| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

تقي الوزان

Wz_1950@yahoo.com

 

 

 

                                                                                  الجمعة 10/2/ 2012

 

أفكار مسرحية لم يتم عرضها

تقي الوزان

تركت باب الغرفة ووقفت في أعلى السلم كي اسمع الكلام جيدا . كان يجلس على الأريكة التي تقابل باب المطبخ , ورفع صوته كي تسمعه زوجتي وهي تحضر له الشاي . لم يكن متوترا مثل السابق , وفي صوته مساحة من الاطمئنان لا تخفى على السامع , تقصد ان يشحن نبرته بالتدليل الذي يخلو من الحذر , يريد ان يؤكد لها ولنفسه ان الخلوة بينهما أصبحت جزء من حياتيهما .

علي : لج زنوبه هو لو عند غيره ما عافج , اكو عاقل يعوف وحده مثلج ؟! هسه اتركي مسألة انت حلوة وكل واحد يطمع بيج , لكن ابنه , اكو واحد يترك ابنه بهذا العمر ؟! يا عيني .

زينب : أرجوك علي , ما اسمحلك ان تحجي على أبو ابني , وأنت تعرف إذا نلزم ينعدم .

علي : ليش ينعدم ؟ حاله حال اللي وقع تعهد وحافظ على نفسه وعائلته . انت نفسج صرتي بعثية , اشصار ؟! أتغير شي ؟ وحافظتي على بيتج وابنج .

زينب بتلعثم : يا عيني ما عدنه غير هذا الحجي , احجيلي على وضعك , مشاريعك الأخيرة .

هذه المرة الأولى التي اعرف إنها أصبحت بعثية . ارتسم في ذهني الرعب الذي اندفع بشعاع عينيها عندما دخلت البيت رغم الظلمة التي تحيط بكل شئ , وأخبرتني : كان علي ان لا آتي , لأنهم يكثفون المراقبة عليها .

أخبرتها : اني بحاجة ان اقضي الليل وغدا عندها , فلم يعد لي أي مكان آخر اختفي فيه .

أجابتني بجفاف : آني خايفه عليك , بعد لا تجي الى ان الله يفرجها . ولزيادة في الحيطة أكدت , ان لا انزل من غرفة المخزن في الطابق الثاني . ولشدة خوفها امتنعت عن توضيح تفاصيل حياتها وحياة الطفل طيلة الأربعة اشهر التي لم اراهما فيها .

التواطؤ الذي أظهرته عندما جلست بقربه وقدمت له قدح الشاي , والحميمية في الحديث شلني . ولو اني اقدر محاولتها في إشغاله , وعدم ترك أية لحظة انتباه له على البيت . الا ان شعوري بالعجز جعلني أدرك فجأة , عمق الهوة التي سقطت فيها .

علي ابن عمها , أراد الاقتران بها ورفضت . تعرفت عليها في الكلية من خلال العمل المشترك في المنظمة الحزبية , وتطورت علاقتنا الى زواج . علي التحق بدورة نواب ضباط خاصة بالبعثيين , جرى تسميتها بالموس عند العراقيين للإشارة إلى إنهم لم يتمكنوا من النجاح في الثانوية , أرسل للعمل سائق سيارة في السفارة العراقية في الكويت, وبعد شهرين أعيد الى بغداد ضابط ونقل إلى جهاز الأمن الخاص , وتتفاخر شقيقته أمام زينب ان سبب عودته من الكويت مقتل حردان . اليوم هو نقيب . وأنا خائف , مطارد , واقل ردة فعل مني ستكشفني وستكلفني حياتي , هذا إذ لم انهار وأتحول إلى وصمة عار . لم أتحمل ان انظر إلى نفسي كجبان , أو( ساقط سياسي ) كما جرت العادة ويكررها البعثيون لإذلال الشيوعيين .

