| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

السبت 12/2/ 2011

 

مواقف وشهداء مجهولون

تقي الوزان

بعد انهيار النظام البعثي , كم تمنيت أن لا يقتل عدي ولا يعدم برزان , لانهما كانا الأوضح في التعبير عن تفاهة وانحطاط النظام . في عام 1978 كنت اعمل في مطبعة رمزي , وكان تحت الطبع كتاب لبرزان بعنوان " امن الخليج العربي " على ما اعتقد , وهي دراسة كتبها له كما أشيع احد الأساتذة في جامعة بغداد . وعندما كان يجري الحديث , او السؤال عن مراحل طبع الكتاب , ترتسم ابتسامة سخرية على وجوه مجموعة المصممين في المطبعة , ويشار له بالأستاذ مدير المخابرات , رغم ان النظام كان في أوج قوته وجبروته .

ناظم رمزي فنان متعدد المواهب , رسام , خطاط , مصمم , ومن اشهر المصورين الفوتوغرافيين في العراق . ينحدر من مدينة السليمانية , ويمتلك مطبعة رمزي التي تقع على طريق معسكر الرشيد سابقا , وهي أفضل المطابع العراقية , وتتكون من ثلاثة أقسام. الورشة الفنية ويديرها ناظم رمزي , ويعمل معه في التصميم والإخراج فنانون تشكيليون معروفون مثل صالح الجميعي وهاشم سمرجي , ويلتقي فيها اغلب الفنانين التشكيلين الكبار مثل إسماعيل فتاح الترك , وأدباء وشعراء كان على رأسهم شفيق الكمالي الذي يرأس تحرير مجلة " آفاق عربية " , التي تصدرها وزارة الثقافة والإعلام وتطبع في مطبعة رمزي . والقسم الآخر المالي بإشراف المحامي مهدي علي زيني , والمسئول التنفيذي النحات مكي حسين مكي , ثم المطبعة بإدارة احد أفضل الطباعين في العراق (مريوش) , مريوش كان يمتلك قردا صغيرا يجلس أوقات كثيرة على كتفه . كانت فاشية البعث قد تجسدت في اغلب مظاهر الحياة , وعندما تسأل مريوش عن شخص معين , يؤشر على القرد ويعني : بعثي احذر منه .

كان ناظم رمزي يدير مؤسسته الطباعية هذه بكثير من الروية والديمقراطية , فلم أره يوما تدخل في شئون المطبعة , عدا المسائل الفنية مثل مزج الألوان أو طريقة إخراج الصور واللوحات , ولا حتى مع زملائه الفنانين المسئولين عن التصميم والإخراج الا ما كان في صالح العمل , وكثيرا ما كان يسألهم عن تكامل تصاميمه الشخصية , حتى بات تداول الرأي بإخلاص وبعيدا عن الأنانية السبب الرئيس لتكون انجح مؤسسة طباعة عراقية , ولم يتدخل في الأمور المالية والاقتصادية الا ما يخبروه به , مثل تطوير المطعم التعاوني الذي يأكل فيه جميع الفنانين والعمال والحراس . لم أره عصبيا او متضايقا طيلة الفترة التي عملت فيها في المطبعة , والتي استمرت لعدة اشهر بعد ان تركت التدريس في الكوت نتيجة مطاردات شرطة الأمن أثناء الحملة على الشيوعيين عام 1978, والتي انتشلني فيها مكي حسين من البطالة وأوجد لي عمل باستحداث قسم الأرشيف بالاتفاق مع ناظم رمزي ومهدي علي زيني .

