| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

الخميس 20/3/ 2008

 

ذكريات لها رائحة الورد

تقي الوزان

تعرفت عليه وقد تجاوز الاربعين . وفي حياة البيشمركة الفقيرة , تكون احدى التسليات محاولة تصغير العمر , وبالنسبة للنصيرات لم تتجاوز اية واحدة منهن التاسعة والعشرين عاماً , حتى وهي تتحدث عن مشاركتها في ثورة العشرين . كانت مفارز الشيوعيين فقط عندها نصيرات , وكن موضع اعجاب وترحيب وبعض الاحيان اندهاش من العوائل الكردية . وتصادف ان تكون مع المفرزة رفيقة واحدة , وعندما تستضيفنا بيوت القرية كانت العوائل تريد ان تكون النصيرة ومن معها عندهم , وكنا نتسابق ان نكون مع احدى النصيرات , وهذا يعني ليس الترحيب الجيد فقط , بل ووجبة طعام جيدة ايضاً .

انشغلت الرفيقة مع ابناء البيت , وبعض النساء والاطفال من بيوت اخرى جاءوا يرحبون بها , ويتمتعون بقربها وقد وضعت الكلاشنكوف بجانبها , وهي تحدثهم عن الثورة والحزب وضرورة الوقوف بوجه النظام البعثي الفاشي . وتنصحهم ببعض الملاحظات الطبية , وتقدم بعض الادوية المتوفرة في ( عليجتها ) لمساعدة بعض المرضى . في هذه الفسحة التي منحتها لنا انشغالات الرفيقة سألني ابو سالار عن قصيدة لاحد الرفاق سمعّنا اياها في الليلة السابقة , واجبته : لا يوجد فيها اكثر من بيت شعري واحد , وقد نظم قبله عدة ابيات , وبعده عدة ابيات وسماها قصيدة . وهو يعتقد انه ما دام نصيراً يمكن ان تكون كل اعماله جيدة , ويعتقد ان الروايات التي تتحدث عن عظمة الانصار هي كل ما كتب عنهم , وليس هناك الكثير من التجارب الفاشلة , او التي اريد لها ان تفشل .

كان يتهيب ملاحظاتي حول الشعر , وبعد ان عدنا من سهل شهرزور الى المقر الذي يبعد ثمان ساعات سيراً على الاقدام , ونعبر خلاله احد الشوارع الرئيسية , ويكون عبورنا في فترة الغروب او بعده , لعدم تمكن مفارز السلطة من مراقبة الطريق بعد الساعة الرابعة عصراً . وجدته متريثاً في رغبته اسماعي احدى قصائده – كان شاعراً شعبياً - , واخذ يشرح لي القصيدة قبل ان يسمعني اياها . ابو سالار امين وصادق لايعرف الكذب , وحتى في بعض الحالات التي يريد بها تطمين صديق او رفيق ب( كذب ابيض ) سرعان ما ينكشف . انعكست هذه الصفات في شعره , كان يمتلك تلقائية في توارد الصور الشعرية تطغي على المكونات الاخرى للقصيدة , وتكون قصيدته متعثرة لو حاول ان يكملها بعد التدفق الاول , الذي يأتي في هبّة تمنح القصيدة خصوصيتها وجمالها, وهو اهم ما يمتلكه في قدرته الشعرية . وعليه ان ينمو في داخل هذه البراءة , ويبتعد عن تحميل القصيدة ما يشي بثقافته , لانها ستكون اشبه ب( الكذب الابيض ) .

في البيشمركة تقليد , وهو عندما نأتي الى المقر نأخذ استراحة من الواجبات لمدة ثلاثة ايام , الا اننا في اليوم الثاني كلفنا معاً بنقطة حراسة تقع فوق ( هزارستون ) وهو اسم المقر , وهي قمة متوسطة من بين عدة قمم قبل سلسلة الجبال التي تشكل الحدود بين ايران والعراق وبين امتداد سهل شهرزور . " هزارستون " تعني بالكردية الف عمود , وهو في الحقيقة شكوت ( مغارة ) ترتفع لما يقرب عشرين متراً , وفيها عدة اعمدة , وتمتد الى نهايات متعرجة , يتحول بعضها الى دهاليز دائرية قاسية لا نعرف نهاياتها . كانت المغارة باردة في الصيف , وفي الشتاء تتمتع بدفئ نسبي . كانت مستوطنة للعضايات والافاعي , وآلاف الخفافيش التي تتدلى بسيقانها عند الغروب من سقف الشكوت بإنتظار حلول الظلام لتنطلق . كان على جانب المغارة الكبيرة بعض المغارات الصغيرة , استخدمت احداها كمخبز ووضع فيه التنور , والأخريات سكنت فيها بعض عوائل الرفاق , كشقق كنا نحسدهم عليها .

