طه رشيد

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأثنين 8/12/ 2008

 

في الذكرى الثانية لاستشهاد المبدع الشيوعي ياسين أبو ظفار

رواية (ياسين وصحبه)

طه رشيد

(ياسين وصحبه) هو عنوان رواية للكاتب العراقي المقيم في السويد حاتم جعفر، وقد صدرت الطبعة الأولى للرواية عام 2004 عن قوس قزح للطباعة في كوبنهاكن، علما بان الكاتب أنجز عمله في العام 2002 أي انه كتبها قبل سقوط النظام الدكتاتوري. تدور أحداث الرواية في مدينة بعقوبة، ولم يشر الكاتب لأسم المدينة، ولكن من عرف هذه المدينة جيدا يستدل عليها من خلال وصف بعض الأمكنة في المدينة وخاصة إشارته للنهر الذي يشطرها إلى ضفتين ( وهو نهر خريسان أو الشاخة كما يسميه غالبية أهالي بعقوبة )، تنتشر عليهما المقاهي والمحال التجارية، وقد غيرت سلطات النظام السابق مجرى النهر وشوهت ما حواليه، ويبدو لي أن عدم تسمية الكاتب للمدينة في عمله الروائي بسبب رغبته بجعل المكان شاملا أي انه يمكن أن يكون أية مدينة أخرى في العراق .
يوجد في الرواية شخصيتان رئيسيتان تدور في فلكهما بقية الشخصيات، وهما الأستاذ ناظم النجار، المعروف بمعارضته للنظام الحاكم آنذاك، ويعرّفه لنا الكاتب في الفصل الثاني ص15( المدرس السابق في إحدى المدارس الثانوية والمغضوب عليه من قبل السلطات المتعاقبة على إدارة المعارف أو إدارة التربية والتعليم في تلك المنطقة )، أما الشخصية الأخرى فهو عبد الرحمن صالح الذي انتقل من الريف إلى المدينة وهو صبي، وقد بدأ حياته عرّافاَ ولكن بعد ليلة حمراء انكشف سره فترك التنجيم وانتقل من الحي نهائيا، ( آه أيتها المدن اللعينة انك حقا لست بالفاضلة ولست بالقادرة على صون سري الوحيد، فلم يشغلك في تلك الليلة سوى القبض علي متلبسا بتهمة النشوة والانطلاق الرحب في ملكوت الحرية
ص10 ) ، واستطاع أن يحصل على عمل جديد ( بمساعدة من بعض الأصدقاء استطاع أن يجد له عملا اعتبره مناسبا وبداية حسنة لابد منها للانعطاف بحياته ومستقبله، شكل بالنسبة له خيارا جديدا لم يكن مخططا له من قبل ولم يكن في وارد ذهنه على الإطلاق. انه الآن موظف في دائرة الكتب المدرسية، عين في الأساس أمينا أو حارسا مسؤولا عن أحد أقسامها ويقوم بأداء بعض المهام الإدارية وحسب التكليف . .. ص11 )، وتكشف الرواية في تطورها الدرامي عن التوجهات التقدمية أو اليسارية لهاتين الشخصيتين ويدفعان الثمن غاليا بسبب انتمائهما الفكري، فبينما يتعرض الأستاذ ناظم النجار إلى النقل والاعتداء عليه ثم فصله من التعليم واضطراره للهرب من الوطن والعيش في المنفى، نرى عبد الرحمن صالح يخرج من المستشفى / المعتقل و( لم يكن هناك من أحد في استقباله لحظة خروجه من المستشفى/المعتقل ، فقد أطلق سراحه بعد قضائه لأقل من نصف المدة المقررة له وذلك لضيق المكان ولفسح المجال لـ ( ضيوف ) جدد ممن يعتبرون بتقدير السلطات الأمنية أكثر خطورة من الآخرين ص89 ) . . . ( استقل إحدى العربات الخاصة لتقوم بنقله إلى مدينته والتي لا تبعد سوى كيلومترات معدودات ص90 ) وفاجأته التغيرات التي حصلت في المدينة إذ جري تخريب مجرى النهر وحكموا بالفناء على اعرق الأحياء والأسواق الشعبية التي كانت تصطف على جانبي النهر ... ذهب مساءا للنهر ليرى جموعا كبيرة من البشر ترسل شموع نذورها مثبتة على الواح خشبية طافية على سطح ماء النهر . . .
يبدأ الكاتب روايته وينهيها بشخصية عبد الرحمن صالح ليكشف لنا في الأسطر الاخيرة من الرواية ما يعتلج في داخل هذه الشخصية وقد سبق وإن تعرضت لتعذيب شديد داخل السجن ، ( وفي اللحظة التي كان ينتظر فيها هدوء الموج، انتابته موجة عارمة من الأفكار المتضاربة، متذكرا فيها بدايات انتمائه وميوله الدينية المبكرة وتدافعت وتصارعت فيما بينها لتهزه من جديد ولتجعله يعيد النظر وللحظات خاطفة ولكنها عميقة في ذلك الانتماء وذلك الولاء، غير انه ظل مصرا على إتمام الطقس الذي بدأه . وعند ملامسة يديه الماء كان حريصا على ترديد ما يفكر به وبصوت مسموع نسبيا، غير مبال في ذات الوقت لما سيترتب اثر ذلك من نتائج قد تكون قاسية عليه ولربما تعيده ثانية إلى ذلك السجن / المستشفى، لكنه استرسل في الكلام وأوشك أن يقول لناظم في دعائه ودعوته، عد أنت وصحبك ، لكنه تراجع في اللحظة الاخيرة، إلا انه لم ينس القول :
لا أمن ولا أمان في وطن مزقته الذئاب الحاكمة ووسائل البطش والهمجية، وان اخترت الغربة مستقرا فلا بأس، ولكن تذكر وباستمرار انك تركت هنا أخوة لك، يبتهلون صباح مساء ويرجون لك البقاء بعيدا عن الذل عزيزا، مكرما ولكن لا تدر بظهرك لهم طوال الدهر فليس في العمر متسع للحياة مرة أخرى ولا تفرط في التسكع فهم بانتظارك نحو الخلاص المشرف
ص93 . ) .
وهكذا ينهي الكاتب حاتم جعفر روايته بمنولوج أو حوار داخلي لعبد الرحمن صالح فمن الذي يستشرف الموت أو الشهادة حين يقول (فليس في العمر متسع للحياة مرة أخرى ) الكاتب أم بطله ؟ ! ! .
لنؤجل الإجابة على هذا السؤال أو لنطرح سؤالا آخر ربما يقودنا في الإجابة عنه والسؤال الجديد هو لماذا عنون الكاتب روايته بـ ( ياسين وصحبه) ، في الوقت الذي لا نجد ( ياسين ) بين شخوص الرواية ولم يذكر هذا الاسم حين تتحاور الشخصيات فيما بينها ..نعتقد انه الحب والوفاء والتكريم لإنسان أحبه الكاتب وارتبطا معا بعلاقة صداقة ورفقة حقيقيتين، وحين ندقق بشكل جيد في الرواية نجد جملة في بداية الصفحة 92 وهي ما قبل الأخيرة تدلنا على شيء من ياسين حيث يقول الكاتب ( رفض السائق تقاضي أجرته لقاء خدمته، تعبيرا عن اعتذاره لما بدر عنه من سوء تقدير وتصرف في بادئ الأمر، مظهرا كذلك نوعا من التضامن غير المعلن مع عبد الرحمن وصحبه .. . )
ولم ترد في الرواية غير هذا التركيب (عبد الرحمن وصحبه ) الذي يشبه تركيب العنوان وهكذا يكون عبد الرحمن صالح هو الذي يجسد شخصية ياسين فمن ترى ياسين هذا، الذي استفاد الكاتب كثيرا من شخصيته ؟ .. .
إنه الكاتب والصحفي الشيوعي المبدع أبن مدينة بعقوبة البار (ياسين أبو ظفار) وأسمه الحقيقي( ياسين رشيد الدليمي ) الذي ولد في قرية ( أبو كرمة ) عام 1949 ثم انتقل إلى مدينة بعقوبة وهو في الصف الرابع ابتدائي ، وسرعان ما تلقفه المعلمون لمساعدتهم في خط الجداول المدرسية نظرا لتمتعه بخط جميل ، ولم تخلو طفولته من نوادر طريفة ومنها تعلمه على يد رجل دين وقور يدعى مله جميل ( يكنونه أطفال المحلة بمله جلاتين نظرا لشعره الأشقر ولبياض بشرته، وكان ياسين كبير الشبه به فانتقلت الكنية إليه وبقيت ملازمة له ) قراءة الخيرة ومعرفة المجهول ! ! وبدأ ممارسة عمله في السوق وخاصة في أيام الجمع حيث يفرغ حقيبته المدرسية من لوازمه واضعا داخلها مرآته السحرية مصطحبا أخاه الأصغر معه ( وهو نفسه كاتب هذه السطور ) ويفترش الأرض بين بائعات الخبز ولم يقبل بأقل من ربع دينار يوميا وهو مبلغ كبير جدا في تلك الأيام إلى أن صادف ومر أخوهما الأكبر واصلا من بغداد فمنعهما من الوصول إلى السوق مرة ثانية والتزم ياسين الأمر إلا أن النسوة الباحثات عن حبيب غائب أو حلى مفقودة عرفن البيت وبدأن يترددن عليه ويتوسلن والدته أن يقرأ لهن الحظ ، فاضطرت العائلة أن تهشم المرآة لتستريح كل الأطراف ! !
في طفولته كان مؤدبا وخجولا ولكنه ينقلب إلى مشاكس من نوع فريد إذا ما أسئ إليه، لا يقبل بالتجاوز عليه من قبل أي كائن ويقول رأيه بالأشخاص وبالموضوع المطروح بكل صراحة وهو ما سبب له في كبره مشاكل كبيرة وخاصة حين تتعلق الأمور بالسياسة ..
كان لدى عائلته بلبل هزار يزقزق كل صباح وذات يوم غاب ياسين وسط بستان (الخشالي) الملاصقة لدارهم في محلة السوامرة راجعا بصيد ثمين، في الصباح التالي لم تجد والدته البلبل بل وجدت داخل القفص بوما فجن جنونها وحاول ياسين أن يقنعها بان السجن للبوم وليس للبلبل ولكن دون جدوى ، البومة هي الأخرى تحررت ولم يجد للقفص مكانا أحسن من التنور ! .
توقف عن الدراسة قبل أن يكمل الثالث متوسط وتطوع للصنف الكيمياوي عام 1965وسرعان ما أكتشف أكذوبة هذا الاختصاص فقرر الهرب ولكن دون جدوى ثم تسرح بعد مجيء العفالقة ثانية بوساطة أحد أقربائه الذي يتمتع بموقع حساس في الدولة آنذاك ....
لا أعرف متى انتمى للحزب الشيوعي العراقي ولكني مدين له بتوجهي الفكري وهو الذي وضع يدي بيد الحزب الذي أختلف معه في قضية الجبهة الوطنية إذ كان يعتقد ـ وأثبتت التجربة انه كان على حق ـ أن لا أمن ولا أمان مع العفالقة وهو ما ردده عبد الرحمن صالح / ياسين في الرواية، ولكنه رغم الاختلاف لم يبتعد يوما عن حزبه ..
لم يغادر العراق إلا لمدة أسابيع معدودة في نهاية السبعينات وعاد سريعا ليبدأ فصلا جديدا في حياته بين الاختفاء وإلقاء القبض والاختفاء مجددا والسجن مرة أخرى. . . في سنوات الحصار قضى وقتا طويلا في السجن لا لتورطه بعمل حزبي بل لان لسانه لاذع ولا يتردد بوصم رجالات النظام البائد بما يستحقون من أوصاف .
تعرض لتعذيب مبرح في مديرية أمن بعقوبة وكان يوميا يصعق بالكهرباء مما أثرت بشكل كبير على وضعه الصحي بشكل عام وجملته العصبية بشكل خاص وقد قدم شقيقه الأكبر ـ ( توفي عام 2005 )الذي منعه في يوم ما من الجلوس بين بائعات الخبز ـ في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي طلبا إلى السلطات مرفقا بتقارير طبية من اجل إطلاق سراح ياسين لكونه مصاب بمرض الكآبة وهو غير مسؤول عن تصرفاته فاستجيب للطلب بعد أن أرفق معه مجموعة من الدفاتر! ! .
يقول الأخ الأكبر بأنه فوجئ بياسين حين أطلق سراحه ، إذ انه يبدو كهلا بلحيته الرثة وجسمه النحيل .
حين زرت بعقوبة بعد سقوط نظام العفالقة، اصطحبني ياسين إلى مديرية الأمن التي كانت عبارة عن حطام ودخلنا الغرفة التي كانوا يعذبونه داخلها وأراني سلك الكهرباء الذي كان يربطونه بأطرافه. .
تف على هكذا نظام يتفنن بتعذيب أبنائه ! .
تفرغ ياسين في نهاية التسعينات لكتابة القصة القصيرة والتي أبدع فيها، مما حدا بجامعة ديالى لمنحه شهادة تقديرية نظرا للجهود الطيبة التي قدمها في هذا المضمار الأدبي، واعتقد أن اختيار ياسين لهذا اللون من الأدب هو للإمكانية الواسعة لإخفاء مشاكساته السياسية أو الفكرية، ولذلك نراه بعد سقوط العفالقة ونظامهم يهرع إلى الصحافة وكتابة الدراسات من وجهة نظر نقدية في الدين والفكر والسياسة واستطعنا أن نحصل على مجموعة من مواده المنشورة في صحف أو مواقع مختلفة .
كان آخر نشاط جماهيري له، هو حضوره احتفالات يوم الشهيد الذي أقامته اللجنة المحلية للحزب الشيوعي في بعقوبة.
أما آخر نشاط أدبي له، هو أعداده لمحاضرة عن العلمانية قدمها في إتحاد أدباء ديالى في الشهر السادس من عام 2006 .
ياسين أبو ظفار من الشخصيات المرموقة والمحبوبة في المدينة التي لم يغادرها لمدة زادت على أربعة عقود، ولم يذكر له خلاف أو كراهية مع أحد باستثناء عداءه للنظام السابق ومشاكساته مع رجالاته، ذلك النظام الذي لم يستطع من ياسين، إلا أن التحالف الأسود بين قتلة البعث والقتلة التكفيريين الذين لم ترق لهم كتابات ياسين ونشاطاته الاجتماعية والسياسية فكمنوا له في ظهيرة يوم الأحد المصادف الثالث من كانون الأول 2006 ليتركوا بجسده رصاصاتهم الحاقدة ...وللأسف استطاعوا أن يطفئوا جسده واستطاعوا أن يكسروا فرحا في نفوس رفاقه وأصدقائه ومحبيه ، ولكن هل يستطيعون من فكره أومن كلماته التي ستساهم مع كلمات غيره من الطيبين لإنارة الطريق ؟ فهذا هو المحال بعينه فبينما هم سينتهون إلى مزبلة التاريخ ، ستبقى ذكرى الشهيد الشيوعي ياسين أبو ظفار نبراسا للمحبة ودعوة متجددة لوطن حر ومواطن سعيد .. . .
للشهيد ياسين أبو ظفار مجموعة كتابات إبداعية منشورة في صحف ومواقع مختلفة ونذكر منها :
1. عدد من القصص قصيرة
2. الديمقراطية والحرية
3. الديمقراطية :مزايا ومعايير
4. المعرفة والإيمان
5. مشكلة الديمقراطية في العراق وسبل معالجتها
6. ثقافة العنف والاستبداد
7. ياسين أبو ظفار يحاضر عن العلمانية في ديالى
8. من اجل منهج ديمقراطي سليم
9. تداعيات حمار
10.قارون
ويمكن الحصول على هذه المواد من خلال كتابة اسم ياسين أبو ظفار على الموقع الشهير google .