كان رمزي حريصا على ان يكون واحدا من المجموع , وهو مطمئن لنجاح عمل مؤسسته بعد أن تشبع الجميع بروحية الإخلاص لوحدة الإنتاج , والجميع بما فيهم الحارس يفتخر عندما يخرج عدد المجلة متكاملا , والجميع يتألم عندما يكون العدد ناقصا . ولو تيسر لان تكون هذه الإدارة الناجحة في عمل مؤسسة حزبية , لأصبح ناظم رمزي من انجح الزعامات السياسية في العراق . الزعامة اليوم ليست ملهمة مثلما كانت تتجسد في السابق , فبعد ان حسم الصراع لصالح النظام الرأسمالي , زحفت مجموعة قيم وأخلاقيات هذا النظام على الحياة العامة , مثل الاستئثار , والأنانية , والجشع , والتحايل , والكسب غير المشروع وغيرها , وجميعها قيم فردية عدوائية أضعفت رابطة التعاون الجماعية , ولم تعد الأحزاب-- وبالذات اليسارية التي استمرت في نهجها النبيل -- ان تمتلك ذات التأثير الجماعي أو ألقيمي . إضافة للتوسع في تنشئة ألذات عبر وسائل الاتصال الحديثة والفضائيات والانترنيت , خفضت كثيرا من تأثير فاعلية الزعامات السياسية . والغريب ان البعض يطالب الزعامات الحالية بنفس الوظيفة (الفذة) في الصراع ألتآمري المستميت بين النظام الرأسمالي والاشتراكي , ولم يدركوا إن أوهام الزعامة بهذا المعنى انتهى وقتها . وان منحت صفة ( الزعامة ) للقيادات الحالية , فهي لا تتعدى الإدارة الناجحة لتوظيف الممكنات في خدمة المشروع السياسي , ولملمة مكونات النهوض وسط هذا الركام الذي يحيط بكل شئ .

وجدت في المطبعة بعض الشيوعيين الذين لا تختلف وضعيتهم عني , كان من بينهم شلال الذي استخدمه مكي معي في الأرشيف , وكان طالب سنة أخيرة في الهندسة التكنولوجية , متوسط الطول ونحيف وصوته واطئ وضعيف , ولا يتحدث الا بعد تفكير , ويزن الأمور بأكبر من عمره , ولا اعرف هل هي طبيعته أم اكتسبها نتيجة الوضع السياسي المعقد . ووجدت أيضا عبد الزهرة , وهو من أهالي الثورة وكان يعمل في دار الرواد مطبعة الحزب الشيوعي , وعند اشتداد ألازمة وتقليص عدد العاملين في الرواد , وجد له مكان هنا وعن طريق مكي أيضا . كان بين شلال وعبد الزهرة علاقة تنظيمية وصداقة متينة , ويشدها الحرص المتفاني في إعادة الاتصال بالرفاق المقطوعين نتيجة الهجمة الدموية على الحزب .

احد الفنانين التشكيلين وهو رسام لا يعرف غيري من هذه المجموعة , بالأمس قابلني وأنا اخرج من باب المطبعة , وأخبرته بعد التحية : إنني جئت للسلام على الأخ مكي . اليوم شاهدني وأنا اصعد السلم إلى الأرشيف , وسال عني الاستعلامات وتأكد من إني اعمل هنا . خرجت مباشرة , ولم أرى المطبعة لحد الآن . عرفت بعدها , انه صعد الى الطابق الثاني الذي يقع فيه الأستوديو , ولم يعرف ان ناظم رمزي يعرف بوضعيتي , واخبره بأنني شيوعي (خطر) مطلوب ومن عائلة شيوعية , ولولا اعتزازه بناظم رمزي لكان قد اتصل الآن بالأمن العامة . ناظم رمزي شكره بدوره , واستفسر عني , واخبروه باني خرجت . وطيلة ستة اشهر أخرى كان ناظم رمزي يرسل مع مكي راتبي الى زوجتي وابني , خوفا من أن أكون لم احصل على عمل آخر . ولحد هذه اللحظة لم اعرف من هو صاحب الفكرة في استمرار إرسال الراتب , ناظم رمزي ام مهدي علي زيني او مكي حسين . فالثلاثة كانوا من معدن واحد , ومن عيار 24 .

