| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الجمعة 13/5/ 2011

 

 بلا عنوان

تقي الوزان

خرجت من المدينة قبل دخولي الثلاثين , وجئتهم بعد الخمسين . لست وحدي , كنا كثيرين , وجدنا الكثير من الاهتمام والود والاحترام , ليس من أهلنا وأقربائنا فقط , بل لدى المعارف , والكثير من الذين لا نعرفهم , كان يكون ابن مدينة جاء بعد اختفائنا و نتيجة ما رآه من بطش بأهلنا واتهام كل من يحاول مساعدتهم بالتآمر على سلامة البعث والوطن . كان لاختفاء بعضنا عن أجهزة الأمن المبثوثة في كل مكان , ولفترة طويلة قبل أن نتسرب إلى كردستان أو الخارج نتيجة هجمة النظام على الشيوعيين عام 1978 قد خلق مواقف يعدها الجميع بطولية , بمن فيهم البعثيين أنفسهم . اليوم أصبحت من الماضي , إلا ان الجميع يتذكر كيفية مراقبة النظام لكل زوايا المجتمع , وكيف كان كل شخص يراقب نفسه خوفا من أن ينزلق بأي تصرف أو تعليق قد يكلفه حياته إن هو فسر بغير مصلحة النظام . رفيقنا صادق , وقبل أن تشتد الهجمة بأكثر من عام , اجبر على الانتماء إلى البعث واستمر بالتنظيم معنا مثلما أرادوا منه , وهو يعتقد إننا لم نكن نعرف . عزلناه , وقطعنا الصلة به . جاء صادق مرحبا بي بكثير من الود , تجاوز حيرته , وبارتباك : كنت خائفا من أن يعتقدوا ان عدم إيصال معلومات عنكم لأني أخبرتكم , وهذا يعني إنني لا أزال مخلص للحزب الشيوعي أكثر من البعث وهذه عقوبتها الإعدام . يكمل صادق بكثير من المرارة والخوف: كانت الفترة الأصعب في حياتي , شعرت بضآلتي , لا أستطيع النوم لفترة طويلة , حاولت الاتصال بكم مرة أخرى ورغبت أن أزيد في التبرعات لكي تقتنعون , لأني كنت على ثقة باني لم أضركم لأنهم يعرفون كل شئ عنكم , وعندما اجبروني على الانتماء فاجئوني بأسماء الخلية التي كنت اعمل فيها . كان يريد أن يقنعني بحجم المعاناة التي تحملها بسبب انتمائه السابق للحزب , وأضاف : الحمد لله الذي سلمكم طيلة هذه الفترة وأعادكم إلينا كي ترفعوا رؤوسنا مرة أخرى .

استمع إلى صادق جيدا . وعينيّ تجمدت في عيون أبو عمشة , أريد أن اعرف ما يدور بداخله , لم يكن خائفا , ولكنه مشتت , البارحة عندما أذيع بيان العفو , سألته أم عمشة دون أن تتكلم , عن: ماذا يجب عمله ؟ لم يخدعها ويطمئنها , ولكنه قال : لا يوجد طريق آخر . ابو عمشة ( حسين حجي كنجي ) يدرك جيدا ان النظام لن يرحم أي واحد من أفراد عائلة كنجي , والعائلة احد ركائز النضال الوطني في منطقة بحزاني طيلة عقود طويلة . شقيقه الأكبر المرحوم جمعة والد الرفيقين صباح وكفاح , معروف بسخريته اللاذعة من الأوضاع ومن البعث لدى الجميع في دهوك وفي أرياف الموصل ولكل من عمل في حركة الأنصار . ابو عمشة لم يقل شيئا عندما تهيئوا للذهاب , يودعهم , ولكن , ليس بابتسامته المعهودة التي تملئ وجهه وتوقد الأمل حتى في أقسى اللحظات , قبل أطفاله الخمسة , وسلمها الرضيع الذي كان يحمله بين يديه , صافحها , ضمها , تسمر النظر بين الاثنين يلهث بالمجهول , كان العمر بهيجا . لا احد يعرف سر السحر بين الشيوعيين غير الشيوعيين أنفسهم . كانت تساعده على تجاوز هذه اللحظة , وهي مثله , تشعر ان الفراق هذه المرّة ليس كالمرات السابقات , في المرّة الأخيرة كانت أم عمشة تعيل أطفالها بعد أن أرسل الحزب أبو عمشة للدراسة في صوفيا عاصمة بلغاريا , والأصح للعلاج , فهو يعاني من ثمانين في المئة تكلس في المفاصل . لم تترك نفسها وأطفالها للعيش تحت رحمة السلطة , كانت تعيش على إطراف مقرات الأنصار الشيوعيين , تعمل في الزراعة وتربية الدواجن لتعيل أطفالها , والأنصار جميعا يعرفون كرمها , لم تشتكي يوما , تقابل الجميع بابتسامة ترد عليهم وحشة الأهل الذين افتقدوهم لسنوات , أطفالها يتحدثون الكردية والعربية بطلاقة , والكبير مناضل يشارك في فعاليات الأنصار ولم يكن يتجاوز الثالثة عشر , لا اعرف من أين كانت تستمد طاقتها , لم تعرف القراءة والكتابة , ولكنها تجعل من كل الصعوبات ضرورة لابد منها . كانت تتلفت بين الفينة والأخرى , وترفع يدها , وأبو عمشة متسمرا يتتبعهم بنظره في طريق الوادي العميق, وهم في آخر الصف الطويل .