ياسين أبو ظفار يحاضر عن العلمانية في ديالى

اديب ابو نوار

توجه جديد بدأ يلجه اتحاد الادباء حيث يفتح ابوابه لكل من يجد في نفسه امكانية على تقديم محاضرة في موضوع ما.
والكاتب (ياسين ابو ظفار) الذي عرفناه منذ سنوات يكتب القصة القصيرة بدأ السنتين الماضيتين يتجه صوب كتابة الدراسات والمتابعات الفكرية محاولاً توظيف قلقه وتحويله من مشاكسات في افق العقل والروح الى طروحات يتحاور بها مع مستمعيه.
والمتابع لهذا الكاتب وخاصة ابناء بعقوبة يعرف ان ياسين كثير المتابعة والمناقشة وفي اكثر المواضيع اهمية وبجرأة لذا هو يذهب في تساؤلاته الى الدين من خلال ظاهرة الباراسايكولوجي، ويناقش الواقع السياسي من خلال بعض المفاهيم التي ترد في مصطلحات السياسيين ومنها (العلمانية) و(العولمة) والتي قدم فيها محاضرة ضمن المنهاج الثقافي لاتحاد ادباء وكتاب ديالى.
الباحث عمل على تقسيم محاضرته الى قسمين فكان الاول تحت عنوان او محور (العلمانية) وفيه اكد ان العلمانية تشرح ولاتعرف لانها لايمكن ان تعني فصل الدين عن الدولة ، او الاقصاء الفكري والسياسي والاجتماعي للدين وبالتالي اقصاءه عن الحياة ، وبتعبير آخرعلى حد قوله اقصاؤه من البنية التنظيمية والمؤسساتية للدولة والمجتمع بوصفه عقيدة روحية وطقوس اجتماعية العكس هو الصحيح فمثلما تأخذ الدولة بوصفها مؤسسة اجتماعية تنظيمية عليا لشؤون البلاد وفي ادارة شؤونها علمياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياًوفقاً لدستور منحها الحق والحرية بالتصرف في هذه الحقول وفقاً لموازنات دقيقة ، وتطبيقات عادلة ، بما يحقق مصلحة المجتمع والدولة ، التي تكفل جميع الحريات المثبتة في عقدها الاجتماعي (الدستور) لجميع الاديان ومؤسساته ان يمارس جميع المعتقدات والشعائر والطقوس وفي الوقت نفسه يؤخذ من هذه الشرائع الدينية ما يؤخذ لاكمال النصوص القانونية التي تنظم علاقة الفرد بالمجتمع وهذا امر طبيعي وفي غاية الاهمية في الوقت الحاضر ولاسيما ما يتعلق بباب الاحوال الشخصية وما ينطوي عليه هذا الباب من اسس وقواعد وحقوق.
ورغم ان الباحث هنا لم يقدم لنا امثلة تدعم قوله الا انه يذهب الى تعريف العلمانية ويقول.
العلمانية ، وحسب التطبيقات السياسية المعاصرة تعني فصل كل ما هو غير علمي بالمعنى المعاصر عن الدولة بوصف الدولة كبنية مؤسساتية تخضع لآليات العلم والقوانين الوضعية واللذين هما من نتاج العقل البشري.
- واستمرار لرأي الباحث اذاً فالدولة هنا اصبحت مجموعة آليات وضعية متطورة الغاية منها تنظيم وتفعيل علاقتها بالمجتمع على هذا النحو وفقاً لفلسفتها السياسية وبرامجها العامة الاخرى في جميع الحقول.
واذا نظرنا وفقاً لما تقدم وعلى وفق المنظور العلمي للتاريخ على اساس الثابت والمتغير نجد ان الانسان هو الصائغ الحقيقي لحضارته بجميع مفرداتها المادية والروحية ان معظم البلدان ان لم اقل جميعها التي اتبعت العلمانية كجزء من فلسفتها السياسية استطاعت ان تشق طريقها بيسر في مجال التقدم الاجتماعي لتحقيق الازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي قدر الامكان والتعايش السلمي بين الدين والدولة وكذلك بين الاديان المختلفة بعد الضمانة الاكيدة لتحقيق ذلك اذاً فالعلمنة هي السبيل لتحقيق التوافق الاجتماعي والسياسي الشامل لهذا البلد او ذاك على اساس (الدين لله والوطن للجميع).
وبأنتقاله الى القسم الثاني من المحاضرة وبعد ان ناقش اراء المعقبين من الحضور قال :
نحن الآن بأمس الحاجة من اي وقت مضى الى اعادة النظربطرق وانماط التفكير للتخلص من الرؤية الضبابية والتفكير احادي الجانب ، والظواهر الحياتية والاجتماعية دون اللجوء الى نظريات علمية ومعرفية اخرى لان المجتمعات البشرية تحكمها قوانين عدة ، سواء في مجال الاقتصاد او الاجتماع او الفلسفة او السياسة وعلم النفس وفي عالمنا اليوم الزاخر في العطاء الثر على جميع الصعد والمستويات بسبب التغيرات المتعاقبة للثورة العلمية التكنولوجية . لقد وسمت ثقافات الاستبداد والتخلف المتعاقبة في العالم النامي ، رموز ومفردات ومفاهيم بعيدة كل البعد عن العلمية والمضوعية اولاً وقد انتجت هذه السياسات المستبدة على مر الازمنة ردود افعال متنوعة وردود الافعال السلبية اكثر بكثير من الايجابية وهذ بطبيعة الحال ، يختلف من مجتمع الى مجتمع آخر ومن أمة الى امة او حسب المكونات التأريخية للمجتمعات البشرية.
وألان والبشرية تعيش في عصر النهضة العلمية الصاعدة ومن الضروري جداً ان نعيد النظر بأنماط تفكيرنا وذلك بمراجعة المفردات والتي تم تعاملنا معهااذا كنا نؤمن حقاً ان الماضي هو مفتاح الحاضر وكذلك العلاقة البينية بين الحاضر والمستقبل كمفهوم المواطنة والقومية، الهوية ، المقدس الماضي،، المقدس السماوي ، وغيرها. بعد ذلك صعد الباحث من جرأة طروحاته اذ قال: هناك من يرى العولمة هي عملية غزو اقتصادي وفكري وسياسي وقد تأخذ منحى آخر من الغرب (الكوزموبوليتي) اي الغاء الهوية الوطنية والقومية اننا اليوم بحاجة اكثر من اي وقت مض الى اعادة النظر بمفردات عديدة كالمواطنة والهوية والقومية والسيادة وغيرها على وفق منظور علمي تأريخي حداثوي يتفاعل مع المنجزات الراهنة بعقل مدني حضاري ، بعيداً عن الانفة البدوية الفارغة والكبرياء الاجوف المتخم بالعاطفة البليدة.. ان عالم الحياة والطبيعة خضع لقوانين عديدة ، و(التبادل) هو قانون حسب اعتقادي وهذا القانون لاينظم العلاقة بين اصغر الجسيمات في الطبيعة وحسب وانما هو قانون رئيس منظم للبنية الحياتية والاجتماعية على مستوى علاقة الكائن بالحياة او على صعيد علاقة الفرد بالمجتمع او علاقة اي مجتمع بالمجتمعات البشرية الاخرى. وكذلك من يرى ان العولمة هي من ضرب السطو الاستعماري الجديد فأذا العولمة هي كذلك فأن للعرب المسلمين دوراً كهذا مع فجر الاسلام وبعد ان تناولت قوة الاسلام الايديولوجية والعسكرية وصل الاسلام الى اسبانيا والصين والاقاصي الاخرى من المعمورة بقوة السيف والاقناع واليوم لو امتلك العرب قوتهم تلك هل سيدخروا جهداً في اجتياح العالم. واحرص ان لايفهم هذا الطرح على انه معاد للعرب ومحاب للاجنبي ان صورة الاستعمار ما زالت ماثلة في الذهن العربي بوصفها قوة غاشمة ومستبدة وغازية وسالبة وناهبة للثروات وغيرها وهذا صحيح.
 

