| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

الخميس 11/12/ 2008



احداث من الزمن المنكوب

تقي الوزان

لم اعد اتذكر متى تعرفت عليه بالضبط , الشئ المتأكد منه انه صديقي ويندر ان يمر يوم دون ان التقي به , يصغرني بثلاث سنوات وطوله يزيد على المئة والثمانين سنتمتراً ووزنه يزيد على المئة كيلوغرام , صدره عريض وهيكله اشبه بلاعب الحديد , ورغم ضخامته الا ان حركته خفيفة وانشط من مَن في ربع وزنه. سألني وهو متأكد باني لن اعود لموقع العمل : هو يعرف ظروفك وما اعتقد راح يخبر اخوه .
اجبته : شوف نوري آني ما انتظر يطلع اعتقادك صح لو خطأ , ما ارجع مرّة ثانية للموقع , افتهمت ؟ لولا ؟!
نوري : ما معقولة اطلّع عامل آخر بأجور يوم كامل على ساعتين شغل , باجر آني أكمل الحفر .

نوري خريج ثانوية الصناعة , ويعمل مقاول ثانوي في تأسيس الكهربائيات , ويميل لاخذ المقاولات البعيدة عن مراكز التجمع مراعاة لرغبتي , اصبحت لا استطيع من تنظيم وضعي بدون العمل معه . كنت اعمل على حفر ساقية بعمق عشرة سنتمترات داخل مساحة كونكريتية يبلغ طولها الثلاثين متراً في مؤسسة حكومية مقابل المجمع العلمي العراقي في الوزيرية . الدريل الكهربائي الضخم يكاد ان يشق طبلة اذني بصوته , يهزني بشدة , ويثير الغبار كثيفاً علي . ولكني تفاجأت برؤيته وهو على بعد مترين مني , اطفأت الدريل , صافحته , وبالكاد عرفني , ولو تريثت ثانية واحدة لما حدث هذا الاحتكاك . المقاول الاصلي راسم , جاء ليرى ما انجزه نوري من العمل . اكملت مع راسم المدرسة سوية لغاية الاعدادية , هو ذهب الى الهندسة , وانا الى اكاديمية الفنون الجميلة . لقد ابدى استعداده لمساعدتي وقلقه علي , الا اني طمأنته بأني سأخرج من العراق قريباً . كان معه اخيه الكبير , وهو ريفي بسيط , وقد لفت انتباهه حرارة اهتمام اخيه المقاول بعامل , كان عليه ان يعامله بتجاهل لا ان ينفرد بالحديث معه . شبه عليّ , حاول معرفتي , لم اعطه اي مجال ينفذ من خلاله , وهو سبب تخوفي وتركي العمل مباشرة بعد تحية راسم الحارة وذهابهم . ورغم حرارة تحية راسم , الا انه رحمه الله - توفى بعد سنوات – لم يعط نوري بعد ذلك اي عمل .

منذ قيام الجبهة الوطنية عام 1973 كنا نلتقي بشكل مستمر في مكتب الاخوين شاكر وشكر للمقاولات الكهربائية , وهو المكان الذي التقيت فيه بنوري . كان المكتب في عكَد النصارى المحاذي لسوق الشورجة في المسافة المحصورة بين شارع الرشيد وشارع الجمهورية , وهو سوق اصبح متخصص بالمواد الكهربائية . كان من رواد المكتب المرحوم ابو زمان ( عبد الصاحب الحميري ) مرشح اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي , ومدير مكتب المرحوم ايضاً الوزير الشيوعي عامر عبدالله . الا ان وظيفة مدير مكتب وزير لم تشفع له عند بدء الحملة على الشيوعيين عام 1979 , وسيق من مكتب الوزير الى الامن العامة ليواجه مختلف صنوف التعذيب وهو في الستين من عمره . بعد اطلاق سراحه كلفت بالالتقاء به . وفي اللقاء الذي لم يتجاوز العشرة دقائق عرفت ما تركه التعذيب من آثار دموية في جسده , واخبرني بتمكنه من معرفة الكادر المتعاون مع الامن في المنطقة الوسطى , وطلب ان اوصل المعلومة في نفس اليوم لخطورة الموقف .

العراقيون يعرفون جيداً الاساليب المتنوعة التي استخدمها جلاوزة البعث للايقاع بأي انسان شريف ومستقيم, واخسها ارسال الفتيات الجميلات اللواتي بعمر الورود , والمدربات على الاغواء بشكل جيد , لغزل شرنقة الايقاع بمن يراد لهم السقوط في الحضن الفاشي للبعث . اثنان من كوادر المنطقة الوسطى سقطا في الفخ , العازب تمكن من الهرب , والمتزوج القي القبض عليه . ولا يعرف لحد الآن هل بسبب تهديده بالفضيحة , ام خوفه من التعذيب , او احساسه بانغلاق الدائرة عليه , ام كلها مجتمعة اجبرته على التعاون معهم وحاله حال بعض الانهيارات الاخرى.

