| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

الأربعاء 18/11/ 2009

 

علي خليفة والأستعارة من التاريخ

تقي الوزان

كم يحتاج الشيوعيون وهم يتوجهون الى الانتخابات البرلمانية في بداية العام القادم , ان يستعيروا من التاريخ مكونات شخصية لقيادات شعبية ملئت قلوب الجاهير حباً , ونبلاً , وايماناً بمستقبل زاهر . يوم كان الانتماء للحزب الشيوعي يكلف الشخص حياته . فمن لا يعرف كاظم الجاسم ومعن جواد في الفرات الاوسط , وتوما توماس في الموصل , وعلي الشيخ حمود والشاعر زاهد محمد في الحي , وسعيد متروك في الكاظمية , وعبد الواحد كرم وفعل ضمد في العمارة , وابو سرباز في السليمانية , وجليل حسون في الشطرة والجبايش , وعلي خليفة في كركوك , وهندال جادر في البصرة , وعشرات غيرهم على امتداد ارض العراق . يوم كان الصراع على اشده بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي , يوم كان الوفاء دين للرفقة , ولمبدأ الانتماء . وبعد انهيار النظام الاشتراكي , بدأت الرأسمالية زحفها لاقتلاع كل القيم الانسانية الملازمة للفكر الاشتراكي , وماهي الا سنوات قلائل , حتى اصبح الدولار الرب القادر على تسيير كل شئ , حتى نسى بعض الشيوعيون بوصلتهم , وباتوا يحاكمون تاريخهم وتاريخ حزبهم بنفس منطق الربح والخسارة لقيم السوق , لا يفرقون بين مرحلة وأخرى , ولا يفرقون بين (انتصار) يزيد , و ( خسارة ) الحسين .

تملكتني هذه الكلمات وانا اقرأ مذكرات الرفيق ابو سرباز ( احمد باني خيلاني ) , وقد تطرق لذكر احد هذه القيادات , وهو مام علي خليفة , الذي نذر حياته وحياة عائلته لنبل المبادئ التي بشر بها الحزب الشيوعي . مام تعني في اللغة الكردية العم , مام علي خليفة قصير مربوع , ويمتلك قوة جسدية يحسد عليها , كان قد تجاوز الخمسين من العمر عندما عرفته لأول مرّة في مقر قاطع السليمانية وكركوك لأنصار الحزب الشيوعي عام 1982 م . كان يرفض اي اعفاء له للمشاركة في الأعمال اليومية للبيشمركَة , من حراسات , وبناء القاعات من الحجر , وجمع الحطب , وخفارات الخدمة الرفاقية , حاله حال جميع الانصار , ومنهم ابنائه الاربعة الذين توزعوا بين المفارز والمقرات والسرايا المقاتلة . وكان ابرزهم ابو فيان ( محي الدين ) ولده الكبير الذي اعرفه جيداً , كان يعمل لأعادة تنظيمات الداخل في كَرميان , وهو السهل الممتد بين طوزخرماتو في كركوك الى جبال قرداغ في السليمانية .

كان علي خليفة يمتلك محل تجاري في طوزخرماتو , يتاجر بين الخالص او ( ديل تاوه ) كما يحب ان يسميها بأسمها القديم , وبين طوزخرماتو وكركوك في الحبوب والتبغ والتمور . كان موضع ثقة من يتعامل معهم , وهو معروف ليس لأبناء طوزخرماتو فقط , بل لكل القرى والبلدات الممتدة بين الخالص وكركوك . يجيد الكردية والعربية والتركمانية وشئ من الكلدانية , لم يدخل المدرسة وتعلم القراءة والكتابة بجهود شخصية . شارك في اغلب نشاطات الحزب منذ خمسينات القرن الماضي , وتعرض مرات عدة للأعتقال . رغم مرحه وحبه للنكتة كان عصبي المزاج , وسرعان ما تتحول الى شراسة عندما يتعلق الامر بالتجاوز على الحزب . كانت شرطة الامن في قضاء طوزخرماتو تتحاشاه , وكان مثالاً للصمود , والوقوف بتحدي بوجه الجلادين عند اعتقاله وتعذيبه .