الديمقراطية .. مزايا ومعايير

ياسين أبو ظفار

إذا كانت الديمقراطية بوصفها نظام حكم أو حكم الشعب من الشعب وللشعب فإنها أيضاً تعني قيم العدل والتوافق والإنصاف . وعلى هذا الأساس فإنّ المُثل الديمقراطية بمختلف معاييرها تتقاطع وتتنافر مع أيّ شكل من أشكال ثقافة العزل والإقصاء . ومن المعروف في الأنظمة لديمقراطية ، يكتب دستور من قبل ممثلي الشعب المنتخبين بطريقة الاقتراع السري المباشر وفق أساليب وطرق تحافظ على نزاهة وشرعية العملية الانتخابية ، هذا الدستور، الذي يعتبر القانون الأعلى للبلاد ، ينظر إلى جميع الفئات والطوائف وجميع الملل والنحل نظرة عدل ومساواة ، وهذا لن يتحقق ، حسب تصوري ، إلاّ بفضل الأديان والإيديولوجيات السياسية الأخرى عن الدولة. يقول (هيدجر) بأنّ ( الفلسفة ذاتها بقدر ما هي عليه ، ملحدة عندما تفهم بطريقة جذرية وهذا يعني بأن الفيلسوف لا يتصرف بطريقة دينية عندما يفكر ، حتى لو كان رجل دين)*، وهذا ينطبق ، حسب اعتقادي ، على رجل السياسة أو الفلسفات السياسية . أي أن ينظر رجل السياسة إلى الدولة بوصفها منظومة علموية بكل أبنيتها التحتية والفوقية ، وأن ينظر الزعيم السياسي إلى ما تم التعاقد عليه ابتداءًَ من الدستور إلى جميع الأهداف والغايات التي علق الشعب آماله عليها، والتي تشكل مرتكزات العلاقة بين الحاكم والمحكوم، على أنّ هذه الأشياء كلها تعتبر عقداً اجتماعيا مقدساً فلا يمكن التغاضي عن أي جزء من مضامينه ، صغيرة أو كبيرة ، على الصعيد الإجرائي والتنفيذي . ومن جانب آخر لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال تطبيق برنامج ديمقراطي ، لاسيما في العالم العربي والإسلامي ، دون فصل ثقافة الملة الواحدة عن الدولة ؛ وهو شرط أساسي لإنجاح العملية الديمقراطية . وهناك أمثلة وتجارب عديدة مرت بها شعوب الأرض ، في هذا المجال . وقبل إلقاء الضوء على بعض التجارب التي مرت بها بلدان العالم ، لابد أن نعي حقيقة ممارسة الديمقراطية ( أنّ ممارسة الديمقراطية أمر عسير بل لعلها الأكثر تعقيداً وصعوبة من كل أشكال الحكم الأخرى ، إنها حافلة بالتوترات والتناقضات وتتطلب من القيمين عليها بذل كل جهد وعناية في سبيل نجاحها...الحكم الديمقراطي لم يصمم بكفاءة بل ليكون عرضة للمحاسبة . قد لا يكون للحكم الديمقراطي قدرة العمل بسرعة عمل الحكم الديكتاتوري ) انظر أوراق الديمقراطية رقم(1) بقلم ملفين أي بورسكي ـ إن التجارب الديمقراطية مهما استطاعت قطع أشواط بعيدة في التحولات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية السلمية وإشاعة مختلف الحريات على مختلف الصعد والميادين ، إلا أنها رغم ذلك تبقى عاجزة عن مواجهة أخطار داخلية وخارجية لأسباب مختلفة منها :
الجانب التاريخي ـ إن هذه الأنظمة ولدت من خلال مخاضات عسيرة وصعبة للغاية ، وحكم الكنيسة وطغيانها في القرون الوسطى ومحاربتها العلم والعلماء ، يعتبر من الشواهد التاريخية ، والتي لا تنسى مهما مرّ الزمن .
الأنظمة الدكتاتورية : وما آلت إليه هذه الأنظمة باندلاع حروب همجية وبربرية ، اكتسحت ملايين البشر وشوهت وأعاقت ملايين أخر .
التخلف والبداوة : هناك شعوب كثيرة على سطح هذا الكوكب مازالت أسيرة قيم التخلف والبداوة ، فهي لا تميز بين الانتماء للوطن والانتماء للقبيلة والعقيدة الطوطمية ..
أما في العالم العربي والإسلامي ، فحدّث ولا حرج ، فهي تواجه مشاكل ومعاضل كبيرة . على رأس هذه المشاكل ، حسب تقديري ، هو دمج الدين بالدولة ، الدين السماوي والدين السياسي ، رغم أن هناك دولا معدودة في العالم العربي قد فصلت دساتيرها الدين عن الدولة ، ولكن تبقى مشكلة هذه البلدان تكمن بطبيعتها الشمولية .
وتواجه العلمانية ، في العالم العربي جملة افتراءات إيديولوجية معادية ؛ فمنهم من يصفها بأنها أفكار استعمارية أجنبية ، وأفكار ماسونية أو من قبيل الإلحاد وهلم جراً .. علماً أن الديمقراطية في العالم العربي لن تقوم لها قائمة بدون الفصل العلماني بين الدين والدولة وبالتخلص من ثقافة وهيمنة الملة الواحدة ومن الأفكار الطوطمية ، والتي مابرحت تنخر في وجدان المواطن وفي الوعي الجماعي العربي .
الـمواطنة : تعتبر المواطنة من المبادئ الأساسية في النظام الديمقراطي إنْ لم تكن في مقدمتها ، ولا تزدهر روح المواطنة إلا في نظام اجتماعي عادل يسوده مبدأ تكافؤ الفرص وجميع الحقوق الإنسانية الأخرى ، التي تشيعها الديمقراطية بالمعنى المتمدن المعاصر . فهي تغدو انتماء لبنية مجتمع مدني حديث بعيداً عن أدران المذهبية والطائفية والطائفة السياسية المؤدلجة المقيتة ، والتي تعمل على تشظي مشاعر المواطن وأفكاره باتجاهات لا تقدر المسؤولية الجمعية للوطن والشعب وموروثه الإنساني النيّر محلياً وعالمياً بوصف الحضارة إنتاجاً جمعياً للإنسانية جمعاء . يقول ( باكل ) في مباهج الفلسفة الكتاب (2)[ إنّ الديمقراطية ليست عملية انتخابات وصناديق اقتراع فقط . وعلى هذا الأساس ( تجلب فوضى الديمقراطـية العديمة القيادة البربرية ) ] !! أي أنّ البلدان ، التي كانت ترزح من النظم الديكتاتورية حقباً من الزمن لا يمكن إقامة وبناء أسس الديمقراطية فيها دون الأخذ بالحسبان الواقع التاريخي والثقافيً الملموس والتعاطي معه وفق آليات علمية ودقيقة والاستفادة من تجارب العالم الآخر بانتصاراته وإخفاقاته على جميع الصعد .

