| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

الجمعة 21/1/ 2011

 

وشم في الذاكرة

تقي الوزان

الحزب الشيوعي الذي يرفع راية الشغيلة والفقراء يختلف عمله عن عمل أي حزب آخر , أي ان الرفيق فيه عليه ان يعبر عن طموح هؤلاء المحرومين , وبدون الحماس لهذا الطموح لا يتمكن الحزب من تنفيذ سياسته وخلق التأثير البين في توسيع دائرة نفوذه , والعمل الجماعي هو الركيزة الأساس في هذا التوجه . اما الذين يخرجون عن هذه القاعدة وينتقصون من بعض رفاقهم عبر ممارسات ذاتية وأنانية أملا في كسب موقع حزبي يعتقدونه يرفع من قيمة وجاهتهم, ولم يدركوا ان جوهر الصفة الحزبية هي مفصل تنظيمي وليس درجة وظيفية , لا يرتكبون الخطأ بحق رفاقهم فقط , بل ويشكلون طعنة للحزب ذاته. والخلاصة , وجود خمسة رفاق يحملون هم الحزب وطموحه , أفضل من خمسين يشتتون جهود الحزب باهتمامات ذاتية .

هذه المسألة خلقت عندي وعند جواد الكثير من المواقف الساخرة على البعض من الذين انتموا الى الحزب بمشاريع شخصية , ودوافع لا علاقة لها بالطموحات الفكرية للحزب , وحصلوا على صفات حزبية غير مؤهلين لها , واخذوا يعتقدون بأنهم أصبحوا يمتلكون ثلاثة خصاوي كما يقول جواد . جواد الظاهر معلم في الكوت , ومن عوائل الكوت الأصلية وليس مثلي مدرس نقلت الى الكوت . كان جواد رياضيا وذو بنية قوية , ضخما وجريئا ويتحاشاه الجميع , وفي نفس الوقت مثقفا وشاعرا . كان جواد احد القامات الشيوعية البارزة في الكوت , ومتعصب للحزبية التي تعني ( الجماعية ) , وأشاركه الاعتقاد ان من لم يمتلك هذه الصفة فالأفضل أن يذهب للعمل مع أحزاب أخرى. جواد لم يكن منتظما في الحزب لسببين , الأول تحفظاته على الجبهة مع البعثيين , ولا ينسى ما اقترفوه من جرائم عام 1963 , والآخر وهو الأهم , عدم قدرته للالتزام بآليات العمل الحزبي من اجتماعات أسبوعية او غيرها , ولكنه كان موضع اعتزاز وتقدير جميع الشيوعيين في الكوت .

ودعت جواد وقد اندفع بزورقه الصغير ليعبر الى الجزرة الوسطية في دجلة , حيث يذهب بعد انتهاء دوام الحصتين ما بعد الظهر ليصطاد السمك بالصنارة هناك . اتفقت معه على ان يعود لنادي المعلمين مبكرا بعد ان وضحت له ضرورة صرف المبلغ الذي بحوزتي من تبرعات للحزب في حفلة صغيرة تضم بعض الأصدقاء . وناداني بعد أن ابتعد عدة أمتار عن الجرف : لا تنسى علي . فأشرت له بالإيجاب .

الذي قصده جواد صديقنا علي كاظم , معلم رياضة ويعمل في احدى المدارس القريبة من مدينة الكوت , ولاعب منتخب الكوت في كرتي السلة والطائرة . كان قد تجاوز العشرين , متوسط الطول , ووجه اسمر مستدير , وصوت مبحوح دائما, تلقائي وسهل في سلوكيته وهو سبب تعلقنا به . كانت حاجته للحزب مثل الأكل والشرب , وكل من عرفه يعتقد انه ( منذور ) للحزب , بسيطا ولا يعاني من أية سلبية في الحزب او التنظيم , وكل ما يصدر إليه مقبول بدون نقاش . علي كان يناقش الكثير من الأمور الحزبية التي يعتبرها البعض سرية , كان في بداية حياته ويحاول الاستفادة من تجربة الرفاق الذين سبقوه .