كانت واجهة المغارة بإتجاه الجنوب الشرقي , وهذا ما حرم الجيش العراقي من اصابتها بالمدفعية . ويفصلها عن الجبل الذي يقابلها وادي حاد الانحدار , يضيق عند المدخل ليصل الى عشرين متراً . كنا نأخذ الماء من العين في الجبل المقابل بعد ان وضعنا " الصوندة " على حبل يربط بين الجانبين . كان عرض العمود الوسطي في واجهة المقر متراً ونصف المتر , ويكاد ان يكون مستوياً . تمكن احد الرفاق الرسامين من صنع سلم بدائي ورسم شعار المنجل والجاكوج في منتصفه , أي على ارتفاع عشرة امتار . وعندما استولى الجيش العراقي على المقر , وضع صورة الخميني تحت المنجل والجاكوج , وعرضها في التلفزيون العراقي كدليل على عمالة الحزب الشيوعي العراقي للنظام الايراني .

الحراسة في البيشمركة ساعة واحدة , والساعتان الاوليتان بعد الغروب التي قضيناها سوية انا وابو سالار في النقطة التي فوق المقر , وبعدها تنسحب الحراسة الى نقطة لا تبعد اكثر من خمسة عشر متراً من المقر . ابوسالار اداري فصيل هزارستون , والفصيل لا يعرف عدد محدود , ولكنه لا يقل عن عشرة رفاق وصبحة , وصبحة حمارة اخذت اسمها من اسم والدة صدام . كان ابو سالار حريصاً في توزيعه للمواد الغذائية , وفي كيفية الحصول عليها , وايجاد الطرق الصحيحة لخزنها وانقاذها من التلف . حدثني عن ضرورة خزن الرز في اكياس تكون مرتفعة اكثر عن باقي المواد مثل العدس والحمص , لتحاشي اكله من قبل الفئران . سألته : وكيف عرفت ان الفئران تحب الرز ؟! اجاب : من الضروك . لأن لونها ابيض , وفيها رائحة عنبر .
اجبرنا في احدى المرات ان نعمل اربعة مستطيلات صغيرة مستوية في انحدار الوادي ليزرعها بالخضراوات التي تنقصنا , وكان موفقاً في ذلك . وزرع احد هذه المستطيلات ببذور الخيار , وفرض علينا مداراته اكثر من غيره. وحرم علينا الغسيل في داخل المقر لقلة الماء الذي يأتي في " الصوندة " , وضرورة سقي الخيار يومياً. ومع دفئ الجو نبعت بذور الخيار , وبعد اسبوع اخذت تكبر بشكل جنوني , واوراقها اصبحت اكبر من ورق التين . وتبين انها " يقطين " وليس خيار , والبذور كانت تتشابه . لم نكتفي بشماتة اليقطين , في اليوم الثاني زرعنا زوجين من الاحذية السوداء النايلون ( سمسون ) لغاية القيطان , واخبرناه : بأننا سنحتاج في الشتاء الى ( جزمات ) , ونستطيع ان نقطفها حسب الاحجام التي نحتاجها عند نموها . استمع الينا لغاية ما اكملنا , ثم ثار واراد ان يقلع كل ما موجود في المزرعة لولا توسلنا الذي تمكن اخيراً من تهدئته .