* مـزايـا الديمقراطية :
إن مزايا الديمقراطية كثيرة ، ولكن حسب ( روبرت دال ) في كتابه عن الديمقراطية ** ، يحدد هذه المزايا بهذه الفقرات ـ وسنحاول شرحها والتعليق عليه ، بإيجاز ـ :

1/ تجنب الاستبداد :
إن الديمقراطية كثقافة وسلوك تتقاطع ومناقضة لأي شكل من أشكال الوعي الاستبدادي والسلوك الأحادي الجانب . فهي ثقافة التسامح والإنصاف والأخوة والمحبة . ومع الانتقال إلى النظام الديمقراطي تبقى إرهاصات الماضي عنيفة ومخلفاته ثقيلة تحتاج من القيمين على هذا النظام الجديد بذل جهوداً حقيقية وصبورة ودؤوبة وبذل أكبر جهد ممكن بمشروع تربوي تنموي لإشاعة ثقافة التسامح والعدل والإنصاف والمحبة والمساواة . مشروع يستند إلى آليات حديثة ومتطورة في مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . وهنا أود أن أؤكد على ضرورة نشر وإشاعة ثقافة ( النحن ) وإقصاء ثقافة الملة الواحدة كما اشرنا إليها سلفاً ..

2/ الحقوق الأساسية:
وهذه تشمل العديد من الحاجات الإنسانية الأساسية وغيرها كالمأكل والمشرب والملبس والمأوى ، وبعبارة أخرى جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . فعلى الحكومة المنتخبة، والتي منحها الشعب ثقته الكاملة ، عن طريق الاقتراع الحر النزيه ، أن تولي أهمية قصوى برعاية حقوق الأفراد الخاصة والعامة ، على مختلف الصعد ، وفي جميع المجالات ، وتهيئة جميع الفرص للأفراد لأن يقرروا حياتهم كما يشاؤون ووفقاً للقواعد والأنظمة التي ينطوي عليها دستور البلاد ، بعيداً عن النظرة القبلية والطائفية والمذهبية المقيتة ، والحقوق الأساسية للأفراد كثيرة ومتعددة ولا مجال لذكرها كلها هنا ونكتفي بالقول أنّ مبدأ العدالة الاجتماعية عندما يتحقق بالقدر الممكن وبالأعم والأشمل لكافة المواطنين ، على أساس المواطنة وليس لاعتبارات أخر ، عندئذ يمكننا أن نلمس احترام الإنسان وحقوقه الأساسية .

3/ الحرية العامـة :
إنّ الحريات تعدّ من المبادئ الأساسية للديمقراطية . ولقد أكدت جميع الشواهد والوقائع التاريخية أنّ النظام الديمقراطي هو البديل الأمثل لمنح جميع الحريات الشخصية والعامة ، حسب تصوري . ومن القواعد الإجرائية لمنح وتطبيق الحريات الديمقراطية هو احترام حرية الرأي والمعتقد وحرية الاختلاف وحرية التعليم والفكر ، وجميع الممارسات الاجتماعية والثقافية ، ونبذ مختلف أشكال الاحتكار الثقافي والفكري والفئوي وثقافة القطب الواحد ، والوقوف بوجه ثقافة الإقصاء والكراهية ، ونبذ محاولات تقديس الثابت على حساب المتغير ، لأنّ الناس ولدوا أحراراً كما جاء بالوثيقة العالمية لحقوق الإنسان . ومن هنا تأتي أهمية وضرورة حرية العقل والضمير ، والتي هي أسمى شيء في عالم الحرية . وفي نفس الوقت علينا أن نفهم أيضاً أن الحرية هي التزام وشعور بالمسؤولية اتجاه الأمة والوطن . وتعني الحرية أيضاً الابتعاد كلياً عن أساليب التدنيس والتدليس وتشويه الحقائق والوقائع لمصلحة هذا أو ذاك ، أو هذه الفئة أو تلك . والحرية ، أيضاً ، هي نقيض ثقافة العنف بكل أشكالها وألوانها ، وكذلك التخلص من القيم والموروثات الاجتماعية المتخلفة والبالية لاسيما قيم المجتمع الأبوي .

4/ تحقيق الذات :
يتفق معظم علماء السلوك على أنّ الإنسان ، منذ الصغر حتى الكبر ، ميال لتحقيق ذاته . وحسبما أعتقد ، إنّ التربية الديمقراطية هي البديل عن أية وسيلة أخرى لتحقيق الذات الإنسانية ، الذات المثلى والرفيعة المستوى على مختلف الصعد ، الأخلاقية والنفسية والتربوية والحقوقية . والنظام الديمقراطي ، والذي يعتمد على آليات علمية وواقعية لتنشئة الأجيال ، هو وحده الكفيل بإتاحة الفرص الكافية واللازمة لتحقيق الأنا الاجتماعية ، وضمان جميع الفرص الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، لضمان حقوق الأفراد والأمة لتحقيق الخيارات المشروعة في الحياة ، خلا ذلك الحقوق الديمقراطية الأخرى كحق الاقتراع والتصويت والترشيح والحقوق الأخرى ، والتي تعتبر من مستلزمات نجاح البناء الديمقراطي ..

5/ الـمسؤولية الأخلاقية :
يعتبر علم الاجتماع الماركسي أنّ الوعي الأخلاقي هو أحد أشكال الوعي الاجتماعي ، وعلى هذا الأساس تأخذ الأخلاق الاجتماعية موقعاً تراتبياً ضمن سياق أشكال الوعي الاجتماعي . ومن ثمّ ، تقتضي المسؤولية الأخلاقية احترام مختلف الحريات الاجتماعية والسياسية ، والمبادئ الإنسانية العامة كحقوق الأفراد والجماعات وفقاً للنظم والقواعد والأعراف المعمول بها لحماية العملية الديمقراطية من الخرق والتجاوز والغش والتزوير والخ
وإن الأخلاق الديمقراطية تقتضي أموراً عدة منها احترام المبادرات الفردية والجماعية للإسهام في المشروع الديمقراطي ، والالتزام بالقيم المثلى التي تتوخى بناء المجتمع الديمقراطي والتصدي لكل محاولة من شأنها الوقوف بوجه أنسنة المجتمع وعملية التحول الاجتماعي السلمي لتحقيق مرحلة متقدمة من التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ذي المدلولات الجوهرية الديمقراطية ومن ثم تحقيق الرفاه الاجتماعي والازدهار الحضاري والثقافي .

6/ التنمية البشرية :
تعتبر التنمية البشرية من أهم المشروعات وأخطرها على حياة المجتمع البشري . ففي الأنظمة الشمولية أو الديكتاتورية يتم توجيه التنمية البشرية بما يتلاءم ويلبي مصالح هذه النظم ، فهي تغدق الأموال والامتيازات لأصحاب المواهب والكفاءات لشراء ذممهم وتحويلهم إلى بيادق أو أدوات لحماية مصالحهم وترسيخ دعائم أنظمتهم ، ولذلك نلاحظ هجرة الأدمغة العلمية إلى بلدان أخرى لاسيما الولايات المتحدة ودول أوربا المتقدمة ، وخصوصاً خلال حقبة الحرب الباردة أثر نشوب الصراعات السياسية في البلدان المتخلفة ، هذه الصراعات التي استمرت عقوداً من الزمن بين الأحزاب السياسية الشمولية . وهذا الموضوع يحمل تفاصيلاً مطولة لا مجال لها هنا في هذا البحث .
ففي ظل حكومة ديمقراطية منتخبة ، وفق معايير سليمة ، يمكن تحقيق التنمية البشرية وإقامة برامج علمية لتطوير أصحاب المهارات والكفاءات محلياً وعالمياً ، على اعتبار أن الإنسان هو الوسيلة والغاية في آن واحد ، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص والالتزام بمبدأ الشخص المناسب في المكان المنسب . وهذا لا يتم إلا وفق مشروع تنموي حضاري قائم على أساس فلسفة علمية بنائية تربوية شاملة ، وحسب تصوري ، إن ذلك لن يتحقق بيسر دون التقدم في العملية الديمقراطية بتحقيق نظام ديمقراطي علماني قائم على فلسفة فصل الثابت عن المتغير ..

* ومن الـمعايير العامة للديمقراطية :
ـ تحقيق فرص المساواة على مختلف الصعد في الاقتراع والتصويت والترشيح .
ـ امتلاك قدر من الوعي في المساهمة الديمقراطية
ـ توفير الأمانة والحصانة للناخب والمرشح من قبل الدولة
ـ الالتزام والتمسك بالقواعد الأخلاقية الديمقراطية ، والتمسك بقاعدة ( أكون كما تكون ) وفقاً للصيغ والنظام المعمول به ، والمساهمة الفعّالة في العملية الديمقراطية من قبل الجميع ودون أيّ استثناء يخل بشروط وقواعد العملية الديمقراطية .
ـ التمسك بقيم العدل والإنصاف والتراضي والتوافق .
ومن كل ما أسلفنا ذكره ، فإنه قد تواجه العملية الديمقراطية بعض الإخفاقات في هذا الجانب أو ذاك ، أمّا في العالم العربي والإسلامي فإنّ الديمقراطية تواجه مشكلات شتى ، نذكر منها :
ـ صعوبة التخلص من ثقافة الملة الواحدة أو القطب الواحد .
ـ مازال الحاضر ينوء من سلطة الماضي بمختلف محمولاته الفكرية والقيمية ، والتعاطي مع الماضي كسلطة مطلقة .
ـ عدم التخلص من سلطة المجتمع الأبوي السلطوي .
ـ هيمنة ثقافة نظرية المنقذ والرمز المقدس ووثنية النص التفسيري .
ـ ممارسة إسقاط المتغير على الثابت بوصفه السلطة المطلقة ، والضروب المختلفة للأفكار الطوطمية مما سبب عمها فكرياً لرؤية الواقع والحقائق الموضوعية .
ـ عدم تحول العقل العربي الإسلامي إلى مؤسسة علمية مدنية والفجوة الكبيرة أو التصدع الهائل بين (الأنا والنحن).
ـ الرؤيا العشوائية إلى الآخر المتمدن واعتبار الحضارات المتمدنة الأخرى في الغرب هي نتاج حضارة الشرق ، مما أدت وتؤدي هذه الرؤية إلى إسقاط الواقع بالوهم .
ـ توقف العقل العربي الإسلامي منذ أحد عشر قرناً من الزمن تقريباً عن إنتاج أي مشروع أبستمولوجي مقابل الآخر المتمدن ، وكيف لن يتوقف العقل العربي على امتداد هذه الحقب الفائتة وهو يرى حاضره ومستقبله في ماضيه !!؟

• هيدجر / كتاب والسؤال عن الزمان / دراسة فينومينولوجية .
• روبرت دال / كتاب عن الديمقراطية / ترجمة أحمد أمين الجمل .


