| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

الجمعة 17/9/ 2010

 

تداعيات منكوبة

تقي الوزان

" وقع ", لن أوقع . أربعة اشهر من التعذيب , وهم يعرفون انك لا تمتلك أي شئ قد يؤذيهم , كانوا يريدونك فقط أن لا تكون خارج إرادتهم . من من العراقيين لم يؤمر بهذا الأمر ؟! ومن من الأصدقاء والأقرباء والأهل , وكل من يودك , لم يطلب منك أن توقع ؟! هل الجميع على خطأ وأنت وحدك الصحيح ؟! بدأت اشك بقدرتي على التمييز , رغم معرفتي بان البعض يريدني بهذا التوقيع أن لا اذكّرهم بضعفهم . تركوني الواحد بعد الآخر , واخذوا يتجنبون السلام عند ملاقاتي, يتركون مقاعدهم ويذهبون عندما اجلس في المقهى , صاحب المقهى اخذ يتثاقل من جلوسي , بعد أيام فاتحني بعدم رغبته بقدومي , وأراد أن يخفف من تأثير طلبه فأضاف : ان المقهى تفرغ بسببك . نعم , انه صادق , اعرفه طيب القلب, ومسئول عن عائلة , كان يفرح عندما اترك عنده صحيفة " طريق الشعب" أو " الفكر الجديد " , يتبرع في جميع المناسبات . . تغير الحال , وان قدمت مرة أخرى سيطردني , ليس بسبب فراغ المقهى فقط , بل بلّغوه , النظام لن يتساهل مع أي فرد يعمل في حزب آخر غير حزب السلطة . اشعر بالوحدة , ليس بسبب وجودي وحيدا في الزنزانة , بل بسبب الأجواء التي تحيطني قبل توقيفي . الزنزانة منحتني الحماية من نظرات الآخرين , والعذاب من البقاء في البيت تلاحقني نظرات شقيقتي الصغرى – وهي أكثر إيلاما من غرز الابر في حدقات العيون – بعد ان انفصل عنها خطيبها , وأدركت أنه لن يتقدم احد إليها بعد الآن بسبب كوني شيوعي , حتى أمي حذرتني من البعثيين بتكرار ممل , وصرخت بها في احد المرات: نعرف هذا جيدا . وسألتني : ماذا تنتظرون ؟! لم اعرف بماذا أجيبها .

أصبحت أدرك لغة الجسد والعيون أكثر من أي شئ . عباس زوج شقيقتي الكبرى اعتقد إني لم أره عندما غيّر طريقه في بداية الزقاق , عرفت من زوجته انه سجل بعثيا . عباس مدرس , ورفيق جيد , ومن عائلة معروفة بسمعتها الطيبة , واحد أسباب اقترانه بشقيقتي لأنها رفيقة أيضا , وأرادت بكلامها أن تبرأ ذمتها وتقنعني كي يتخلصوا من تبعية عنادي . المعلم عبد الزهرة عازف العود الجميل , يسمعنا عند كل جلسة سمر أغنية " عد وآني اعد ونشوف ياهو أكثر هموم " , تسمر عندما قابلته , سقطت الدموع من عينيه , لم يقل كلمة واحدة . عرفت انه وقّع في السيارة قبل وصوله إلى مديرية الأمن , كان مرعوبا من صور التعذيب التي أشاعوها . لكل واحد حكاية مؤلمة في فلك التوقيع , احمد كان يضحك بارتباك , أزاح هما عنه , أدركت انه سجل بعثيا , ولو كان التعهد فقط لما فارقه القلق . إلا انه والحق يقال لم يشي او يؤذي احد مثل بعض الآخرين , الذين افرغوا نار حقدهم برفاق الأمس وعوائل المطاردين والمختفين عن أعين السلطة .