عند عودتنا من نقطة الحراسة استمر حديثنا في الغرفة المصنوعة من النايلون لتحمينا من الافاعي والقوارض, كانت تكفي لعشرة اشخاص , يزدادون الى عشرين عند الضرورة . فهمت منه وهي المرّة الاولى وقد مضى على علاقتنا سنتين , لانه لا يحب الحديث عن نفسه اولا , وثانيا ضرورة اخفاء المعلومات الشخصية لسلامته وسلامة عائلته : كان معلماً ناجحاً , ومساهماً في اغلب الفعاليات الثقافية والانسانية في مدينته , وترك اربعة اطفال وزوجة وام واب وثلاثة اخوات واخوين , الاول معوق , والثاني اغتيل بحالة تسمم من قبل السلطة , تركهم هو واخوه المهندس والتحقا بحركة الانصار دفاعاً عن شرفهم وشرف حزبهم وشرف مدينتهم ووطنهم المنتهك من قطعان البعث المجرم .

استيقضنا صباح اليوم الثاني على صوت صياح ومشاجرة بين رفيقين , الاول من اهل بعقوبة يدعى صباح , ويشبه في شكله الشخصية الرئيسية في الجريمة والعقاب لدستوفسكي حتى في لون شعره الاصفر , وكان قد امضى فترة طويلة سجين في زنزانات الامن , وخرج وهو يحمل آثار التعذيب , رعشة في جسده وخاصة في رقبته , والآخر كان يعمل معاون آمر سرية . وسبب الشجار : ان الاول استلم الحراسة من الثاني في النقطة القريبة من المقر , وقد شم رائحة كريهة , واتهم الثاني بأنه خاف من الذهاب الى ( المرافق الصحية ) التي لا تبعد اكثر من عشر خطوات أخرى . والثاني انتفض لهذا الاتهام واعاده اليه . وبين الانفعال, والسباب , والحجز بين الطرفين , ومحاولة تهدئتهم . صرخت بهم : بأني سأعرف الحقيقية خلال خمسة دقائق , واعرف من الذي فعلها . سكت الجميع , وتفاجأوا , ووجوههم تضج بالسؤال , كيف ؟! ... انتظرت لحظات , وطلبت من ابو سالار ان نذهب لمعاينة مكان ( الجريمة ) , ومثلما ميز أكل الرز من قبل الفئران , سيعرف من فعلها .... تحول الموقف بلحظات . وبدل الحجز بين الاثنين . شاط ابو سالار , وقذفني بنظرات نارية , واخذ يدمدم بكلمات متلاحقة لا احد فهم شيئاً منها ... لحظات , وتناول بندقيته بسرعة كبيرة , ووجهها الي واطلق طلقة واحدة وسط ذهول الجميع , كان صدى صوتها في المغارة اكبر من صوت قنبلة .. استعدنا وعينا , وانا لا اعرف هل جرحت ام لا , الجميع ينظرون الى جانبي , التفت , وجدت افعى كبيرة وقد تمزق رأسها . . ذهبت اليه , قبلته , استعاد الجميع الهدوء بعد هذه اللحظات الصاخبة . . واخبرته : هل تعرف اني كنت خائفاً منذ رفعت بندقيتك ووجهتها الي , وانا افكر ماذا سيكتب عني في الرثاء ؟! فكرت اسرع من سرعة الطلقة, في هذه المحنة , استشهدت في عملية انصار , ام في الداخل على ايدي القتلة من البعثيين , ام ماذا ؟! ... ضحك وكأنه لم يضحك في حياته من قبل .. وانشغل الجميع بالتعليق عن ماذا سيوصف ( استشهادي ) . ولكنه قبل بمعاينة مكان الجريمة , وعرفنا ان صبحة هي التي فعلتها . وصاحبنا ضعفت عنده الحواس , بسبب بقاءه الطويل في الامن , والتبس عليه الامر .

ابو سالار ( يحيى عزيز الحميدي ) اعدم من قبل النظام البعثي الفاشي , بعد ان وشى به احد الخونة المندسين , عندما نزل من كردستان واخذ يعمل في اعادة تنظيمات الحزب في مدن الجنوب , وباستشهاده رفع اسم مدينته عالياً , المدينة التي نعتبرها احدى الثروات الوطنية , التي رفدت الحركة الثورية العراقية بخيرة ابنائها وشبابها , انها السماوة البطلة .
 

Counters