الديمقراطية والحرية

ياسين ابو ظفار

الديمقراطية
الفكر نتاج مــادة عالية التنظيم ألا وهي الدماغ البشري( حسب مفهوم المادية الجدلية )، وهذه المقولة هي العقدة الأساسية في الفلسفة ..
يتضح لنا من هنا وبشكل جلي أنّ الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود كما يقول ( كارل ماركس ) ، أقول ذلك دون العوم فوق أمواج الإيديولوجيات
إذن يبقى العلم بكل مدارسه واتجاهاته هو القوة الجمعية المقررة لجميع حقائق التاريخ على اختلافها ، ولا يخضع لاتجاه واحد أو لرؤية أحادية الجانب . وبتعبير آخر ، إنّ الحقائق ، التاريخية لا تستطيع أية إيديولوجية في العالم مهما كان حجمها وقوتها ترويضها وتسويغها لصالحها ومهما كانت الاليات المستخدمة لتدجين العقل البشري وتشويه الفكر الإنساني . ومن هنا قد نصل إلى رؤية يقينية بأنّ العقل البشري هو أرقى ثمرة كونية ، بيولوجية وسوسيولوجية ، هذا العقل ، الذي استغرقت قوانين تطوره ملايين السنين حتى وصل إلى هذا المستوى من الرقي في التصبّير والتكوين .. وتعد الديمقراطية ثمرة من ثمار هذا التطور.
على هذا الأساس ، إنّ الديمقراطية ، كما قلنا في كتاباتنا السابقة ، منظومة قيم إنسانية وأخلاقية ، وجدت منذ القدم في مختلف الرسالات الأرضية والسماوية ؛ هذه المنظومة ، التي تنطوي على قيم المحبة والإخاء والسلام والعدل والإنصاف ؛ أمّا كبنية مؤسساتية فظهرت كثمرة من ثمار المجتمع المدني ، هذا المجتمع ، الذي هو نتاج وخلاصة صيرورات تاريخية اقتصادية متطورة . وبمعنى آخر ، إنّ المجتمعات المدنية ظهرت مع التطور الصناعي الصاعد في أوربا ، والتي أساسها الثورة الصناعية في انجلترا قبل أكثر من قرنين من الزمن.. وعلى هذا الأساس، فإنّ الديمقراطية كبنية فكرية ومؤسساتية، حـال كونــها
نتاج المجتمعات المدنية المتطورة ، لها دلالة واضحة وكبيرة على تطور الفكر الجمالي للبشرية ، أي تعتبر حلقة متقدمة في هذا المجال ، وهو يعد إشارة واضحة لتطور الوعي الحقوقي والأخلاقي ، هذه الأخلاق الإنسانية ، التي تعتبر أرقى مرتبة في السلوك الواعي لبني البشر .
إذن ، الوعي الديمقراطي الحقيقي ، يعدّ وعياً متطوراً مؤشراً ومحـدداً ، بوضوح ، حـاجـات الإنسان التاريخية لبناء مجتمع متحضر عصري، تذوب فيه مختلف أشكال الوعي المتخلفة، كالوعي البدوي والإقطاعي والاستبدادي والوعي الاقصائي بهذا القدر أو ذاك . والسؤال ، الذي يطرح نفسه هنا ، هل نستطيع تحويل الوعي الاجتماعي المتخلف ، بجميع أشكاله ، لاسيما الوعي الاستبدادي ، إلى وعي ديمقراطي ، في الوقت الحاضر ، ومن ثمّ تحويله إلى وعي مؤسساتي .. ؟ للإجابة :
1/ يحيلنا هذا السؤال ، في جميع الأحوال ، إلى الماضي القريب ، أو البعيد ، لتاريخنا ، لقراءة واقعنا ولو بصورة تقريبية أو موجزة ؛ لأن الماضي مفتاح الحاضر ، والحاضر ، بطبيعة الحال ، مفتاح المستقبل . أولاً ، ولأن التجربة أداة معرفية وعامل حيوي وفعّال ، في مجال البحث ، كما تنهل منه التجربة من وسائل تبصير به وإضاءات معرفية ، على مستوى المطبق والمنجز، ومن هنا يمكن استخلاص الدروس، بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية ، إنْ أردنا ذلك ، وإنْ اخترنا ذلك سبيلا .
عاشت مجتمعات البلدان النامية عقوداً أو ردحاً من الزمن وهي تعاني من أنماط حياتية متخلفة ، على مستوى البنى التحتية والبنى الفوقية . والثانية نتاج الأولى ..

* الانقلابات السياسية :
إنّ معظم الانقلابات السياسية ، التي حدثت في العالم النامي فشلت في إرساء المقومات الحقيقية لعملية البناء الاجتماعي الإنساني ، للأسباب التالية :
1/ إنّ هذه الانقلابات ، في معظمها ، قادها العسكريون ، والعقلية العسكرية ، كما هو معروف ، لا تمتلك أفقاً فكرياً وسياسياً واسعاً ، أكثر من الأفق الذي يعبّر عن مصالحها الأنانية والفئوية الضيقة ولكونها هكذا ، فهي لا تتوانى عن استخدام مختلف الإيديولوجيات الاستبدادية ، التي تعبر عن العقل السياسي التسلطي المتطرف ، لسحق جميع معارضيها من الفئات والقوى السياسية الأخرى ، لأنها تتعامل دوماً بالعقل السياسي ذي البعد الواحد ؛ وشتّان ما بين الوعي العسكري والوعي الديمقراطي.

الطبقة الوسطــى :
تعتبر المؤسسة العسكرية ، بحكم طبيعتها الدكتاتورية ، قد عملت وتعمل دوماً ، على تغييب هذه الطبقة الوسطى ، والتي غالباً ما يطلق عليها البرجوازية الوطنية ، لانخراط الفئات الديمقراطية والليبرالية تحت خيمتها ، كالمثقفين والمبدعين والمفكرين ، وهي تشمل أيضاً فئات أخرى من الموظفين والتجار وغيرهم ، وإذا أرادت أن تعمل ذرة خير فهي تسعى ، جاهدة ، لخلق رأسمالية الدولة ، من قبل بعض المتنفذين سياسياً في المراكز العليا للدولة . وهذا ما حدث في كثير من البلدان النامية وخصوصاً في العالم العربي . وفي ظلّ هذه الأحوال ، نرى في العقود الماضية ، أن البرجوازية ، في العالم العربي، لم تستطع النفاذ من شرنقة تخلفها ؛ إذْ اتجهت اتجاهين : اتجاه عقاري واتجاه كومبرادوري ، أي اتجاه تجاري وسيط بين السوق المحلي والسوق العالمي . وحال ذلك دون ظهور صناعات متطورة ، وبالتالي منع نشوء مجتمعات مدنية ، وقد أدى هذا بدوره إلى تعطيل الولادة الطبيعية للوعي الديمقراطي ..

* الديمقراطية وازدواجية السلوك :
في ظلّ هذه الأوضاع المتعاقبة والمتفاقمة ، نشأت أحزاب وقوى سياسية متعددة في هذه البلدان ، تدين بمبدأ الديمقراطية ، لتحقيق مصالحها الفئوية لا أكثر، حتى لو كانت تلك الأحزاب والقوى السياسية صادقة فيما تدّعي ؛ إن الإشكالية هنا ، تكمن ، أولاً : في مواجهة عقبات كثيرة ، لأنّ موجهات السلوك الاستبدادي أكبر من قدرتها وطاقتها ، كموروث اجتماعي . ثمّ أنّ هذه القيادات السياسية نفسها ولدت من رحم الاستبداد ، فلابد أن تسقطه على غيرها، ثانياً.
وهناك مسألة أخرى ، لا تقلّ خطورة عما سبق . إنّ المجتمعات المتخلفة تحكمها الطبيعة البدوية أو البدائية ، وبتعـاقب الأزمنة والدهور أصبحت هذه القيم المتخلفة تحفر في قعر اللاوعي الجمعي أو الذاكرة الجمعية ، وصارت جزءاً من التكوين النفسي والاجتماعي للفرد والمجتمع . فكل هذه الأسباب ، وأسباب أخرى ، ساعد على تغريب سلوك الفرد في المجتمعات النامية ، وأغرقته في متاهات اللاواقع . وهناك سبب آخر عانت وتعاني منه جميع شعوب الشرق ، لا أريد ذكره هنا ، لا يخفى على القارئ اللبيب ، ساعد على تغييب أفكار الواقع ، ثمّ إسقاط الواقع بالخيال أي استبدال الواقع بالوهم ! مما أصاب البصير بالعمى الفكري وإنفلونزا العقل السياسي ..