صادق مدرس علوم , وفي فترة الحصار استفاد من الدروس الخصوصية التي كان يعطيها للطلاب مع زوجته المدرسة أيضا , ورغم قسوة الحصار إلا ان وضعه كان أفضل من الكثيرين كما يقول , وقد تمكن من شراء بيت جيد , لا أفكر بامتلاك مثله حتى لو أعيد خلقي من جديد , ورغم ذلك يتشكى كثيرا , وعدني على دعوة , ولكن ليس هذه الأيام التي يحتفل فيها الكثير من أصدقائي بقدومي . لم اعد افهم قفزاته في الحديث , ليس هو فقط , بل توجهات اغلب الذين رأيتهم, لا اشعر باني أقف على ارض صلبة مثلما كانت قبل خمسة وعشرين عاما . رغم المطاردة والخطورة الدائمة إلا انك تعرف كيف تتوجه , اليوم أسقط النظام والأرض تميد تحت قدميك . اعتمدت على اثنين من الرفاق يساعداني في معرفة الآخرين , الأول كان أسيرا في إيران لعدة سنوات , وعندما أعاتبه : لماذا لم تخبرني بأنه يكذب ؟! يجيبني : وهل من المعقول انك تصدق ما يقول ؟! اسأله : وكيف لي ان اعرف ؟! يجيبني : وماذا يعنيك ؟ إذا كذب أو صدق , اسمع من هل الإذن وطلع من الثانية . والثاني ترك الوظيفة والمدينة واخذ يعمل بائع سمك في البصرة منذ مدة تزيد على العقد والنصف , وعندما تسأله عن احد , يقدم الأسباب والتبريرات قبل ان يقول انه يكذب , ويكمل لازمته : انه مجبور على ذلك . وبقيت مثل " الأطرش بالزفة " مثلما يقول المثل.

يقول صادق : في البداية جمعونا بتنظيم اسمه الصف الوطني , فوكَ ما صرنه , خلونه دون اصغر بعثي , يعني بالروضة, مو بس آني , كل المشكوك بولائهم . رفعت عيني كي استنجد بأحد الاثنين ليسعفني على فهم سبب استرسال صادق بموضوع نعرفه جميعا , الأول بمجرد ان التقت عيني بعينه خفض رأسه بسرعة , وأداره قليلا . وافهمني بهذه الحركة : شنو اللي يفرق لك ؟ والثاني رفع حاجبيه , ومسد شاربيه , ونظرني بتأمل , وفهمت منه ان الموضوع يحتاج الى شرح . يقول صادق بألم : أتصور طالب عندك يجي يحجيلك بالسياسة , وشنو اللي لازم تسويه , لان هو بعثي وأنت بالصف الوطني , وما عليك إلا أن تأكد : صحيح رفيق , تمام رفيق . سألني : تتخيل المعاناة ؟! لو ما تتخيلها ؟! انتوا رحتوا وتركتونه , وما تعرفون اشصار بينه .