الذهول , الانشداه , طعنة الإدراك المدمرة ما أردت ان انقله إليه , كي يتفهم مشاعر الدور الذي يتمرن عليه في المسرحية . لم يكن ممثلا ولكنه يحب التمثيل , سبق له وان عمل معي في مسرحية سابقة . في الأنصار لا تعتمد على ممثل في تقديم عمل مسرحي , بل على مواصفات النصير التي تقارب الشخصية المنوي تقديمها . فاضل لا يناسب الدور, ولعدم وجود ممثلين استجبت لرغبته في تمثيل الدور . ولكن كيف يمكن ان يفهم هذه المشاعر ؟! كل شئ يتسرب مثل صم الرمل في كف اليد , بلا عمل , بلا بيت , بلا عائلة , حتى ابني الوحيد اشعر بان أمه تنتزعه معهم مني , كنت أخاف ان اذهب بالتفكير الى نهاياته المنطقية , كنت بحاجة أن أساعد نفسي حتى ولو بالارتكاز على الوهم . لا أريد أن اعتقل مرة أخرى , في المرة الأولى صمدت , ولا اعرف كيف صمدت لأكثر من ثلاثة اشهر , ورأيت الموت عدة مرات, اعتقد لكون المسألة شخصية , لم يحققوا معي كثيرا فاغلب الأشياء كانت مكشوفة لديهم , إلا انهم جن جنونهم لمعرفة مكان اختفاء شقيقي , الذي انكرت معرفتي به . أطلقوا سراحي مع آخرين عندما أصبح صدام رئيسا , وأعطى عفوا عن السجناء .

في البيشمركَة جرى الاعتقاد بأننا مجرد أن نحمل السلاح في وجه السلطة ستكون نهايتها السقوط , مثلما اعتقدنا سابقا بان دخولنا الجبهة مع البعث , سينهض بهذا الحزب الفاشي ويضعه على سكة المصلحة الوطنية . بهذا الفهم يناقشني فاضل على تفاصيل الدور , ولا أستطيع أن اذهب معه أكثر . ترددت أن اكشف له مخاوفي , وربما في المرة القادمة التي سأنزل فيها إلى بغداد سوف لن تستقبلني عائلتي حتى ولو بالتلفون . كنت خائفا أن اتهم باليأس , ليس من فاضل فقط , بل من الجميع . الأنصار الشيوعيون كانوا متحمسين للكفاح المسلح بشكل يصعب تصوره لمن لم يمر بهذه التجربة , وكشف الكثير من الرفاق في كتاباتهم عن الجوع , والعطش , والحرمانات الأخرى , والمعارك , والبطولات الفذة , ولا يزال الكثير منها في أفئدة من عاشوها , ومن غرفوا نبل ضمائرهم من وهج الأنصار الذي منح الشيوعيين صدقهم في الحياة .

فاضل يدعي انه موظف , وانا اعرف انه مستخدم في مخازن حبوب باب المعظم , ويمكن ان يكون استفاد من قانون اعتبار جميع المستخدمين والعمال موظفين الذي سنه البعث . المهم , تعرف على زوجته الطالبة في الجامعة عند التقائهم في إحدى دورات التدريب على السلاح في بيروت , وقد تركا العراق منذ فترة قصيرة اثر الهجمة على الشيوعيين عام 1979 , تطورت العلاقة بينهما وتزوجا في كردستان . العوائل في الأنصار لا تمتلك غرف خاصة , ولم تستطع إنجاب أطفال , كثير من هذه العوائل ولطول الفترة التي قضوها في كردستان لم يتمكنوا من إنجاب ولو طفل واحد . بعض الرفيقات نتيجة الوضع المعيشي البائس , والمهام الصعبة للعمل الأنصاري, وعدم وجود الرعاية الصحية والأدوية , تعرضت صحتهن لمخاطر كبيرة . إحدى الرفيقات تعمل على جهاز اللاسلكي , في السابعة والعشرين من العمر , كانت تعبر احد الروافد الكبيرة لنهر الزاب مع مفرزتها القتالية وعلى ظهرها جهاز اللاسلكي , كان الماء عميقا وفي تشرين الثاني , بعد عبورها لم تتمكن من الحصول على بدلة أخرى , وجفت ملابسها على جسمها , تعرضت لإصابات عدة نتيجة البرد الشديد , من بينها عدم تمكنها من إنجاب الأطفال . كان لكل واحدة منهن حكاية بطولة .