الفنان الرسام انسحب لحياة منطوية وأدمن الشرب , وكان اكبر من الانزلاق في الدروب الفاشية إلى أن وافاه الأجل رحمه الله وهو في الخمسينات من عمره . كان يعتقد انه ابن البعث المدلل عندما كان البعث في حاجة إليه , ولكنه اكتشف ان التمرغ في وحل الرذيلة هي القيمة الوحيدة عندهم .

بعد ست سنوات عاد شلال الى ذاكرتي بشكل ملّح , كان صديقي في البيشمركَة ياسين شديد الشبه بشلال , ليس بالمواصفات الخارجية , ولكن بطريقة تعامله مع الحدث . كان الحزب قدرا عليه أيضا , كتوما وصبورا , ويعمل بعشق في اخطر مواقع الحزب , كان مراسلا بين القيادة في كردستان ومنظمة بغداد . لم يتذمر , ولم يدعي البطولة , ولم يتحدث في أي يوم عن الخطورة , كان يعتمد على ذكائه في تدبير الكثير من المستلزمات . ياسين واسمه الحقيقي ( جماهير ) هو ابن الشهيد أمين الخيون الذي أسس منظمة " الكفاح المسلح " المستقلة في الاهوار , ولم يذهب مع القيادة المركزية بعد انشقاقها كما يتصور البعض . ويصف الأستاذ عزيز الحاج في مذكراته " شهادة للتاريخ " الشهيد ابو جماهير: " كان مأخوذا بمنبته العشائري , واعتداده بنفسه كفارس جرئ , وهو ما لا ينكر فيه . فعائلته هم رؤساء قبيلة " بني أسد " في جنوب العراق المتاخمة لمنطقة الاهوار . وجده هو " سالم الخيون " الذي قيل انه كان مرشح القبائل في مطلع القرن العشرين – أي بعد ثورة العشرين – ليكون ملكا على العراق" . ويستدرك الحاج فيقول : " لم أقرأ هذه المعلومة في المراجع التي درستها " . أطلق سراح ابو جماهير بعد ان اعتقل في الموجات الدموية التي شنها البعث لإنهاء حركة الكفاح المسلح في الاهوار مع إطلاق سراح الدفعات الأخيرة لأعضاء القيادة المركزية . ولكنه بعد أيام اغتيل من قبل عصابات الأمن في وضح النهار ليتخلصوا من دمه ويقولوا : نحن أطلقنا سراحه , ولتسجل الحادثة ضد مجهول . كما يؤكده الحاج في مذكراته في الصفحة 369 .

ياسين (جماهير ) استشهد بعد ان اعتقل مع البريد الحزبي في بغداد , ولم يعرف قبره لحد الآن . كنت أدرك سبب اعتداد ياسين وتمسكه بأصعب حلقات العمل الحزبي , فالقضية احد مكونات دمه , والوراثة لا يمكن لأحد تجاوزها. سألت مكي عن شلال وعن تاريخه العائلي , واخبرني : بان والده احد الشهداء الشيوعيين الابطال المعروفين عام 1963 , ومن المؤلم لم اعد اذكر اسم والده الشهيد , ولم اعرف أيضا والد عبد الزهرة . وغيب الاثنان شلال وعبد الزهرة بعد ان اعتقلا في بغداد وهما يعيدان العلاقات مع من تقطعت بهم العلاقة مع الحزب في سنوات 79 – 1980 , ولم يعرف عنهما شئ لحد ا لان .