يقول ابو سرباز في مذكراته صفحة 143 : بعد ان نقل الشيوعيون بعد انقلاب شباط الاسود من السجن ( في كركوك ) الى محجر لوحدهم , حيث كان في المحجر اثنا عشر شيوعياً , وكانوا يأكلون في سفرة واحدة حتى مجئ الرفيق ابوسرباز ورفيق آخر معه , غير ان الرفاق الآخرين الذين نقلوا الى المحجر بعدنا لم يشاركوا الاكل على السفرة , بل كانوا يأكلون فرادي , وقد سألني عدد منهم عما اذ ا كان ممكناً ان يأكلوا لوحدهم , وقلت لهم : الأمر يعود اليكم . غير ان الرفيق علي خليفة حينما علم بالأمر جاءني قائلاً : لماذا قلت لهم ان بأمكانهم ان يأكلوا لوحدهم ؟ قلت : ياعزيزي .. انهم يخافون ولا يرغبون بأن يأكلوا معنا على نفس السفرة , ولكنهم جاءوا وسألوني عما اذا كان بأمكانهم ان يأكلوا لوحدهم وقد اجبتهم بأن الامر يعود اليهم , ويستطيعوا ان يأكلوا كما يرغبون . وهذا كل ما في الامر ! ولكن الرفيق علي إحتد , وقال بصوت عال : ان من يصبح شيوعياً يجب ان يضع امام عينيه بأنه يمكن ان يقتل تحت التعذيب او في المظاهرات او في الصدام مع العدو ! فلماذا هذا الخوف ؟! وسبّ حزب البعث , وقال : أنا شيوعي .. وليأت البعثيون ليعدمونني !! فهدأته وقلت له : يجب مراعاة وضع الرفاق وتقدير الوضع المأساوي الذي نحن فيه " . ويستطرد ابو سرباز " لقد كان لنا في المحجر رفاق لعبوا حقاً دوراً رائعاً في تقوية معنويات الموقوفين , امثال علي خليفة , وحسن كبابجي " .

عند اشتداد الهجمة على الشيوعيين عام 1978 م ترك مام علي عمله وبيته وكل ما يملك , وصعد مع عائلته الى المناطق التي لا تستطيع السلطة الوصول اليها , واصبحت قواعد للأنصار الشيوعيين . وترك زوجته في منطقة جباري الممتدة على يمين الطريق الذاهب من كركوك الى السليمانية عند عائلة صديقه ورفيقه علي جباري , الى ان استقر وضعها واخذت تعمل في البريد الحزبي بين القيادة وكركوك .
وفي خضم اندفاع مام علي وعائلته في العمل الحزبي والانصاري , وتفرقهم في اماكن مختلفة , واصبح يعز عليهم اللقاء لفترات طويلة , وعندما كان هو متواجداً في مقر قاطع السليمانية جاءه خبر استشهاد ابنه ابو فيان ( محي الدين ) . وقد اغتيل من قبل ابن عمه في احدى قرى كَرميان , ثمناً لتسليم نفسه الى السلطة . ويقال انه التحق بالأنصار الشيوعيين لكي يغتال محي الدين نظراً لما يشكله الشهيد من خطورة على السلطة في المنطقة . في تلك الفترة دأبت سلطة البعث على اجبار اقرباء وابناء الرفاق والشهداء للأندساس بقوات الانصار , لكونهم مرحباً بهم , والتحقيق معهم يكاد ان يكون شكلياً .
كان ابو فيان وسيماً ونحيلاً , ونسميه تحبباً المسيح , لكثرة الشبه بينه وبين صورة المسيح وهو على صليبه , كان من الشيوعيين الذين يجمعون بين الثقافة العالية , وبين القيادة الميدانية التي تعرف كيفية التعامل مع الجميع . تحمل مام علي الصدمة بكل جلد , فالقاتل المدسوس ابن اخيه , والشهيد ابنه , وكان مثلاً في استيعاب الحالة المعقدة لتلك المرحلة . وعندما التقى بزوجته بعد فترة قصيرة على استشهاد محي الدين ... نظر الواحد في وجه الآخر لمدة – ربما كانت دقائق - دون ان يتفوه اياً منهما بكلمة واحدة ... لقد تجمد الزمن. كنا اكثر من عشرة رفاق ورفيقات , تجمدنا معهم في ذلك القاع من السكون , كنا نرى , ونسمع , كيف شيعا ولدهما , ودفناه , واتفقا في ذلك السكون على ان لا تنتحب , كان يخاف منها ان تصرخ وتوصل تماسكه الى نهايته . وهي , كانت احرص على ان تلوذ وتحتمي بذلك التماسك ... . استمر وجودها لمدة اسبوع , ودعتنا , وكنا عندها كلنا ابو فيان .

