف ويسكي ؟!

الشاب : اعرف , شلك بيه ؟!

سألته : قابل أتشطف بيه ؟ اشربه .

ضحك مع ضحك الجالسين في السيارة , وأراد أن يسمح لنا بالذهاب , الا ان آمر المفرزة الذي جاء بي الى المقر لم يكن بعيدا, وقد استفزه الضحك وعرف بوجود الويسكي فقال بغضب : وجماله تصنف ؟ رجليك ملولحة بالكَبر ومتعرف شوكت تموت , بيا وجه راح تواجه ربك ؟! ما تعرف احنه منعنه كل الباعة بالولاية ؟

أجبته : هو لو موجود بالولاية ما أجيب من بغداد , بعدين انت شنو علاقتك بيا وجه راح أواجه الله ؟! كل لشة معلكَه من كراعها . أنت حاسبني إذا اكو قانون يمنع الشرب ؟!

لم يتحمل الجواب فصرخ بوجهي: احنه نمنعه , انزل (وسحب كيس الويسكي) انزل اكَلك ( وسحبني بشدة ) . وأمر السيارة بالذهاب.

عباس يجلس بجانبي , وعندما أنزلوني أدار وجهه إلى الجهة الثانية وكأنه لا يعرفني , وماذا يمكن ان يفعل ؟ احترم نفسه قبل أن يهان مثلي . ولكني سأحمل الهم إلى أن يراني , سيؤنبني : الم اقل لك ان لا تشتري الويسكي ؟ لان الجماعة يفتشون , بس أنت ما تأخذ كلام . والحق انه قال هذا , ولكن بدون إصرار , ولو تيسر سلامة القنينتين لما شربت غير نصف قنينة , وهو سيشرب القنينة والنصف الأخرى . عباس يقول انه لا يشرب , ولكن يشاركني في شربي لأنه لا يريد أن اشعر بالوحشة والوحدة , رغم ان الطبيب منعه من الشرب لكن لخاطري يخاطر . عباس صديق العمر , وفي قدومي الأول لازمني مثل ظلي , علاقتي بأهل مدينتي تعمقت أكثر بعد ان فارقتها لخمسة وعشرين عاما بين الاختفاء وكردستان والغربة , ولم يبق من اهلي غير شقيقتي التي اسكن عندها , أقربائي وأصدقائي هم أهلي الحقيقيين , وتتالت الدعوات من المعارف , عباس لم يتركني وحدي , وتولى تعريفي بكل من شقت علي معرفته من أول وهلة , كان حريصا على أن لا أحرج بتحية الأحبة التي أكلت سنون البعث نظارتها . ويوصيني باستمرار : أن لا اذهب وحدي .

خرج من احد البابين آمر السرية الذي عرفني باسمه (حسن) بعد أن صافحني وقبلني , اعتذر عن التأخير , واخبرني ان عباس اتصل به واخبره بضرورة إعادة القنينتين , وأضاف : أستاذ يمكن ما عرفتني , آني جنت طالب عندك بثانوية العزة . ثانوية العزة في الجانب الثاني من الكوت , وهي أفقر أحياء الكوت .

أجبته : يا أهلا وسهلا , بس أريد أسالك اكو مادة بالقانون تمنع الشرب ؟!

حسن : والله العظيم أفهمك أستاذ , شتسوي ؟! ( خفض صوته وأشار إلى الغرفة ) عقلهم هذا , يا قانون يا بطيخ ؟ تصدكَ هذا الجابك يعتقد حصل اجر . شفتك من الشباج وكَتله " المن جايب ؟ لك هذا هو الوكَف بوجه صدام من جنه كلنه طليان , لك هذا ابونه كلنه , احسبهه علي ولا يبقه بخاطرك أستاذ .

علقت : والله ما اعرف شكَلك , تعرف هو هذا جرني من الياخة ونزلني من السيارة !!

حسن : أبوسهه لأيدك أستاذ على كيفك ( خفض صوته إلى أقصى حد وسحبني إلى الباب الخارجي ) ذوله ما تعرفهم , تعرف هذا الجابك هو نفسه سجل شريط لأبوه يسب بيه صدام , وبسبب الكاسيت انعدم الوالد , سقط صدام سجل بالتيار . وباسم الصدر ما بقى شي طايح حظه يعتب عليهم . المهم أستاذ , بعد صلاة ألعشه البطلين إذا الله سهل آني أجيبهن ألك للبيت . ( قبلني ) ودعته وذهبت .