لم أطق الاتهام: ( رحتوا وتركتونه ) . نحن لم نترككم بل انتم الذين تركتمونا ونحن بينكم , نحن لم نذهب , وبدء صوتي يحتد , نحن اجبرنا على ترك منازلنا, ووظائفنا , ونسائنا , وأطفالنا , وكل ما يعمل الإنسان لأجله , كنا معرضين في كل لحظة للموت , والموت ارحم بكثير من أن يقبض عليك , وتعرف هذا جيدا . ورغم الجرح الذي فتحه في كلامه إلا أني كنت حريصا على أن لا ادعه يعيد شم الروائح الكريهة التي شوهت إنسانيته في ذلك المستنقع . لا أريد أن أحدثك عن التشرد , والجوع, والثلج , وآلام الإصابة بالكيماوي , والكثير الكثير . ورغم ذلك لم ننساكم لحظة واحدة , كنتم في حدقات عيوننا , هل تعرف ابو نصار ؟ رفيق جرح بطلق ناري في ساقه بإحدى المعارك في بهدنان , ولطول المسافة , وعدم وجود الأدوية مع المفرزة , أصيب بالكَنكَرينا . قرر الطبيب بتر ساقه , ولا يوجد غير منشار خشبي , ولا يوجد بنج أيضا , ولا يوجد أمامنا غير اسقائه بطل ويسكي , ومع التحضير للبتر , كنا نثير معه بتوجيه الطبيب صور شوارع مدينته , ومقاهيها , وأصدقائه , وعائلته , كنا نستعين بها لنثير عنده أقصى درجات تحمل الألم . وقبل بدء المنشار بالقطع طلب ان يوضع خرقة في فمه , وقفنا خارج الغرفة , نسمع صوت تقطيع اللحم , صراخه يعلو , تداخل صوت قص العظم مع صرخته التي هزت الجبل , سقط يسبح بعرقه , ولم يفق إلا بعد ساعات . بعد يومين اكتشف الطبيب إن القطع قد تلوث , ويجب إجراء عملية أخرى , وأجريت بنفس الطريقة , وهذه المرّة سلم من التلوث . ولا يزال أبو نصار ذلك النبيل الذي يعمل كل شئ في سبيل رفاقه وأصدقائه .

سابقا تفهم البشر من كلامه , اليوم من الصعب ان تعرف الواحد ماذا يقصد . ديّن , وجبهته تصرخ بختم السجود ,وثلاثة محابس في يديه , ومسبحة تسعة وتسعون حبة , لكنه يقسم بسيد الشهداء كذبا للحصول على خمسة مئة دينار فقط . علماني ويساري , ينتقد كل مظاهر الخرافة , وفشل قادة الأحزاب الطائفية , وبعد يومين يدعوني للذهاب مع عزائهم سيرا على الأقدام لمدة ستة أيام كي نصل إلى كربلاء .

صادق بمبالغة مقرفة : لا احد ينكر تضحياتكم , واقسم بالله العظيم لم يرفع رأس العراقيين غيركم .

من حجيت على معاناتك , أجبته : ذكرتني بالرفيق أبو عمشه , بعد انتهاء الحرب مع إيران سحب الجيش للهجوم على كردستان . في وادي مراني المطوق , ودع أبو عمشه زوجته وأطفاله الستة , بعد أن أعطى النظام عفوا عاما للذين سيسلمون أنفسهم إلى السلطة . كان يعرف حقد النظام على عائلتهم , وبقاء العائلة مع البيشمركَة الذين قرروا الاختباء والانسحاب الى الحدود التركية وسط انتشار عشرات الوحدات العسكرية على امتداد المنطقة , واحتمال السقوط في كمائن , او خوض معارك وارد في كل لحظة , ومن المخاطرة الكبيرة مرافقة النساء والأطفال في هذه الظروف . وبعدها السير بمحاذاة الحدود الجبلية المعقدة والشاهقة للوصول إلى مقر الحزب الذي أصبح قرب الحدود المقابلة لقضاء نغده الإيراني . وهذا الطريق بدون عوائق سيستغرق العشرين يوما , وقد يطول أكثر مثلما وصلت المفرزة بعد شهرين . ودعهم ابو عمشه وهو يحدس ان الفراق سيطول , وما في اليد حيلة , واستمر الفراق إلى الأبد .. واستشهد مع أم عمشة وأطفالهم الستة , سبعة آخرون من بيت كنجي , ولم تعرف قبورهم لحد الآن , حالهم حال آلاف العوائل التي أبيدت في الأنفال .