تحدي الصعوبات كان يشحن الأنصار بالتفاؤل والأمل, امتلاء وجودهم رغم كل الحرمانات والمنغصات , انتشل حياتهم من الضعف والانحدار . كان الاعتقاد , مثلما كنا موضع فخر واعتزاز لكل الشيوعيين في الخارج , فلا شك ان الأثر سيكون مضاعفا لمن هم تحت الحكة في الداخل . وبات من الصعوبة القبول بتمزق عوائلنا الذي جهد النظام في الإيغال به لإنهاء علاقاتنا الأسرية. وهذا سبب امتناعي عن الذهاب مع فاضل الى عمق الإحساس الذي تملكني والشعور الدامي لفقدان عائلتي . سيف التضحية هو المسلط على رقبة الجميع . لا الضعف , ولا التعب , ولا التصريح بالخوف في المعارك , ولا التعبير عن الرغبة في إكمال الدراسة , او ترك كردستان , ولا حتى طلب الذهاب للعلاج , كلها ستخلخل الثقة بصلابة الانتماء , والويل لمن كشف عن رغبة ذاتية , أو اتهم بها .

حدثته كي اخفف عنه وطأة الإحساس بحقيقة فداحة خسارة علاقاتنا بعوائلنا . أردت ان يقتنع به كتمثيل فقط والا سوف ينسحب , وأضفت للتذكير : فاضل هذا المشهد الأساس اللي راح يرتكز عليه العمل .

قاطعني : يعني شنو المريود مني ؟

أجبته : ان تعكس إحساسك بالانفصال من تسمع تساهل زينب مع علي .

فاضل بنفاذ صبر : وبعدين ؟

قلت : الانفصال عن الناس هو سبب ضعفنا .

ارتاح لهذا التفسير الذي يضع كل الأسباب في رقبة الانقطاع عن الناس , ويعفيه من الدخول في تفاصيل لا علاقة لها بطول هذه الرقبة , خاصة وانه حصل على صفة حزبية أعلى هذه الأيام . رغم ان فاضل التحق بشكل مبكر الى كردستان , ويستطيع ان يحدثك بالتفصيل المؤلم عن عدم امتلاك الفصيل الى أية قطعة سلاح عدا بندقية واحدة يتناوب الحرس عليها . تشع عينيه فجأة , ويختنق صوته بالفرح , وكأنه يتذكر الأيام الصعبة قبل خروجه من بغداد , وبغنائية : انت الشوف بعيوني .. أضمك من أنام بطبكة جفوني . لا موبس هاي , جان محد يعرف طريقة امنين , شلون يخلص نفسه ؟ بعد جم يوم سمعنه من البعثيين مو من غيرهم : العصاة الشيوعيين مسقطين فوج وأربع ربايا . الله واكبر . عمي الشيوعيين كل واحد منهم حزب , يعرف شيسوي . اشتدت الهجمة ؟ صعد للجبل وكفاح مسلح , وتلث أرباع القيادة متعرف , وإذا تعرف ما راح توافق . الكفاح المسلح رجع الأمل بالشيوعيين وحطم النظرة الحقيرة بكون الحزب يميني , والشيوعيين ما يرهمون الا للثقافة وتسفيط الحجي . لا عمي لا , احنه الشيوعيين وين ما يصير الحق نصير وياه .