سيق نوري الى خدمة الاحتياط في السنة الثانية للحرب مع ايران , وفي معسكر الرشيد تم قبوله كسائق في وحدة اسعافات جديدة شكلت من السيارات القديمة الخاصة بالحرس الجمهوري بعد استبدالها بسيارات احدث . كانت وحدته في الانذار , والاعصاب متوترة , عليهم الذهاب الى مناطق الهجوم لجلب المصابين , وفي اغلب الاحيان وسط سقوط القنابل وغارات الطائرات , قتل بعض السائقين وهم خلف مقود اسعافاتهم , والهجوم المتوقع هذه المرّة من الشوش ايضاً , والتي اخذ العراقيون يتطيرون من اسمها نتيجة الخسائر الفادحة في الهجوم الاخير . كان حريصاً على سلامة سيارته , وفي وقت الاستراحة تمدد تحتها لفحص بعض اجزائها وادامتها . شعر بحذاء يضرب اسفل ساقه , استدار برقبته , ومن لون الحذاء ولمعته عرفه ضابط , رفسة اخرى وسمع صوته : لك قندرة ما داتحس ؟! سحب نفسه من تحت الاسعاف , ووقف بالاستعداد بعد اخذ التحية لآمر فصيله الشاب الذي تجاوز العشرين بسنة اوسنتين فقط : نعم سيدي . اريد اروح للأعظمية , قالها الضابط بلهجة آمرة وهو ينظر بإشمئزاز الى الحصيرة القذرة التي كان يتمدد عليها نوري . سيدي ما اكَدر , السيارة لازم اتكون جاهزة , ما تشوفني اشتغل بيها ؟ موجودة سيارات هواية واخذ واحد غيري . اشتد غضب الضابط ودفع كتف نوري بالعصا التي يحملها : مطي تعلمني ألمن آخذ ؟! فقد نوري اعصابه وسحب الضابط من العصا وفاجأه بلكمة جبارة وسط وجهه اسقطته ارضاً , وهرب نوري بالاسعاف .

بعد اسبوعين من هذه الحادثة , جاء معاون مدير الامور الطبية في وزارة الدفاع الى كراج الحاج محمد في مدينة الشعلة لتصليح سيارته . وتعوّد ان يمضي بعض الوقت – خاصة اذا كان وقت التصليح قصير – مع الحاج محمد في تذكر بعض الاحداث حيث كانت تربطهم صداقة قديمة . بعد ان استقر المعاون في احد الكراسي, اخبره الحاج محمد بأنه حاول الاتصال به عدة مرات ولم يتمكن , وشرح له حادثة ابن اخته نوري مع آمر فصيله , ورجاه ان ينقذ ابن اخته من الاعدام بسبب الهروب الذي تجاوز الثلاثة ايام , وضربه الآمر , واخذ الاسعاف . تعجب المعاون من ان يكون الذي يبحثون عنه ابن اخت الحجي , فسأل عنه وعن الاسعاف . اخذه الحجي الى احدى فتحات الكراج وأراه الاسعاف بعد ان أزاح بعض الحاجيات والواح خشب المعاكس التي تحجبها , وصاح على نوري الذي بدأ بتصليح سيارة المعاون . ولشدة اعجاب المعاون بجرأة نوري وضخامته , اتخذ منه مرافقاً شخصياً , بعد ان ساوى القضية مع الضابط الشاب الذي انكسر له سنان والغى امر القاء القبض على نوري واوليات الدعوى كلها .

وضعية نوري الجديدة فتحت امكانية كبيرة لامدادي بنماذج الاجازات الدورية للعسكريين , والتي اخذت تطبع كل شهر بلون جديد مما زاد في صعوبة الحصول عليها , ووصل سعرها الى الثلاثين ديناراً يوم كان الدينار اكثر من ثلاثة دولارات . في البداية خلق البعث وضعية اجبرت البعض ان يتهربوا منا , ومن ثم بات اكثرهم يهربون خوفاً من ان يتهموا بتعاونهم مع الشيوعيين , واصبحنا الموضوع الوحيد الذي يدور حوله الحدث , وفي الانتقام الدموي للسلطة لكل من يتعاون معنا . فكيف يمكن استيعاب ان الناس باتوا مشغولين بالحرب ومآسيها ويكاد ان ينسونا بالكامل وبهذه الفترة القصيرة , كيف يمكن ان تنقل هذه الصورة الى اناس ضحوا بكل شئ وتحملوا قسوة حياة الانصار وهم يعتقدون انهم لا يزالوا في قلب وضمير هذا الشعب المنكوب , بل يعتقد الكثير منهم انهم نتيجة مآسي الحرب اصبحوا اكثر اهمية . كنت اسائل نفسي : اليس من القسوة ان اواجههم بهذه الحقيقة المرّة عندما اعود اليهم , وكم من مزايد سيتهمني باني احاول ان احبط المعنويات , هذه هي المشكلة التي لن يدركوها بسهولة .