في احد الأيام سألني : أني صرت عضو قضاء ( درجة حزبية ) , قصدي يعني شراح أصير ؟ شسوي ؟ أجبته بعد ان رفعت عيني الى جواد : حسب ما يقوله فقه العلامة جواد الظاهر أنت أصبحت ( ورفعت له أصابع الوسط والسبابة والإبهام ) من يدي اليمنى, ثلاثة , وفي الشرع الإسلامي الإنسان الاعتيادي له الحق بالزواج من أربعة , يعني كل وحده منهن بزوجتين , يعني أنت ألك حق تتزوج ستة . ضحك ابو حسين والتفت الى جواد : على حسابك عضو اللجنة المركزية اله حق يتزوج اثنعش . ضحك جواد وقال : زين علاوي أنت قوي بالحساب , أسألك بس أتجاوبني بسرعة : واحد في واحد اثنان لو اثنين ؟ علي : طبعا اثنان . قلت : علاوي واحد في واحد واحد . ضرب جبهته بباطن كفه وضحك : شلون فاتتني؟! أجابه جواد : هي على الكبار فاتت النوب عليك .

كلما تقدم العمر بالجبهة الوطنية كلما ضاقت المساحة التي يتحرك عليها الشيوعيون , وكان جليا ان ترى كيف يزحف سرطان البعث للفتك بجميع مفاصل المجتمع , ومن النادر أن ترى عائلة لم تخترق من قبل البعث أو إحدى منظماته ( الجماهيرية ) أو من شرطة الأمن , ولا عمل للجميع الا التجسس على الآخرين وعلى أنفسهم . في نفس الوقت كان الحزب يؤكد توجيهاته بضرورة التزام كل رفيق بكسب صديقين كل ستة اشهر , والاهتمام بجمع التبرعات أكثر . وأنا لم اكسب صديق واحد للحزب في الكوت , ولم أجد من يتبرع للحزب من المستقلين في زمن الطاعون . كنا أربعة مدرسين وموظف نسكن في شقة واحدة , وفي إحدى جلسات السمر , وبعد الربع الأول مستكي , فاتحت جليسي بالتبرع , وهما مدرسين سجلا بعثيين دفعا لسوء الظن بهما , وكلفا بمراقبة نشاط الآخرين في الشقة , واستجاب الاثنان وتبرع كل واحد منهم بأربعة دنانير , على شرط أن لا يعرف احد باسميهما .

ذهبت إلى الاجتماع الأسبوعي , وزدت على الثمانية دنانير اثنين من عندي وأصبح مبلغا محترما في وقتها , ولفرحتي قدمت المبلغ في أول الاجتماع لمسئولي الحزبي , وكان جافا, وقالب قديم, لا ينفع معه إلا التهشيم وإعادة الصب . وبخني لكوني أخذت تبرع من الرفاق البعثيين , والحصيلة , إني اخرق قواعد العمل الجبهوي رغم معرفتي بها , وأضاف : لولا إننا نعرفك جيدا , وما قمت به عن حسن نية لوضعناك في خانة محاولة تهديم الجبهة الوطنية , وابلغني بضرورة إعادة المبلغ إلى أصحابه .