كنت أجهد نفسي متخطيا الخوف والقلق كي تبدو هيئتي طبيعية , كنت محاطا بآلاف النظرات والحركات التي تجعلني أسير بلا هداية , كدت أن أتشرنق في الكابوس . الزنزانة منحتني الهدوء , وإعادة ترتيب الأشياء . سكين حسين سرهيد تمزق أحشائي , وأكثر إيلاما من وسائل تعذيبهم التي استمرت طيلة هذه الفترة , حسين سرهيد مهندس زراعي نزق , يحاول البروز ويدّعي دائما إمكانيات اكبر من حجمه الضخم , ضخامة يتفاخر بها بأبهة , كان يتصيدني بعد كل استدعاء للأمن أو للمنظمة الحزبية – وكأنه على موعد معي – ويقول : والله بس أنت رجال , كلنه سقطونه سياسيا بس أنت بقيت. كان في رنة صوته سخرية ووعيد مرعب بالانتقام , كان يعتقد كلما طالت فترة الامتناع سيكون الجرح أعمق واشد إيلاما , وهو يدرك إما التوقيع أو الموت . خدم البعث بشكل مذل , وكلف باخس الأعمال , والجميع يخجلون من ضآلته .

كنت وحدي أواجه مصير وجودي , لا رفاق , ولا أصدقاء, ولا أهل, ولا أي خيط بالمجتمع , كنت أخشى ضميري أكثر منك , أنت صديقي وتستطيع أن تدرك تغير الواقع, لكنه كان يحاكمني بقياسات لم أدرك صلاحياتها لغاية هذه اللحظة , حكّمت عقلي , وتركته يتخبط في ظلمات بئر عميق , أشبه بهاوية الموت لا تعرف أي شئ بعدها . تركوني يومين , كنت أتمنى أن لا اخرج من التوقيف, تخلصت من حالة اللا عبور, علي أن أجهد نفسي لمواجهة العيش بدون كرامة , أصبحت واحدا من القطيع . المهم , لم أخن , ولم اجبن , وما فائدة البقاء وحيدا؟؟؟ اليوم أدركت لماذا استشهد صباح وعبد الحسن وعدنان , كانت صورة امجد أكثر ما تخيفني , عندما وجدوه وقد تجمد وهو جالس في المرافق الصحية بعد أن وقع التعهد بعدة أيام . عباس حوّل حياة عائلته إلى جحيم , أدمن على الكحول , استنجدت بي زوجته كي أساعده على تجاوز المحنة , كان بيتهم بائسا بعكس ما كان سابقا , وجوع عيون طفليه تعلقت بعلبة الحلويات التي حملتها لهم , لم افهم منه إلا كلمة رددها كثيرا " دير بالك تخسر الجوكر " . استمر على الشرب إلى أن وافاه الأجل , بعد ان " خسرت الجوكر " بفترة قصيرة .

تركوني يومين , كي أتشرب ذل التوقيع , أطلقوا سراحي بعدها وأرسلوني مع أحقر شرطي امن عرفته في حياتي ليوصلني إلى البيت , طلبت منهم أن اذهب وحدي, لم يقبلوا , تركوني معه لنجتاز سوية سوق المدينة الذي يقع بيتنا عند نهايته – يمكن الوصول إلى البيت من خلف السوق ويكون اقرب - , اخذ هذا الأجرب يلقي بالتحية للجميع حتى مع الذين لا علاقة له بهم . كان تلميذا عندي في متوسطة الوحدة , انتقل مع عائلته الفقيرة من الريف الى مدينتنا الصغيرة وهو لا يزال طفلا , كانوا ثلاثة أطفال ووالدتهم وشقيقها , عطف عليهم احد الإقطاعيين واسكنهم خربة بجانب قصره مقابل خدمتهم له والاعتناء بحديقته . ورغم ان العائلة انجرفت بالكامل مع احتياجات فاشية النظام, إلا انه كانت لديه نزعات انتقامية أعمق من دونية النظام .

أنت تذكر, كان شرطي الأمن لا يستطيع أن يكشف عن نفسه , فسوف يحتقر من الجميع بما فيهم أهله , هذا لم يكن بعيدا , بل في زمن عبد الرحمن عارف الذي حكم العراق قبل البعثيين , وبعد البعث أصبح شرطي الأمن أهم وظيفة حكومية , أهم من المعلم والمدير والضابط وأستاذ الجامعة , واهم من الكوادر البعثية ذاتها , والبعثي الذي لم يتجسس او يؤذي الآخرين لن يجد له طريقا للتقدم في صفوف الحزب . أصر الأجرب بمسك يدي للجلوس وشرب الشاي في مقهى تتوسط السوق , ويجلس فيها الكثير من المعارف , دفعت يده بقوة , ونظرت في عينيه , تقدمت منه , كان الشرر يتطاير من عيني , تراجع , ودخل المقهى . الجالسون في باب المقهى أداروا وجوههم, احدهم تظاهر بعدم رؤيتنا , وآخر شعر بمرارة التنكيل وكأنه موّجه إليه , الثالث خاف أن انتقم من الأجرب في تلك اللحظة ويطلب للشهادة .

