| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الجمعة 18/3/ 2011

 

مسرحيون في ذاكرة النضال ضد الفاشية

تقي الوزان

كان يناقش بطريقة المخاصمة , ومن لا يعرفه يعتقد انه يعاند ويكابر , كانت لديه القدرة العالية في السلوك الاجتماعي , مؤدب , خلوق , سهل المعشر , لكنه لا يمتلك الوسيلة التي تحدد توجيه توجهه العام , والرومانسية الثورية هي الغالبة في طروحاته . متوسط الطول , اسمر وسيم , ونظارة طبية بإطار سميك , ترك دراسته الأكاديمية في السنة الثالثة قسم المسرح وسافر الى فرنسا . لم يواصل الدراسة هناك كما كان متوقعا , بل توجه لدراسة تراث الحركة الثورية , وباريس في بداية السبعينات من القرن الماضي كانت لا تزال تحت تأثير ثورة الشباب التي انطلقت في جامعاتها عام 1968 , واستمر تأثيرها نتيجة الزخم العالي لبطولات الثورة الفيتنامية وارتفاع راية الجيفارية وتنظيراتها .

بعد أكثر من عقد عاد ماهر يطرق ذاكرتي بشدة , وكأنه عاد للتو من باريس التي استمر فيها لما يقارب العامين , وعاد لدراسته المسرحية في أكاديمية الفنون الجميلة , ولكنه لم يعد يشارك مثل السابق في الأعمال المسرحية رغم ثقافته وموهبته المتميزة في التمثيل . كان يشتعل بالثورية , ويعتقد إن إدراك الناس لفاشية البعث كفيل بقلب الموازين , ولا يقر ان البعث رغم دمويته قد سار عدة خطوات يمكن ان تكون قاعدة لإصلاحه كما توقع الكثيرون . أو , لماذا لا تكون هذه الخطوات وسيلة لتثبيت وجوده ؟ كما يؤكد ماهر . كان ماهر على خلاف مع الحزب , وطروحاته تحمل اغلب طروحات القيادة المركزية , ولكنه كان حريصا على سمعته وسمعة الحزب فلم يعرف بها احد خارج التنظيم عدا مجاهرته بغدر البعث , لا كما اخذ يدعي البعض بعد انهيار معسكر الدول الاشتراكية وخسارة الحركة الشيوعيية . فلم يستطيعوا تحمل خسارتهم التي هي جزء من الخسارة العامة , وصبوا نار غضبهم على الحزب , واخذوا يدعون خلافات لم تخطر على بال احد قبل انهيار النظم الاشتراكية . وكيف ان احدهم لم يزر أية دولة اشتراكية في حياته , ادعى بان سبب خلافه مع الحزب هو انتقاده للممارسات البوليسية في المانيا الديمقراطية ( الشرقية ) وباقي الدول الاشتراكية , ولم يأخذوا برأيه , ولو كانوا سمعوا الكلام لما انهار النظام الاشتراكي .

كنت نصيرا في كردستان يوم طرق ذهني ماهر بعد انتهاء المؤتمر الوطني الرابع للحزب مباشرة , وهو المؤتمر الذي شكل نقطة خلاف كبيرة بين الشيوعيين في تقييم نتائجه . وإذ كان لانشقاق القيادة المركزية بعض الأسباب التي يمكن مناقشتها , ومنها التماهل المقصود طيلة الفترة التي أعقبت مجازر شباط 1963 , والتي استمرت لعدة سنوات في عدم التئام قيادة الحزب التي أعقبت قيادة الشهيد سلام عادل في هيئة متناسقة تبحث في انعقاد مؤتمر وطني يثبت الشرعية الحزبية , ويعالج تثبيت الوجهة النضالية لعمل الحزب , بدل الاجتهادات والطروحات التي تأثرت بشكل كبير بزخم ثورة الشباب الفرنسي , وتنظيرات ريجي دوبريه حول انتصار الثورة الكوبية , ورومانسية الجيفارية التي أصبحت نهج يشعل الرغبات الثورية , إضافة للضعف المغري لسلطة عبد الرحمن عارف . وكلها كانت حاضنة للكثير من الشيوعيين العراقيين الذين تراكمت عندهم أسباب التفجر , وخلقت موجة ثورية عارمة , تصدى لها من لم يكن قادرا على تحمل مسؤولية عنفوانها , فانهار هو , ومعه الانشقاق . ووسط ذلك التشتت ضاعت فرصة أخرى لاستلام السلطة , واستغلها البعث بعد عودته الثانية للإيغال بدم الشيوعيين . اما المؤتمر الوطني الرابع فقد كان من المؤلم ان يتخفى الصراع الشخصي تحت عنوان اتهامات قومية , وهو اتهام يوضح استعارة شكل آخر للصراع لم يكن موجودا, ولكنه يخفي خلفه الإفلاس في يجاد أسباب مقنعة للخسارة الجسيمة التي تكبدها الشيوعيون نتيجة المراهنة فقط على نجاح الجبهة مع البعث .