رؤية الموت اهون عليّ الف مرّة من ان ارى ما فعله البعث من دمار وهو يسألني : ما الذي يمنعه من ان يسجل بعثياً , وماذا يضرك انت ؟! ارتبكت , واحاول اختيار الكلمات التي لا تثير عنده اية ضغينة , ورغم معرفته بكرهي للبعث الا انني يجب ان اكون محايداً في كلامي . لم يكن اكثر من صديق للحزب , ورغم اعتبار ان ابرز مقياس لنجاح الرفيق في العمل الحزبي هو كسب الآخرين للتنظيم الا انني لم افكر بضمه للتنظيم طيلة سنوات علاقتي به . كانت لهجته قاطعة , واضاف : لازم اسجل والا ما استمر مرافق لمعاون الامور الطبية . لم اتمكن من ان انطق اية كلمة بهذا الاتجاه , فقد كنت مرتبكاً بمنطقية ما يقوله . سألني بإلحاح : شنو المانع ؟ ولما لم اجبه اضاف : اخاف تعتقد آني هم راح اتلوث ؟ لا نوري , اجبته بشكل قاطع , ثقتي بيك اكبر من اي شئ , واضفت بتعثر : أني ما اكَدر اكَلك .. قاطعني : اعرف , واريد منك ان تعرف هذي ما تشكل اي قيمة عندي, كلما هناك واحد يستفيد .

لا احد يستطيع في تلك الظروف ان يتوقع ما يكون عليه وضع كل واحد منا , ورغم خوفنا الا اننا نحاول ان نكون اكثر قوة واهمية مما هو عليه واقعنا المطوق . واخس ما فعله البعث هو النسف الكامل لكل ما يتعلق بالشخص الذي لا يتعاون معهم , او يتعهد بعدم التعاون مع اي حزب آخر , ولا توجد كوابح للعربة الجهنمية التي يقودونها . كنت عائداً لتوي من كردستان عندما اخبرني نوري بأن "مكتب الاخوان " تم كبسه نتيجة وشاية حارس البناية وابنه اللذين كانا وكيلي امن . وقد يكون نوري على خطأ , لأن المكتب استمر اكثر من المتوقع ملتقى لبعض الرفاق , او ربما الامن اطلق هذا الاتهام على الحارس وابنه للتمويه والتغطية على المتعاونين معهم . القي القبض على الرفيق صباح جمعة وكان عامل اللاينو في مطبعة الرواد التي تصدر مطبوعات الحزب الشيوعي , وعمل في ادارة المكتب بعد ان ذهب شاكر الى خدمة الاحتياط , واخيه شكر كان قد ترك العراق في الهجمة على الحزب عام 1979 . وكان مع صباح الممثل المسرحي الرفيق دريد ابراهيم الذي كان يعمل معنا عند نوري . بعدها عرفنا بتصفية الشهيدين صباح ودريد , والقاء القبض على شاكر ومصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة وسجنه سبع سنوات .

بعد ثلاثة عشر عاماً كنت جالساً مع اصدقائي في احدى نوادي دمشق . بعد تفرقنا , وفي طريقنا الى البيت الذي نسكنه مع مجموعة رفاق اخبرني الرفيق ابو حيدر احد مسؤولي المنطقة الوسطى للحزب: ان صديقنا هو الذي حذرنا منه المرحوم ابو زمان , وحاول اكثر من مرّة الايقاع بابو حيدر قبل تحذير ابو زمان , وبطريقة غبية تدلل على حماقة من ارسلوه رغم امتلاكهم كل هذه الخبرة الامنية . فقد اوصل لابو حيدر رسالة ( مركزية) تؤكد عليه الالتقاء ب(الرفاق) البعثيين في المحافظة لمناقشة عودة العمل الجبهوي هناك . الرفيق ابو حيدر الوحيد الذي سلم من محلية واسط والمسؤول عن ترتيب شؤون المختفين وجد في هذه الرسالة بالذات ما يضع علامة الاستفهام عليه . كان رد فعلي مشحوناً بالمرارة , واخبرته : بأني لو عرفت هذا لما لبيت دعوته وجلست معه . اجابني ابو حيدر: ارجو ان لا يكون رد فعلك حاقداً , او الانتقام من حالة الضعف التي مر بها , فليس كل ضعف خيانة , الفرق بين الاثنين كبير , وعندما يكون الاضرار هدفاً وبأصرار تلك هي الخيانة .
 

 

free web counter