الحــــرّية :
يعرّفون الحرية ، على أنها وعي الضرورة ! أي بمقدار ما يتحرر الإنسان من قيود الجهل والظلم والتخلف ، بهذا القدر أو ذاك ، يكون حـراّ ، أي أنّ الحرية تساوي التحرر .. وتقول الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان ، في أحد بنودها ، إن الناس ولدوا أحراراً . وقال الخليفة عمر بن الخطاب (رض) : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ أي أن الله خلقنا أحراراً. ويقول الشاعر :

                   ذو العقل يشقى في النعيم بعقله       وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

إنّ المجتمعات المتخلفة عانت على مرّ الأزمنة والدهور ، من ثقافات الاستبداد والقمع والتغييب ومختلف أشكال الإرهاب الفكري والنفسي والسياسي . والتاريخ البشري هو صفحات ناصعة وشاهدة على ذلك ؛ فالأنظمة الدكتاتورية لا تتوانى أبداً عن ممارسة مختلف أشكال الزيف والتضليل ، من أجل إشاعة تلك الإيديولوجيات المقيتة والأساليب الرخيصة ، كإتّباع سياسة ذر الرماد في العيون وتأسيس آليات وموجهات خاصة بها ، لتحقيق والمحافظة دوماً على مصالحها الفئوية. وفي القرن العشرين ، المنصرم ، استطاعت الإيديولوجيات الحاكمة تشويه الوقائع وتدنيس الحقائق التاريخية للشعوب ، بهذا القدر أو ذاك ، مستخدمة وسائل وشعارات هدفها تبليد الحس الإنساني للشعوب ؛ فـتارة تستخدم شعارات قومية شوفينية ، تارة أخرى ، تستخدم الدين كعملة للارتزاق والتآمر السياسي لتبقي الآفاق مفتوحة أمامها ، لتحقيق مصالحها الضيقة على حساب مصلحة الشعب والأمة . وقد استثمرت ، هذه الأنظمة ، بالدرجة الخاصة فرص الاستقلال، استقلال وارداتها من التبعية الاجنبية، لتهيمن بكامل ثقلها السياسي لتبدأ مرحلة احتلال وطني ثاني باسم معاداة الاستعمار والصهيونية والامبريالية !! وتستمر في توجهها السياسي المعادي المزدوج لتكيل الضربات لمختلف القوى الوطنية والاجتماعية والحركات الديمقراطية (لتحلل) معاداتها للقوى الأجنبية كالاستعمار والامبريالية وغيرها من ترهات الألفاظ السياسية ، وتستمر في هذه الازدواجية السياسية القاتلة لتشرّد أصحاب الكفاءات والعقول العلمية إلى تلك البلدان الامبريالية . وهذا ما حدث فعلاً ، في القرن الماضي ، في العراق والعالم العربي . وهناك إحصائية لعام 1985 تفيد أنّ في كل مستشفى من مستشفيات الولايات المتحدة يوجد طبيب واحد عربي من كلّ ثمانية أطباء .. هذا دليل على ( صحة ) ادعاء الأنظمة العربية بقيامها بالخطط التنموية الانفجارية ، ومشروع الانبعاث الحضاري ، والتي كثيراً ما كانت تتشدق به . وهذا أيضاً مشهد من مشاهد الفجائع للديمقراطيات القومية الانبعاجية .. الانبطاحية ..
إنّ ما حدث في العالم العربي ، وفي العراق خصوصاً ، في الحقب الماضية وما تلا أحداث الاستقلال ، من جرائم سياسية وبشاعات بحق الإنسانية ، والتي ذكرنا قسماً منها في موضوع بيبليوغرافيا الإرهاب ، والذي نشر في حينه في جريدة الصباح البغدادية ، قبل عامين، هو شاهد ودليل على (الشهامة) العربية للأنظمة الاستبدادية ، التي توالت على العرش في العراق ، وكذلك ما حدث ، نظير ذلك ، في البلدان العربية الأخرى ، وكلّ شيء كان يرتكب باسم الحرية والقومية والديمقراطية ، وما زالت هذه القوى تنفث بسمومها وترتكب الفواجع باسم حجج ومسميات لأنها فقدت امتيازاتها ونفوذها السياسي ، بدلاً من أنْ تلجأ إلى الطريق الصحيح والقويم وتساهم ببناء وحدة الوطن والشعب ومهما كانت الأسباب والظروف ، خاصة في هذا الظرف العصيب والدقيق والمتلابس ، لأن المحتل ليس هو الشعب ، وليس الشعب هو المحتل ..
إذن ، إذا كنا نؤمن ، حقاً ، بالحرية ، التي هي أنبل وأسمى غايات الإنسان ، منذ بدء الصيرورة والتكوين ، فمن الأفضل مراجعة النفس والضمير ، مراجعات علمية موضوعية تاريخية ، لنرى ما لنا وما علينا؛ فالمشروع التنموي الحضاري يتطلب ذلك ، وأول ما يتطلب ، حسب اعتقادي ، التخلص من غثيان مخلفات ثقافات الاستبداد السياسي ومختلف أشكاله الأخرى، والتي تتجلى ، بكل وضوح ، بغريزة الاستسلام المازوخية لثقافة القطيع السادية ، التي عانى منها شعبنا وشعوب المنطقة زمناً طويلاً . الحرية نتاج صيرورة اقتصادية اجتماعية نفسية تطورية متحررة من سطوة الاستبداد والكراهية والعنف وجميع البنية المادية والاجتماعية المتخلفة ؛ شرطها ، في الوقت الراهن ، التضامن والتكافل والتنازل المتقابل لمصلحة الوطن والأمة ..


المعرفة.. والإيمان

ياسين أبو ظفار

منذ البدء كان الإنسان وكان القلق والخوف يلازمه دفاعاً عن مصيره وكيانه مما يحيط به من قوى طبيعية وقوى أخرى اختلقها وهماً تحسباً من المجهول الذي ظل يعاني من وطأة كوابيسه حتى يومنا هذا.. فقد ظل الإنسان منذ عصور غابرة وسحيقة ينسج أفكاره على شكل أساطير معبراً عن صراعه مع الطبيعة، وهناك الشيء الكثير من تلك الأساطير خاصة في حضارات وادي الرافدين ووادي النيل وحضارتي الهند والصين وكذلك الإغريق، ومن أجل أو محاولة فك عُقد ولغزيّة الكون استطاع الإنسان استثمار جميع قواه العقلية والذهنية لنسج المزيد من الحكايات والأساطير التي يتحدث معظمها عن جبروت الطبيعة وخوارقها ومفارقاتها. وقد جسدت ملحمة (كلكامش) و(الطوفان) خوفاً وقلقاً كبيراً من الموت ورغبة في الخلود، إذ إن الخوف والقلق موجودان منذ الأزل وملازمان للإنسان بمختلف مراحله الحياتية والتاريخية، ونقصد بالقلق هنا، هو الصراع الدائم بين الإنسان وبين القوى الطبيعية والاجتماعية لتحقيق آماله وتطلعاته الحياتية بعيش يكتنفه الأمان والاستقرار.
لقد جاءت الديانات الأرضية كأيديولوجيات معبرة عن أفكار وقيم وأخلاق معينة، وخير مثال على ذلك ما جاء به بوذا وكونفوشيوس اللذين أكدا من خلال تعاليمهما على الصدق والتآخي والمحبة والأخلاق السامية.. وبعدها ظهرت الدعوات الدينية الغيبية التي بشرت بوجود الإله غير المنظور من خلال الأنبياء والرسل وما جاءت به كتبهم من تعاليم عبادية وكانت جميعها تحث الإنسان على الطاعة والعبادة بوساطة الأنبياء، وان الطقوس العبادية هذه قائمة على أساس مبدأ العقاب والثواب.
إن الأفكار الغيبية منذ ظهورها وحتى هذه الساعة قد أخفقت بتقديم الحلول الواقعية والملموسة لأبناء البشر فحاولت ـ عامدة أم غير متعمدة ـ تغييب الحقيقة، وراح الإنسان يبتعد أكثر فأكثر عن استخدام الأدوات والوسائل الواقعية (الفكرية والعملية) في عملية الصراع سواء أكان ذلك الصراع اجتماعياً أم طبقياً أم بين الإنسان وقوى الطبيعة.
ان جميع الحلول التي اكتسبتها البشرية من الموروث الغيبي هي بعيدة كل البعد عن معاناة الإنسان الحقيقية ومشكلات عصره التي تتطلب إمكانيات واقعية وعلمية لمواجهتها، فالأيديولوجية الغيبية زاخرة بحلول إصلاحية سطحية ترجئها دائماً إلى السماء البعيدة، وعلى هذا الأساس صارت معطلة ومصحّرة للعقل البشري، ومن ضمن المحاور الرئيسية التي تعتمدها الأيديولوجيات الغيبية هو اعتبار الإيمان أولاً والمعرفة ثانياً، وبقراءة دقيقة ومتأنية للتاريخ البشري نرى الإنسان في حالة الضعف والانهيار يلجأ دائماً إلى مثل هذه الحلول الغيبية، أي عندما يغيب عنه امتلاك الوسائل الواقعية الحاسمة لمواجهة مشكلاته ومعضلاته، والقوى الاجتماعية الباغية والظالمة هي وحدها التي عملت ولازالت تعمل على تدجين الوهم في عقول الناس وإشاعة التجهيل، وذلك لإرجاء الصراع وأي شيء آخر إلى العالم الغيبي والدعوة إلى المحبة والأخوة الطبقية المزيفة.
إن المعايير الأخلاقية لا يمكن تطبيقها دون الأخذ ببرنامج اجتماعي واقتصادي وتاريخي وسايكولوجي واع واقعي وبعيد عن التعاليم التوفيقية، لأن الأخلاق الإنسانية لم تتحقق بقدرة قادر أو بعصا سحرية لأنها ـ أي الأخلاق ـ شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، وهي أسبق تاريخياً من الوعي الديني.
وفي ظل غياب تكافؤ الفرص وغياب العدالة الاجتماعية يبدأ الإنسان المؤمن بعقيدته الغيبية بالاحتجاج على خالقه، وكما يقول المثل العراقي الشعبي، وبلغة كافرة: (الله يعطي الجوز لمن ليس عنده أسنان)، والحاجة المادية والظروف الضاغطة التي يواجهها الإنسان تجعله دوماً يخرج من طوره لاجئاً على سبيل المثال إلى السرقة والكذب والنفاق وإلى غير ذلك، وتعتبر عملية إسقاط المعرفة بالإيمان محاولة لكبح وقتل القدرات العقلية والفكرية والبايلوجية عند الإنسان، ومحاولة أيضاً لإيقاف وتعطيل القدرات الفاعلة والمؤثرة لدى الإنسان في محيطه وعالمه الموضوعي ثم إماتة التلاقح الجدلي بين الذات والموضوع، وثمة تساؤلات عديدة وكثيرة يتوقف عندها الفكر الغيبي مكتوفاً ولسانه معقود، ومن ضمنها ـ هل خلق الإنسان الذي هو أرقى المخلوقات تطوراً وتكويناً لأجل شيء واحد هو العبادة؟:" ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "، وبوقفة متأملة ومتأنية نكون أمام سؤال آخر وهو: هل خلق هذا الكون الهائل العظيم من الكائنات الحية لأجل شيء واحد هو أن يولد الإنسان ويعيش في كنف هذه الأشياء ليعبد ويطيع خالقه المزعوم فقط؟.. إن المنطق الغيبي يكاد أن يلغي جميع الفواصل بين المعقول واللامعقول بإضفاء القدسية على الطروحات المثالية، وإلا كيف يمكن للإنسان أن يؤمن قبل أن يعرف؟. فهذا يعد ضرباً من ضروب إيقاف النشاط العقلي والفكري، ونلاحظ حتى الذين يؤمنون بالفكر الغيبي الميتافيزيقي ينتابهم شيء من الشكوك، لأن للعقل البشري خواصاً طبيعية لا يمكن تجاوزها، فهو لا يمكن أن يبقى ـ على الدوام ـ يحاكي ويستسلم لما هو غير محسوس وغير ملموس وغير واقعي، كي يبقى ـ على الدوام أيضاً ـ منتعشاً في مستنقع الوهم!.. كـلا.