وجدت من الصعوبة إعادة المبلغ, لكونهما تبرعا به بحب واعتزاز , ورأيت أن نصرفه في جلسة شرب وعشاء في نادي المعلمين أفضل من إعادته, واسلم من أن يفسراها كموقف رفض لمساهمتهما , وهذا ما اتفقت عليه مع جواد . وعندما جلسنا نحن الثلاثة مع ضيوفنا الآخرين , وبعد أكثر من ساعتين أفرغنا فيها عدة كؤوس , رفع جواد كأسه أمامي وقال : بصحة الزواج . وكانت هذه الكلمة متداولة بيني وبين جواد على الذين يقولون بأنهم على الأقل(كسبوا) كرامتهم عندما يتحولون من شيوعيين الى بعثيين تحت ضغط النظام , ابتسمت وأجبته : ولا يهمك . علي ثار على جواد واخذ يدافع عني , جواد يضحك وانغلقت عيناه من شدة الضحك , ورفع كأسه يريد ان يعيدها , علي رفع يده وحذره من انه سيخرج إن أعاد الكلمة . جواد : يابه بصحة زوج واحد مو زواج . انفلت علي على جواد ومما قاله: انت تبقى واحد متخلف وما تعرف الاتكيت , ولا تعرف قيمة الاحتفال كتثمين واعتزاز للصديق , ولو تموت ما راح توصل لرقة وأخلاق الأستاذ تقي . تركنا وخرج دون أن يتناول عشائه المفضل ( تشريب زند ), جواد كاد أن يقع من على كرسيه من شدة الضحك . عرفت بعدها ان جواد اقنع علي الذي يجلس بجانبه على إني عملت هذه العزيمة على شرف حصوله على عضوية القضاء .

عام 1979 اشتدت رياح الحملة الفاشية على الشيوعيين , ونتيجة الغدر الدموي للقيادة البعثية لم يتمكن الحزب الشيوعي من الوفاء للأسباب التي أعلنها عن قيام الجبهة , فلا هو تمكن من النهوض بالعراق من خلال المشاركة في صنع القرار , ولا هو تمكن من انتشال البعث من وكر الجريمة الذي ولد فيه . هذا الشعور بالفشل , عمق من جراح الطعنة التي أرادها البعث أن تكون قاتلة , وتسرب الذي تمكن ان يفلت من قبضتهم في كل الاتجاهات , النفاذ الى الخارج , الاختفاء في مدن أخرى , تشكيل قواعد أنصار في كردستان . وكثيرا ما كنا نلتقي في البداية أنا وعلي وبعض الرفاق من الكوت في أماكن متفرقة من بغداد , ومع تقدم الأيام كانت اللقاءآت تقل , وخطورة الاعتقال تزداد بعد ان يأس البعض وعاد الى المدينة , وسيطالبون بالكشف عن أماكن تواجدهم في هذه الفترة , وبمن يلتقون .

كانت الصعوبات تزداد يوميا , وأصبح هم النظام الأول هو القضاء على الشيوعيين , التقيت جواد بالصدفة في بغداد , كان منهكا , ورغم معرفة النظام بكونه ليس في التنظيم إلا انه تعرض لضغوط كبيرة , واضطر للانزواء , وبعد فترة ليست بالطويلة عرفت بأنه قد وافاه الأجل كمدا .

تداخلت الخطوط , وفي كثير من الأحيان لا تفرق بين صديق وعدو , والمخاوف تزداد من المعارف والأصدقاء والأقرباء أكثر من أجهزة النظام الرسمية وغير الرسمية من حزبيين وأعضاء منظمات جماهيرية , وكلما ابتعدت عن المعارف كان ذلك اضمن للسلامة . والغريب ان البعض من المعارف الأوفياء كان يشدهم الحرص عليك , وقد يتعاون مع النظام لاعتقالك, على أمل أن توقع التعهد بعدم العمل في الحزب الشيوعي , ويعتقد ان التوقيع رغم ذله وعبوديته أفضل من الخوف عليك من مستقبل مجهول قد يؤدي بحياتك .

علي كاظم استمر في بغداد , يعمل ويغير باستمرار في أماكن سكنه , واستمر على عادته في مساعدة الآخرين , ورغم الوضع الصعب الذي يجعلك في بعض الأحيان تشكك حتى بخيالك , كان علي لا يتوانى عن تقديم النصح والمساعدة المادية أو في إيجاد سكن لرفيق مشرد . طيبة علي كانت مثل الوشم الذي لا يمحى من ذاكرة كل من عرفه , إلى أن اعتقل من قبل الأمن العامة , ولم يعرف مصيره لحد الآن .


 

 

free web counter