لغاية هذه اللحظة لم اسمع في يوم من الأيام إن أبو عمشه اشتكى . وازيدك علما , إن أبو عمشه تزوج مرّة أخرى , ولم يوفق لإنجاب أي طفل .

صادق : ليس الجميع يمكن أن يكونوا أبطالا .

اجبته بحدة : ومن طلب منك أن تكون بطلا ؟! لا احد يطلب منك أكثر من أن تكون شريفا .

تقدم مني وحضنني , قبلني , وهو يعتذر : أردت فقط أن أوضح ما رأيناه من هؤلاء الوحوش , ولم نتكلم لأي شخص غيرك , أنت الوحيد الذي يمكن أن تفهمنا .

شعرت بضعفي لعدم السيطرة على الموقف , وهذا ما زاد في غضبي على نفسي , تشتت , ولم التقط الموقف الأسلم في تلك اللحظة الفاصلة . عبرت السيطرة العسكرية التي من عندها تكون الحركة في المناطق التي تحت سيطرة النظام بالكامل . الانضباط اطلع على هويتي والإجازة العسكرية , تفرس في وجهي , اعادهما , وارتسمت على وجهه ابتسامة قطعها بسرعة , واشر للسائق بالذهاب . أدركت انه عرفني , أو عرف إني قادم من البيشمركَة , لماذا لم يعتقلني ؟! وهم في السيطرة مفرزة كبيرة , قلقت , ربما سيخبرهم ويعتقلوني عند مدخل السليمانية ؟ سأنزل في الطريق , وكلما اقتربت من مدخل المدينة ازداد القلق , لم أجد أي مكان فيه أشجار اطلب النزول والاختباء فيه , الطريق قصير وخالي , دخلت المدينة وأنا التهم بنظري الجميع , ماذا افعل ان هم داهموني ؟! لا شئ . أعاد لي السؤال بعض التروي , لا شئ من المخاوف التي أثارتها ابتسامة الانضباط .

في الطريق إلى بغداد تأكدت ان الانضباط كان متواطئا , بل فرحا لرؤيتي . وبعد ما يقارب العشرين عاما سألت صديقي عادل الذي يعمل في ذات السيطرة , وقد التقيته هناك في مرّة سابقة , لم أزره مرة أخرى , أحسست إني اسبب له الإحراج الشديد , فهو كان شيوعيا , ونقل إلى الانضباط بواسطة ابن خالته صاحب الرتبة العالية . سألته عن ذلك الانضباط الذي كان قصيرا وسمينا , وأكمل عادل باقي صفاته : اسمر , املط , وعلامته الفارقة ( طبرة ) في خده الأيمن . هذا عبد علي من أهل الثورة , بعثي تمكنت من التأثير عليه , واخذ يغض النظر عن جميع الذين يأتون من عندكم .

أريد أن اخفف عن صادق حدة نبرتي , أردت أن اطمئن كوني لم اجرحه , لكنه كان قد ودعني بحرارة وخرج .

احد الرفيقين ودعني وخرج مباشرة بعد صادق . والآخر عاتبني : هوايه جنت خشن وياه .

سألته : ما هو وجه الخشونة ؟! وأنا أحاول أن انهض به من حالة الحطام التي اعتادوها , واخذوا لا يفرقون بين المواقف: إذا يريد يعتبر التجسس علينا ذكاء , والأكثر منها, معاناته لأننا عزلناه ولم يعد يحصل على معلومات يوصلها أليهم . مو قصدي هذا, أجابني : قصدي إن صادق ابن عشاير , و يبقون بدو, واهم شي عنده الكرامة الشخصية , ولا اعرف كيف سيتصرف إذا شعر بإهانة .

كانت هذه الكلمات اشد إيلاما من كلام صادق . اندفعت إلى الحمّام كي لا يفضحني التقيؤ من هذا الوضع .





 

 

free web counter