كان الحزب يساعد الانصار بخمسة دنانير شهرياً , واول شئ فعله مام علي هو تركه التدخين , واقنع الكثير من الشباب على تركه ايضاً , كون المساعدة لا تساعد على هذا البذخ , ومن العار ان يستدين الرفيق كي يدخن. كان يستفز فيهم الرجولة للتحكم في السلوك , قبل نصيحة الاهتمام بالصحة التي يعتبرها تقليدية . كان معه اثنان من اصغر ابنائه , حسين في الخامسة عشرة , وحسن في الثالثة عشرة , ومن هذه المساعدة عليه ان يتدبر امر مصروفهما . كانت لديه بدلتين , وعندما اهترئت احداهما اراد الحزب ان يساعده في شراء بدلة جديدة . الا انه رفض , ومن المساعدة التي يحصل عليها مع ابنيه تدبر شراء هذه البدلات لثلاثتهم .

في الصفحة ( 140 ) يتحدث الرفيق ابو سرباز عن وجودهم في سجن كركوك عام 1962 م : " كان في السجن قاووش كبير ( قاعة كبيرة ) يشغله الفلاحون الفقراء . وكان رفيقنا علي خليفة وهو كادر معروف في منطقة كركوك مراقباً للقاووش , ويعامل الجميع بصورة متساوية وجيدة , ويراعي المسنين والمرضى , ويهتم بنظافة القاووش , ويوزع الاكل عليهم وخاصة اللحم بالتساوي , على خلاف ما كان يجري في الغرف الاخرى . فحاول قسم من كوادر حدك تبديله وتنسيب شخص آخر مكانه من جماعتهم , فأجروا انتخابات , غير ان الفلاحين الفقراء صوتوا بالاغلبية لرفيقنا علي خليفة رغم محاولات الجماعة لمنع الفلاحين من التصويت له لكونه شيوعياً دون جدوى . فقد انتخبه الفلاحون بأغلبية ساحقة رغم كون غالبيتهم من الموالين لحدك !".

كان مام علي خليفة يفتتن بالتفاصيل الاخلاقية للأنسان المبدئي , ويجد لذة عميقة عندما يملئ هذه المفردات بالعدل والوفاء . كان يعمل في تجارة التبغ والتمر والحبوب , وفي احدى المرات , باع خمسين حلانة تمر الى شخص يعرفه بالاتفاق فقط , على ان يأتيه في اليوم الثاني . والحلانة اسطوانة تتم حياكتها من خوص سعف النخيل يكبس فيها التمر , وتزن عشرين او خمسة وعشرين كيلوغرام للكبيرة منها . كان سعر الحلانة مائتي وخمسين فلساً , وجاء مشتري آخر ودفع له ثلثمائة وخمسين فلساً في الواحدة , الا ان مام علي رفض ان يبيع رغم انه سيربح خمسة دنانير اضافية وفي فترة الستينات من القرن الماضي . وانتظر المشتري الاول الى اليوم الثالث حيث استلم المبلغ وسلمه البضاعة . سأله ابنه ماجد الذي اصبح الكبير بين ابنائه بعد استشهاد محي الدين : لماذا لم تبع الثاني ولا احراج عليك , فهذه هي التجارة ؟! اجابه مام علي : ان اتفاقه الاول اهم من الربح , والصدق هو رأسماله الحقيقي في التعامل مع الآخرين . يقول ماجد " انها احد الافكار التي نبتت في داخلي , واخذت توجه حياتي " .

استشهد ماجد في معارك الانفال الشرسة التي شنها النظام الصدامي المقبور على كردستان بعد انتهاء حربه مع ايران . واختفى ايضاً ابنه الآخر حسين الذي يصغر ماجد في ذات المعارك , وسمعت من احد الرفاق انه لا يزال حياً . والشئ المؤكد هو ان الصغير حسن بقى على قيد الحياة . مات مام علي وهو فخور بالحياة التي عاشها , كما يؤكد رفاقه الذين لازموه الى نهاية رحلته . لقد كانت حياته وحياة عائلته احدى الروافد الأصيلة التي امدت التاريخ الوطني بخيرة ابنائها , ويبقى مام علي وعائلته احد المشاعل الوهاجة في تاريخ الشيوعيين العراقيين كونهم المدافعين الحقيقيين عن حرية العراق .
 

 

free web counter