اعتقد لولا الويسكي لما توسط عباس عند حسن , أكد له على قنينتي الويسكي كما يقول حسن . عند قدومي الأول في بداية السقوط عام 2003 كان يسألني عباس عن وضعي , وكيف قضيت هذه السنين الطويلة , كانت رنة صوته تشي بالحرص والقلق , وعندما أحدثه عن الإشكالات التي واجهتنا في الأنصار عندما كنا في كردستان , او الصعوبات في الغربة , يرخي أجفانه , ويشعرك بتعبير وجهه ان لا طاقة له بسماع هذه المآسي , حتى إني امتنعت عن التحدث بها مراعاة لمشاعره . كان حريصا على معرفة عملي , وهل ادخرت شيئا يفيدني بالاستثمار في العراق , ولتلطيف الجو يسألني : كيف أتمتع بجمال السويد والدول الاسكندنافية . كان يأمل ان يكون معي مبلغ محترم كي نبدأ به سوية بمشروع مشترك , وهو يمتلك علاقات جيدة مع الأحزاب الشيعية ويمكن ضمانة الفوز بالكثير من المقاولات , إلا اني خذلته , وخاصة حينما أكدت له باني لا املك حتى بيت اسكن فيه , بل بالإيجار .

كنت انقل لوعة عباس , وقلق نبرته إلى ابني عندما أعود إلى السويد . ابني قدم طفلا , وأصبح عباس بالنسبة له العراقي الشريف الذي يتمثل به لكثرة ما حدثته عنه , كنت انفي عن عباس جميع الصفات التي تعود ابني من خلال تربيته في السويد على رفضها , فهو لا يكذب , صريح وصادق , ولا يسال عن حجم الراتب , ولا عن الدين , أو القومية , ولا عن من انتخب من الأحزاب , ولا اين تقضي وقت فراغك , ولا عن علاقتك بالجنس الآخر , ولا عن تفاصيل حياتك , والحرية الشخصية مقدسة بالنسبة إليه . وفي نفس الوقت كانت تجري في عروقه ألحنيّة والانتماء إلى الجماعة ( أصدقاء , رفاق , أبناء طرف ) أكثر من الاستقلال الشخصي . صورت له أسئلة عباس وحرصه أشبه بالحنايا التي تحمل غطاء الكوخ , وكم كان اعتزازه بمثل هذه الحنايا وهو الذي انتمى للحزب الشيوعي رغم معيشته في السويد وبهذا العمر المبكر . أكدت له ان عباس رفيقي قبل أكثر من ثلاثين عاما , وعندما يسألني عن تفاصيل حياته الحالية , أجيبه بالذي اعرفه عنه سابقا , وكم أحرجني بأسئلة معاصرة عنه , والحقيقة اني لا اعرف عن عباس كثيرا, لا اعرف أين يعمل , ولا اين يقع مكتب المقاولات الذي يمتلكه مع شريكه , ولا اعرف من هو شريكه , ولم يدعوني لدخول بيته مرّة واحدة , كان قصرا عالي السياج , وعندما اتصل به لنخرج سوية كنت انتظر أمام الباب الخارجي كي يخرج سيارته التي يتعدى سعرها العشرين ألف دولار , وللأمانة لا يدعني انتظر أكثر من دقائق . لا اعرف من هي زوجته , ولم أر أطفاله , وبعد ذهابي للمرة الثالثة عرفت ان ابنه مهندس أيضا , وهو الذي أوصلنا إلى إحدى الكازينوهات لكي نمضي سهرتنا بدعوة من احد معارفي القدماء .

بودي أن اصف لقاءي بعباس بعد ان جاء حسن بقنينتي الويسكي , وجلسنا نحتسي سوية , وكيف أوصلت له بتدرج كونه كحف تافه وضحل . المهم عباس كان اعز أصدقائي , وكم بذلت من جهد كي أديم تصوري لعلاقتنا السابقة , وكم كذبت , وليس قصدي الكذب , على نفسي , او على ابني عندما أحدثه بصدق عن تكافؤ علاقتنا ورفقتنا , وكيف كان الوفاء للرفقة والحزب أقدس شئ ,وكم ذكرت له من الرفاق الذين دفعوا حياتهم ثمنا في التعذيب كي لا يكشفوا أماكن اختفاء رفاقهم . المشكلة ليست بالعصابات والمليشيات والوضع الأمني الذي أتحجج به لابني كي لا يذهب , هذه كلها ستنتهي , ولكن كيف سأوضح له حقيقة صديقي عباس ؟! واجعله يحتفظ بعمق مشاعره ونبل رغبته بالعودة للعراق ؟!


 

 

free web counter