تداعيات حمار

ياسين ابو ظفار/ كاتب من العراق

كان البدء وكنت انا احمل اسفاري واسفار الذين رحلوا والذين قدموا اما الذين رفعوا الحكمة بغصن الزيتون , صاروا في مطبات الارض ودهاليزها فانا اقيم عليهم قداساً ازليا, نعم ان هؤلاء احترقوا ليضيئوا عالم العتمة والسواد ليوقفواالخراب والخواء واليباب من هنا تبقى دهشتي عظيمة وغصتي اعظم لمن امعنوا بالتفلسف والتعقل من الحضارة استبدادالعباد وعنف السياط,فانا الحمار اشهد اني رأيت وسمعت فعيوني شاهدة على المشهد الارضي الخليع منذ انكسار عيني في العهود القديمة والاسفار الحديثة , فبانوراما اليوتبيات القديمة والجديدة اغشت بصيرتي , فها هي انفاق موتاكم من الاحياء والاموات معمدة بالزيف والنفاق ,ولم تبارح عيوني مشاهد الفجيعة والبشاعة والدمار شهدت عيوني وتشهد كيف تفقا عيون الاطفال بعبوات الخوف والرعب حتى اهتزت قبور الاحياء والاموات , منذ تيبس حلم (راحيل) والذي امتطى صهوة المجد بقتلي في يوتبيا الواح الطين , ثم انبرى صوتكم يغرق في طين صمتكم انا الحمار. اقول بلا خجل ووجل ان الصمت العالم ازائي يوجعني ثم اني اسخر من اسواق السيناريوهات البشرية التي يتبظع فيها كثيركم من اجل ولاجل تابوات الكلمة اسخر منكم وبكم لانكم ما برحتم ترسمون عنفوان فرحكم بمزاميركم القديمة.
وعندما ولد ابني اللعين من ماء فرس النهر امتزج ماء الخصب فصار جامحا عصابيا كنتم الذين استشرى بكم داء قارون .... ومنذ صرخة لفاح (رائوبين) بوجهي بدات انهق بوجهكم واستشرى بي الذهول , لقد علمتني اسفاركم اشياء واشياء , اما انتم يا بني ادم سرقتم الحكمة مني وطفقتم تتبارون في النهيق , في غفلة من زمن اليورانيوم.
فانا الحمار اذني تشهد وماء (ليئة) منذ القدم يشهد على زهيق ونهيق حظارتكم وتكالبتم وتناسيتم انيين الاجداد والاحفاد وتفاخرتم عجبا ولغمتم انفسكم ببارود الفجيعة والنفاق , وملاتم الدنيا نباحا وعواء .... نعم ان اذني تشهد والتي صارت زادا ونهشا ازليا لطنينكم ها انتم تفقونعلى عتاب عالم البغي والعهر وتطلقون صرخاتكم .. صرخات الفجيعة والدمار حتى انشق من رجعها الاوزون نحن بني الحمير نطلق ندائنا الاخير منذ البدء وما زلتم تطلقون صوت العزة وتمرغون بوحل الاثم والوهم ونقولها ثانية كم دهشتنا كبيرة وغصتنا عظيمة لانكم سرقتم الحكمة الاولى من وحي الغراب ومنذ ذلك الحين تضخمت الانوف وانتفخت البطون ونفختم بطون الارض بالدم وانتفخ بالجماجم  تراب اليباب , ومن اجل ان ترقص الذئاب ما برح ثالوثكم الازلي يتوسم بترانيم الفجيعة دم , دم, دم غراب , غراب , غراب , خراب ,خراب , خراب. وانتم ما زلتم عليه الاعوان......


ثقافـــة العنــــف والاســـتبداد فـــي العـــراق

ياسين أبو ظفار

القسم الأول
إنّ ظاهرة العنف وجدت منذ بدء الخليقة أي منذ الأزل، والتفسير الميثولوجي للتاريخ قد أكّد هذه الحقيقة، كما تحدثت عنها التفاسير الأخرى للتاريخ أيضاً، خصوصاً التفسير الجغرافي لحضارة وادي الرافدين. وبرغم الأشواط الهائلة التي قطعتها البشرية في مجال التطور العلموي والتكنلوجي وكذلك في مجال العلوم الإنسانية والثقافية، وانعكاسات هذه المنجزات، وبشكل إيجابي، على الوعي الجمعي البشري، إلاّ أنّ الطبيعة الغرائزية لبني البشر وكذلك الترسيخ المفاهيمي والقيمي لثقافة العنف والجريمة من قبل أنظمة سياسية معينة أو من قبل تيارات إيديولوجية متطرفة أخرى تحول، في معظم الأحيان، دون ثقافة الوئام والسلام ..

وعندما يسعى الساعون إلى تحويل هذا الواقع، أو هذا الأمر إلى ثقافة، وفق آليات فكرية واجتماعية وسياسية، بوصف الثقافة وسيلة أو طريقة حياة تنطوي على أسس فكرية وممارسات عملية في مجال معين، يعد ذلك من أخطر الآفات وأعلى درجات البشاعات .
ويبدو لي، إنّ ثقافة العنف هي شكل من أشكال ثقافة الانحطاط ، كونها نتــــاج الفترات المظلمة، التـــي تمر بها الشعوب، هذه الفترات التي تشهد انهيار البنى المنظوماتية الأخلاقية والانسانية، تنمــو وتترعرع مثل تلك الثقافات، فتشرع قوى التخلف والظلام بشــــن الحملات الفكرية والسياسية (السيكوباتية) ضدّ العلــم والعلماء والمفكرين ومختلف الآداب والفنون، خصوصاعندما تفقد جميع المبررات والمسوغات لتقبل إيديولوجيتها المحمومة، تلجأ إلى استخدام العنف كأداة لنشر الخوف وزرع الرعب في نفوس الناس ـ وعلى هذا الأساس يعد العنف إحد سلوكيات الفشل السياسي والإحباط الفكري .
وثقافة العنف لها مظاهر عدّة : كالعنف النفسي والجسدي والعنف السياسي الدموي . وهناك أمثلة عديدة ومشاهد مؤلمة في تاريخ العراق السياسي الحديث. فاثر ثورة الرابع عشر من تموز 1958 قام أحد الضباط، وهو يقود مفرزة من العسكر، بمداهمة القصر الملكي وأطلق هو ومعيته الرصاص على الملك فيصل الثاني وعائلته . ولم ينجُ من الموت إلا امرأة واحدة...
وصار معروفا أن هذا الحادث، الذي قاده ونفذه ضابط المفرزة العسكرية ، قد تم بطريقة فردية عشوائية، ودون إصدار أمر من الجهات العسكرية العليا...
إنّ ذلك المشهد الدموي ظلّ ويظل ماثلاً في ذاكرة الشعب العراقي مهما مرّ الزمن، وكما يقول (دستييفسكي) في رواية (الجريمة والعقاب): "أمران يفسدان رأي المرء : جريمة بلا عقاب وعقاب بلا جريمة). أضف إلى ذلك المشاهد الدموية الأخرى، كقتل رئيس وزراء النظام الملكي الأخير، نوري السعيد والوصي عبد الإله ومقتل صباح نوري السعيد، والتمثيل بهم؟ كلّ ذلك وغيره من أعمال العنف الدموي تؤكد الطبيعة الدموية للقتلة آنذاك وعدوانيتهم.
وبعد مضي أربع سنوات ونصف من الصراعات السياسية في العراق، تتم الإطاحة بالزعيم الوطني عبد الكريم قاسم بقيادة صديقه الحميم (عبد السلام عارف) ومجموعة من العسكريين الانقلابيين. وحدث ما حدث من أعمال قتل وعنف واغتصاب. وكان بيان رقم (13)، الذي كان يقضي (باجتثاث وإبادة الشيوعيين والوطنيين في العراق) علامة سوداء فاصلة في تاريخ الأنظمة الشمولية في العراق بعد إسقاط النظام الملكي الدستوري في العراق .
أما في العهد الثاني للبعث، بعد 17 تموز 1968، فقد استمرت الأحوال طبيعية لمدة عامين فقط، وبعدها فتح باب العنف السياسي على مصراعيه، وذلك بعد تولي (ناظم كزار) المسؤولية الكاملة لمديرية الأمن العامة ولم ينجُ من الاعتقال من السياسيين إلاّ الذين فرّوا هربا من سطوة العنف والارهاب السياسي. وكان التلفاز العراقي، خلال هذه الفترة، يعرض الكثير من مسلسلات وأفلام العنف ـ كالمنتقمون، وأفلام للمخرج الأمريكي (الفريد هنشكوك) ووجوه شخصياته المرعبة، وكذلك الشخصية السادية (أبو طبر) وكيف كان يقتل عوائل بكاملها ويقطع أجسادها إرباً إربا.
وبعد استيلاء الرئيس العراقي السابق (صدام) على مقاليد الحكم تصاعدعنف الدولة السياسي بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق الحديث.
ويكفي أن نذكر أنه تسنم الرئاسة في تموز 1979 متربعاً على أشلاء جماعته في قيادة حزب البعث .