كان الجميع في حالة انتظار , وتسريبات أخبار قرب قيام الجبهة بين البعث والشيوعيين تولد التريث والخدر رغم الاغتيالات التي طالت الكثير من الكوادر الشيوعية . كان ماهر لا يعير أية أهمية لما يمكن ان تكون عليه حالة العراق لو قيض النجاح للجبهة , كان يهاجم البعثيين علنا , وفي اغلب الأماكن التي يتواجد فيها , أكاديمية الفنون , مسرح بغداد مقر فرقة المسرح الفني الحديث , المسرح الشعبي , فرقة مسرح الصداقة في المركز الثقافي السوفيتي , نقابة الفنانين , نادي التعارف , وجميعها أماكن تجمعات فنية زرعت سلطة البعث عيونها بشكل مبكر فيها , مما ولد الكثير من الإحراج والقلق لعائلته . ماهر من عائلة بصراوية ديمقراطية معروفة , فأخوه الكبير عادل كاظم من كبار كتاب الدراما العراقيين , والثاني نداء نحات معروف من بين أعماله تمثالي السياب والفرابي , والثالث نضال شخصية اجتماعية عرفت بنبلها وأخلاقها العالية . ولعلاقتي المتينة بماهر طلب مني أن أتحدث معه للتقليل من شدة اندفاعه .

هناك الكثير من الامور التي نقرها في العقل , ولكن في التطبيق , تتغلب العادة , أو الإيمان , او العاطفة ,أو الموروث والتقاليد , وجميعها قد تكون بعكس الإقرار العقلي . في إحدى المرات شاهدنا سوية مسرحية جميلة , وعندما ارتفعت الستارة , ذهل الجمهور بلوحات فنية جميلة رسمت بفرشاة رسام متمكن , وشكلت الديكور لخلفية المسرحية . وبعدها كلما تطور الفعل المسرحي اخذ الجمهور يشعر بالانزعاج من الديكور الذي أدهشهم عند رفع الستارة . كانت اللوحات رومانسية عن نخيل بغداد ومنائرها , وأحداث المسرحية تجري في الحواري الضيقة , كان هناك تعارض , الممثلون لا يتصرفون كما يجب ان يتصرفوا ضمن الظروف المرتبطة بهذا الديكور , والديكور لا يعبر عن مكان الفعل المسرحي بشكل صحيح , وفقد التوافق بين الطرفين , وبسبب فقدان التوافق فقدت المسرحية نجاحها . حاولت أن أقنعه بهذا المثل , وكون العمل والثقافة الفردية وحدها لا تكفي ما لم توظف لصالح عمل الجماعة , وكان ماهر يقر هذا تماما , ولكن في التطبيق تتغلب عليه طبيعته . اختطف ماهر من الشارع أثناء الحملة الدموية على الشيوعيين عام 1978من قبل مفرزة تابعة لمديرية الأمن العامة .

أكاديمية الفنون الجميلة كانت أولى الكليات التي منع القبول فيها إلا للبعثيين تمشيا مع توجهات النظام بالسيطرة الكاملة والمبكرة على وسائل الإعلام , وفتحت أبواب القبول لأعداد كبيرة من الطلبة البعثيين على حساب الشروط الفنية , والكثير من هؤلاء الطلبة من أصحاب المعدلات الضعيفة ولم يقبلوا في كليات أخرى . وأبعدت من لجنة الفحص أسماء فنية كبيرة من الأساتذة , من بينهم إبراهيم جلال وجعفر علي وجعفر السعدي وجاسم العبودي . والأخير ينحدر من الشطرة , وأكمل دراسته العليا في أميركا . كانت تطلعاته قومية , وفي عام 1963 بعد انقلاب شباط الأسود عين مديرا لتلفزيون بغداد . ولكن بعدها كفر بالفكر القومي وابنه البعثي . كان يحدثنا كثيرا عن أساليبهم ودمويتهم , وقلق علينا , وكثيرا ما يحذرنا منهم . بعد إحالته على التقاعد سافر مع زوجته الأمريكية إلى أميركا , وعندما حضرته المنية كانت وصيته أن لا يعاد إلى العراق , خوفا ان يستغلها نظام صدام . كان هؤلاء الأساتذة لا يمكنهم المساومة على الشروط الفنية للقبول , وقبول طلاب ليسوا مؤهلين لولوج دروب العمل في الفن الدرامي بالذات , والتي لا تعني الموهبة فقط , بل قوة الشخصية التي تعني القدرة على السلوك الاجتماعي الناجح . حيث يمكن للإنسان ان ينجح في اغلب الأعمال بشخصية ضعيفة إذا كان نجاحه لا يحتاج إلى العمل مع الآخرين . مثل المؤلف يعيش في جو من الكتب بين جدران مكتبه كي يبحث موضوعا في التاريخ او الفلسفة ليس بحاجة الى قوة شخصية كي يؤدي هذا العمل , أما في المسرح او باقي الأعمال الدرامية فيجب ان تتآلف مع جميع رغبات المشاركين , من المخرج الى العامل خلف الكواليس , باتجاه تجسيد هدف سامي واحد هو فكرة العمل الفني. وكيف تستنبت مثل هذه الأخلاق لدى طلاب أقنعهم البعث : ان الانتماء إليه أهم من كل المواهب والثقافة وباقي المواصفات الفنية , والإخلاص لهذا الانتماء هو من سيمنحهم الفرص الكفيلة بالشهرة والمال .