كم فرحت عندما سحبوا مواليدنا للاحتياط , فرزونا عن الآخرين , وقذفوا بنا إلى السواتر الأمامية مع إيران . وقد لا تصدق إني هربت في هجوم الفكة عام 1982 إلى القطعات الإيرانية , ودخلت الأسر لعشر سنوات , ورغم كل قساوتها كانت اخف علي من البقاء تحت رحمة تلك الوحوش الكاسرة . وعندما عدت , كانت قد تغيرت أمور كثيرة , تفكك النظام وتفكك الكثير من أجهزته القمعية , وأصبح النظام أشبه بالمافيات التي تدير السلطة الباطشة في أماكن تواجدها , والشعب لا يرجى منه أي تحرك جديد بعد الفتك به على اثر فشل الانتفاضة , وبداية الحصار الذي هشم ما لم يتمكن النظام من تهشيمه . وختم كلامه , بضرورة التريث بإعادة أي شخص إلى التنظيم .

كان ذلك في بداية الشهر السادس من عام 2003 ولم يمضي على قدومي غير يومين , أي بعد إزاحة النظام الصدامي بشهرين , كان يعتقد إني من المشرفين على إعادة التنظيم , وسألته برجاء : إن لم تكن أنت من ضمن التنظيم , فكيف يتسنى لنا نحن الذين تركنا المدينة كل هذه السنين ان نعرف من الذي انهار وتعاون مع النظام ونكل بالرفاق وعوائلهم , وبين من حافظ على شرف العهد ودفع كل هذا الثمن الرهيب , ولم يتحول إلى شرطي امن للنظام ؟! أجابني بعد تأمل , بأنه يستطيع أن يساعد , ولكنه لا يستطيع أن يعمل في التنظيم . طرق الباب , ودخل اثنان بعد أن فتحه ابن أخي , قمت لاستقبالهم والترحيب بهم . لم اعرف الأول , ولم يساعدني سليم الذي تأفف ولا ابن أخي , احتضنني , وبنواح اخبرني رزاق بنفسه ,أبعدته , أردت أن أراه , يا ألهي , تكسرت الكلمات , اختنقت بالعبرات , كم تغير وهزل ؟ لا توجد شعرة سوداء واحدة في رأسه ووجهه , احتضنته بشدة , أشم فيه رائحة العمر الذي تجاوز الخمسين , كان شاعرا مرهفا , ولا يطيق أية خشونة أو إساءة , يا ألهي كيف استطاع أن يعيش كل هذه الفترة ؟ كان يختض مع نشيجه , اختلطت دموعنا , كان يلوذ بمحّنتي , قبلني , أراد تقبيل يدي, سحبتها وقبلت يديه , يا ألهي كم أودعت فينا من جبروت حبك , سحقت تحت وطأة نبله , لم اعد أحس بشئ غير تلاحم الوجدان . انتشلني صوت سليم وهو يصرخ : دا اكَلك اطلع , يبدو انه كررها عليه أكثر من مرّة ولم ننتبه , كان ابن أخي يضحك ويسحب بسليم ويحاول أن يقنعه : جاي بس يسلم ويطلع , كان الثاني حسين سرهيد وهو مرتبك ويقول : يابه بس اسلم عليه والله , هذا أخوية . حسين بمجرد ان شاهد سليم قال له : والله بطل . إلا أن سليم فقد أعصابه , ولم يميز بين انكساره, ونذالته السابقة , وأصر على طرده , كان المنظر مضحكا , حسين بجسمه الضخم الذي يعادل أربعة أضعاف سليم , وسليم كنا نسميه في طفولتنا لغاية تخرجه من الجامعة سليم المعطوش , و"المعطوش" تعني في لغة هواة الطيور, الطير الذي يبقى حجمه صغيرا رغم تقدمه في العمر . لقد تحول حسين إلى حشرة صغيرة أمام إصرار سليم , وسألني بتوسل : ترضه هيج أيصير واني جاي اسلم عليك ؟ لم أجبه , وأخرجه سليم بالدفعات .
 



 

 

free web counter