فاضل تأخذه نوبات فخر وفرح كثيرة مثل هذه , وفي بعض الأحيان خاصة عندما لا يكون عنده عمل بناء قاعات بالمقر او تقطيع خشب , يناقش مع أصدقائه الخاصين أدق الأمور حساسية , مثل الملاحظات الأمنية التي تخص البعض من الملتحقين , او سياسة الحزب , او تحديد المسئولية بين المسئول السياسي والعسكري في وحدات الأنصار, وهو أكثر ما يشغله . كل وحدة تمتلك قيادة من ثلاث رفاق , مسئول سياسي يعيّنه الحزب ويمتلك موقع تنظيمي أعلى من الموجودين , وعسكري يرشح نتيجة قدراته العسكرية والقتالية , وإداري ينظم فقط الأمور المعاشية للوحدة . كانت المشكلة بين الاثنين : ايهما يمتلك القرار الحاسم ؟ في حرب أنصار يتداخل فيها كثيرا السياسي بالعسكري .

يقول فاضل : انها السبب الرئيسي في فقداننا لقيادات عسكرية فذة , وسبب لخسائر لم تكن في الحسبان .

سألته : قبل أن تجرح وتستقر في المقر , أين كنت ؟

فاضل : بالسرية المستقلة قبل ان تصبح الفوج 15 .

أكيد جنت مرتاح , سألته : لان انت متعرف تكَعد ؟

فاضل : لا يمعوّد , جنت يوميه أبمكان وزوجتي بالمقر , أجي كل شهر او أكثر بإجازة جم يوم . بس هي تصير عادة , يعني من واحد يتعلم على المقر يشوف صعوبة بعد يروح للمفارز , او بالعكس اليعيش بالمفارز يختنكَ بالمقر .

خارج التمرين وضحت له بإمكانية التوسع بأحداث المسرحية , وبالذات في المشهد الأخير الذي يصل فيه سالما الى قواعد الأنصار .

أخبرته : ان يمكن عكس بعض الأفكار والمواقف , او الإشارة لمشكلة السياسي والعسكري .

فاضل من النوعيات التي لها قدرة كبيرة للتداخل مع اغلب الموجودين , ويتوصل إلى بواطن وأسرار من الصعوبة على غيره التوصل لها , ويكاد ان يعرف جميع الأسماء الصريحة للذين عمل معهم , ومناطق سكناهم . سريع الملاحظة يلكَفها وهي طايره , رفع رأسه بتمهل , واخذ نفسا .

سألني : تعتقد من السهولة ان يطرح واحد نواقص العمل على المسرح؟

أجبته : إذا بدافع حرص , ليش لا ؟

فاضل : ومنو راح يحدد الدافع ؟ حرص او مو حرص ؟

طبيعة الطرح , أجبته : بدون استفزاز وبشكل خفيف , ويمكن ان يكون كوميدي . المهم لفت الانتباه , وبكل الأحوال آني المسئول عنها .

فاضل : حتى إذا المسئولية عليك , آني شراح ابرر موقفي ؟ وبعدين منو راح يقبل نقدم مسرحية ثانية إذا شافوا أي إساءة ؟!

أجبته : انت ليش تعتبرها إساءة ؟!

فاضل : مو انت اللي تحدد الإساءة , أي واحد منهم تأشر على نواقصة هو اللي راح يحددها . وبعدين " يابو بشت بيش ابلشت " ؟

شعر بأنه ذهب أكثر مما يجب , وأراد ان يخفف من الاتهام في كلامه .

فأضاف : احنه بوضع عسكري , وحياة كلش صعبة , وأي نقد يعني تشجيع للآخرين . المشكلة مو وي اليقبل نقد او ما يقبل , المشكلة وي الأنصار اللي تعبوا وتبخر أملهم .

أجبته : واحنه من ضمنهم .

سألني بتوتر : شنو قصدك ؟

أجبته , وندمت على الجواب الى الآن , أي بعد ما يقارب الثلاثين عاما : يعني , مثل ما انت جبرت زوجتك ما تطلع إلا انت وياهه .

وكانت زوجته المريضة قد اقر لها الحزب الذهاب الى الخارج للعلاج , وبعض الرفاق يعرفون انه هددها بالانفصال ان ذهبت لوحدها .


 


 

 

free web counter