كان من السهولة ان تشخص الطلبة الشيوعيين نتيجة التوافق بين ما تعودوا عليه من أخلاق وسلوكيات وبين متطلبات التعاون في نجاح العمل المسرحي . كان ماهر ومجموعة من الشباب بينهم أصدقائه حسن حنيّص وشهيد عبد الرضا أشبه بلوحة القوس قزح وسط تلك الموجات المغبرة من الطلبة التي أراد بها البعث تشويه الرؤية السليمة لذلك الوسط الفني الجميل .

الصدق , والأمانة , ومصارعة ألذات في تدجين كل النوازع الفردية لتتمثل قيم العمل الجماعي , كان وراء التفاني والاستبسال الذي خلق أروع آيات البطولة , دون ان يكون وراءه مطمعا في جنة او تعويض آخر . لم يكن لشهيد عبد الرضا متطلبات كبيرة في الحياة , وبعكس ماهر كان صموتا , ويرضى بأقل القليل . متوسط الطول , وتميل بشرته الى الحمرة , لم اسمعه يوما يضحك بصوت عال , واكبر درجات انشراحه في ابتسامة ترتسم على محياه الجميل . من مواليد 1951 , واكمل دراسته في قسم المسرح عام 1974 . وبعد إكماله الخدمة العسكرية لم يقبل في أية مؤسسة فنية مما اضطره للعمل في التدريس في إحدى ثانويات مدينة الثورة . ترك بغداد عام 1979 نتيجة الهجمة الغادرة على الشيوعيين , والتحق بقوات الأنصار في كردستان , وعرفت عنه الجرأة الكبيرة , وساهم في الكثير من المفارز القتالية , وأصبح آمر فصيل . وفي عام 1983 كان أول شهيد سقط للشيوعيين نتيجة الهجوم الغادر لقوات الاتحاد الوطني على مقرات الحزب في بشتاشان .

ويبقى حسن حنيّص ذلك الكادح النبيل , الذي يرفض الحصول على أي شئ ما لم يكن من عرق جبينه , ولو كتب العيش له لحد الآن لمات كمدا , بعد أن زحفت قيم الرأسمالية وغطت اغلب العلاقات , وأصبح الدولار الدين الذي يريد مصادرة جميع الأديان . حنطاوي نحيل وملامح الكدح ترتسم على محياه , تخرج من الأكاديمية عام 1975 وكان مسرحي متميز وعمل في فرقة مسرح الفني الحديث . تلقائي في سلوكيته , ولا تفرق عفويته في التعامل بين الأساتذة وكبار الفنانين وبين الكادحين الذين تربى في وسطهم . كانت سعادته ان يعيش بتكافؤ مع محيطه الشعبي , ولا تغريه الحفلات والنوادي والقاعات الراقية , كان يفضل عليها مقاهي الطرف في الثورة , والتعليقات الذكية لأبناء مدينته من الكادحين , وفي اعقد الامور . ولذلك ظل يتعامل بحذر كبير مع البعثيين طيلة سنوات الجبهة , وتعرض لضغوط كبيرة من النظام وهو يعمل في التدريس . وبعد ان شن النظام حربه على إيران سحبت مواليده لخدمة الاحتياط , ولكنه رفض الالتحاق , وظل مختفيا لفترة ليست بالقصيرة . القي القبض عليه , وحكم عليه بالإعدام بتهمة هروبه من الخدمة العسكرية , رغم كونه مشمولا بالعفو الذي أصدره صدام بحق الهاربين لأول مرّة. ونفذ فيه الحكم , ومنعوا أهله من إقامة مجلس الفاتحة , واجبروهم على دفع ثمن الاطلاقات التي فتكت به .

وماهر بعد اختطافه من قبل الأمن العامة , عرف أهله بعد سنوات باستشاهده , وبلغوا بعدم السؤال عنه .



 

 

free web counter