رغم كل مضايقات السلطة , ظل العمل يسير في مؤسسة رمزي وفق سياقات يوحدها نبل الهدف , وبعيدة عن الغيرة , والأثرة , والذاتيات المريضة التي هي اشد فتكا من أشرس المتربصين للإيقاع بالمؤسسة . كان ناظم رمزي أشبه بالمخرج المسرحي في إدارة مؤسسته , فهو يوظف فنون عدة فنانين , الرسام , الموسيقي والمؤثرات الصوتية , الإنارة , الملابس والإكسسوارات , الماكياج , الممثلين , وعمال الديكور , وجميع العاملين في الفرقة المسرحية , في اتجاه هدف نبيل محدد هو فكرة المسرحية التي كتبها المؤلف . والمشكلة الأكثر تعقيدا اليوم في العراق للديمقراطيين واليساريين , ليست في توحيد جهود مجموع العاملين باتجاه الهدف النبيل المحدد فقط , بل في الجمهور الذي لا يدرك الفرق بين حقيقة الأعمال الجادة التي تهدف إلى إنقاذه من الضياع والبؤس الذي يتخبط فيه , وبين مهازل الحركات السياسية والأحزاب التي تقود الحكومات التي أعقبت النظام ألصدامي , وهدفها الضحك على ذقن هذا الجمهور .

الفاشيون لا يتحملون نجاح الآخرين , ويستخدمون كل وسائلهم للاستحواذ عليه , ولا يتورعون من استخدام أخس الجرائم لتحقيق هدفهم . ناظم رمزي من أفضل مصوري الفوتوغراف العراقيين , ولديه مجموعة صور تغطي العراق ومدنه من كردستان إلى الفاو. وتمكن بعينه الفنية من رصد أجمل الخصوصيات العراقية , سواء المتعلقة بالتراث والجغرافية والصناعات اليدوية , او بالعادات الاجتماعية وخصوصية كل منطقة . وزارة الثقافة والإعلام العراقية أصدرت لعدة سنوات الروزنامة الوطنية بفوتوغراف ناظم رمزي . وأصبحت مؤسسته ابرز المراجع لمعرفة معالم العراق وفنونه لدى الكثير من جامعات ومؤسسات فنية عالمية .

كان العمل يجري كعادته كل يوم عندما طوقت المؤسسة بسيارات عسكرية , وانتشرت قوات من الحرس الجمهوري والأخرى بلباس مدني من الأمن , أوقفت المطبعة عن العمل , وسيق العمال جميعا الى خارجها . وصعدت مجموعة من الأمن الى الطابق الثاني , وفي المرسم اشهروا السلاح بوجه الموجودين وصرخوا بهم : أية حركة ستكلف صاحبها حياته . شدوا وثاق ناظم رمزي وعصبوا عينيه , وأمروا الجميع بالانصراف الى بيوتهم لغاية ما يتم استدعائهم مرة أخرى , وكل من يتحدث او يترك بيته سيكون مشتركا مع ناظم رمزي ومصيره الإعدام.

لقد قرر الفاشست الاستحواذ على المؤسسة , ولم يجدوا أي شئ يمكن ان يفسر ضد ناظم رمزي او مؤسسته . فاستعانوا برسالتين من جامعة بنسلفانية وأخرى من أكسفورد يطلبان فيها بعض الصور للملوية في سامراء , ومنارة الحدباء في الموصل , وساعة القشلة في بغداد . على إنها تراسل مع الأجنبي , وتجسس لصالح العدو لتحديد مواقع إستراتيجية في العراق . المهم صودرت المؤسسة لصالح القيادة القطرية لحزب البعث , وناظم رمزي لعدة اشهر تحت التعذيب في سراديب الأمن العامة لكي ( يعترف ) بعمالته للأمريكان والإنكليز . وعندما عجزوا منه , سجن لعدة سنوات من قبل محكمة الثورة , ويطلق سراحه بعدها ويتمكن من السفر إلى لندن , وآخر آثاره الفنية التي عمل عليها لعدة سنوات في لندن الزخرفة الفنية التي تحيط بآيات القران الكريم طباعة وزارة الأوقاف السعودية . اما المحامي مهدي علي زيني فقد وافاه الأجل في بغداد ألما على ما وصل إليه العراق . والنحات مكي حسين تمكن من الوصول إلى كردستان , وشارك في تشكيل المفارز الأولية للأنصار , واستفاد من خبرته الإدارية بخلق آليات فاعلة في إدارة المواد التموينية لحركة الأنصار الشيوعيين .


 

 

free web counter