ثقافة العنف والاستبداد في العراق
أمّا بعد ابتداء حرب الخليج الأولى، بين العراق وإيران، وإثر مرور عام فقط من ذلك التاريخ، فقد سخّرت الأجهزة الأمنية آنذاك لاختطاف السياسيين تحت جنح الظلام والزج بهم في معتقلات مجهولة. ولم تعرف قبورهم لحد الآن ..!!
وفي أحد الأيام من تلك السنوات السود من الحرب، خرج (القائد الضرورة)، ممتطيا صهوة الوهم، لزيارة إحدى المناطق داخل العراق يستقبله الناس استقبال القائد الظافر القاهر.. كان يرتدي طاقّية سوداء من الطراز الأوربي وتعلو طاقيته ريشة من ريش الكواسر والجوارح من الطيور، وقد جرت هذه العادة في ارتداء غطاء الرأس هذا مع الريشة عند بعض العوائل المتمسكة بالعقيدة النازية في ألمانيا ..!!
إن هذه الطريقة وغيرها من الطرق والأساليب رسخت، في الحقيقة، ثقافة الخضوع والاستسلام لفترة معينة، ولكنها ما لبثت ان تحولت بمرور الأيام الى سلوك سايكوباتي عند الكثير من الأجيال التي أنتجتها الحروب وتداعياتها.
إذا، فالأنظمة الدكتاتورية هي الحاضنة لانتاج ثقافة العنف والإرهاب إضافة إلى الأسباب الأخرى، كالتطرف الديني والقبلي والقومي وما الى ذلك.
يتضح لنا مما سبق أنّ غياب مؤسسات الحياة المدنية والدستورية والديمقراطية أحدثت شرخا كبيراً في المنظومة الأخلاقية للمجتمع وتحطم البنية الفكرية والنفسية لشخصية الفرد . والمشكلة الأخرى هي أن الحكام الطغاة غالبا ما يمارسون تضليلا فكريا وعقائديا لإيهام الناس وتحويلهم أداة طيعة لتحقيق رهاناتهم الشخصية برفع شعارات وأسماء ومسميات لا تمت بأية صلة للواقع وبذلك تتحول الحقائق إلى وهم وخيال والعكس صحيح أيضا، وتحويل القائد السياسي إلى شخصية كارزمية ملهمة. فمهما فعل ذلك القائد من سيئات وقليل من الحسنات فإنه يبقى في نظرهم هو القائد والمفدى، ومها خرّب وهدم فهم يفدوه بالروح والدم. إنّ ثقافة الخضوع لهذا الحدّ من الاستسلام لا تنتج سوى العقول والأفكار المسطحة الساذجة، التي لا تتفهم، البتة، ما هو عقلاني وواقعي، لأنها بطبيعة الحال نمت وترعرعت في كنف المشاعر البليدة والعواطف الساذجة، لأن الطغاة يمتلكون مهارات عالية جداً لتحريك مشاعر ودغدغة عواطف الآخرين، من خلال ممارسة الأساليب الديماغوجية الرخيصة للهيمنة على عقول الناس وتحجيمهم . وبالمقابل يمارسون أبشع أساليب العنف مع العلماء والمفكرين والمثقفين. لأنّ هؤلاء فقط هم الأدرى والأعلم بعقول وأسارير الطغاة.
وهناك رأي في الشخصية السلطوية القمعية، إذا يرى (أدلر) أنّ النشاطات السياسية المتسمة بالاستبداد والتسلط والعنف هي في بعض الأحيان تعويض عن إخفاق أصاب الفرد في حياته الماضية.. ويذهب إلى القول: إنّ الضعفاء والحمقى والخائبين يسعون إلى تأكيد ذواتهم بإذلال من هو أرفع منهم ، وذلك محاولة منهم إلى إنزالهم إلى ما دون مستواهم.. (
انظر: علم الاجتماع السياسي /ص 507 / د. صادق الأسود)
والشخصية السلطوية هي عكس الشخصية الديمقراطية بطبيعة الحال. إذ يرى (لاسول) سمات الشخصية الديمقراطية كالآتي (
د. صادق الأسود/ علم الاجتماع السياسي):
- مواقف مفعمة بالود إزاء الناس الآخرين ..
- مشاركة الناس الآخرين في قيمهم
- نطاق واسع من القيم
- ثقة بالوسط الاجتماعي
- الانزعاج ولكن في حدود معينة
وهناك فوارق بسيطة بين (لاسول) و(انكلس). إذ يرى (انكلس) الشخصية الديمقراطية على الوجه الآتي (
انظر: علم الاجتماع السياسي/ د. صادق الأسود):
- تقبّل الناس الآخرين
- انفتاح على أفكار وتجارب جديدة
- موقف مسؤول إزاء السلطة ولكن متحفظ
- التسامح مع الاختلافات
- التحكم بالعواطف

قارون

الشهيد ياسين ابو ظفار

انه حقا غريب الأطوار لأنه كائن (سيكوباتي)، ضد القوانين والمجتمع ، فهو لا ينتمي لشيء لا لأيدولوجية او مذهب او عقيدة سياسية، فهو لم يكن مسلماً ولا نصرانيا ولا موسويا ولا مكياً ولا مدنياً، فهو لذلك يمكننا الرجوع الى صفحتين من حياته ، الأولى هي مرحلة الطفولة ومرحلة الكبر، فهاهي الأولى ترتسم ملامحها بالقسوة والاضطهاد سببها العوز والفاقة واليتم والتسربل بين تكريت وبغداد، يعتقد كان مجرما محترفاً منذ نعومة اظافره عندما قتل احد اقاربه بتحريض من خاله سيء الصيت، ولأسباب شخصية وانانية، والله اعلم بممارساته الأخرى، اما بعد ان نضج عوده وتسلم المسؤولية في البلاد في تموز 1968 فحدث ولا حرج . .
لقد كان له ولزمرته المجرمة باع طويل في ثقافة العنف السياسي، والإرهاب في العراق طيلة العقود الثلاثة المنصرمة، وقد تفنن بأساليبه الديماغوجية والإجرامية بحق العراقيين، وبقي طيلة تلك العقود، بطلاً قومياً، لا يضاهيه احد بزيفه الفكري والسياسي، مستخدماً ابشع آليات القمع الفكري والسياسي بحق الوطنيين الشرفاء، ومن زاخو الى حدود الكويت، والتي هي الأخرى لم تفلت من يده الملطخة بالدم.. والحديث طويل مع السلوك الخبيث لقارون العراق، وبعد ان صار اكثر ايغالاً في اعمال الأرهاب محلياً وعالمياً، ونتيجة للصيحات والاحتجاجات من لدن المنظمات العالمية، ولأسباب اخرى، مما حدى بقوات التحالف ان تندفع داخل الأراضي العراقية، وبعد اسابيع قليلة من المعارك حتى سقط عرش الطاغية في 9/4/2004 وسقطت تماثيله، ومنذ ذلك التاريخ ولحد الآن بقيت بعض الجيوب الحكومية من افراد قليلين من اعوان النظام السابق، ومن مجرمين وافدين من الخارج، يحاولون اثارة الفتنة والشغب بالقيام باعمال التفجير والتخريب هنا وهناك . .
وثمة سؤال لابد منه هو، هل يستطيع هؤلاء ارجاع عقارب الزمن الى الوراء، بعد ان استيقظ العراقيون من كابوس دام اكثر من ثلاثين عاماً؟ لقد ظهر طغاة كثيرون في هذه الأرض، ولكن ماذا حل بهم . ظلت لعنة الاجيال تلاحقهم من جيل الى جيل ، واليوم ونحن ندلف الى العام الثاني من سقوط الطاغية، نرى ان دولاباً دموياً يدور في بعض مناطق العراق يزهق ارواح المدنيين والأطفال ، وما وقع مؤخراً من احداث دموية في مناطق محافظة ديالى والنجف الأشرف والفلوجة يثير قلقاً لكل عراقي شريف، وللأسف ونقولها وبكل مرارة، ان ما يحدث في بعض مناطق العراق من تحويل المدنيين الى دروع بشرية باسم مواجهة قوى الأحتلال ومقاتلتها، هي جرائم جديدة ترتكب بحق ابناء شعبنا الذي قاسى الويلات من النظام الديكتاتوري السابق، وان ما حدث في مدينة الفلوجة من قتل جنود أميركان والتمثيل بهم باسم الدين والوطن، لا يخدم الوطن ولا ينسجم مع تعاليم الإسلام الحنيف ، فاللجوء الى منطق العقل والحكمة، باستخدام لغة الحوار السلمي، هو الطريق الصحيح والمجرب لتجاوز جميع المشاكل وحل كافة المعضلات، خصوصاً ونحن مقبلين على تأسيس حكومة عراقية مستقلة في الثلاثين من حزيران المقبل حيث سيتم بعد مرور ستة أشهر من ذلك إجراء انتخابات وهو ما تم الاتفاق عليه بين سلطة الائتلاف والعراقيين..
ألم يحن الوقت ليعيش العراق بسلام؟ . .


مشكلة الديمقراطية في العراق وسبل معالجتها

ياسين ابو ظفار

يكثرالحديث، في الوقت الحاضر، عن الديمقراطية في الشارع العراقي، وفي اروقة مؤسسات المجتمع المدني- التي تم تشكيلها حديثا- وكذلك في الفضائيات واجهزة الاعلام الاخرى..

* الديمقراطية بوصفها نظام حكم وسبل تطبيقها:
تواجه عملية البناء الديمقراطي في العراق مصاعب وعوائق كأداء لاسباب متعددة ومختلفة نذكر منها:
- هيمنة الانظمة الشمولية والدكتاتورية عقودا من الزمن، اتاح ذلك لثقافة الاقصاء والعنف ان تستشري في جسد المجتمع العراقي بشكل خطير، خلا ذلك الامراض الاجتماعية والسياسية الاخرى..
- ترسيخ ثقافة القطب الواحد، من خلال الادلجات الدينية والسياسية، وكذلك ادلجة المناهج الدراسية على مدى حقبة من الزمن شملت اجيالا متعاقبة، وخصوصا بعد سقوط النظام الملكي الدستوري في العراق عام 1958م من القرن المنصرم.
- دور الايديولوجيات القومانية والمحافظة في خلق صورة ضبابية، مما ادى الى اختلاط المقدس والمدنس/ الحابل بالنابل، واختلاط الرؤية بين المقدس السماوي والمقدس الارضي..

* الاخلاق الديمقراطية:
تتجلى القيم الديمقراطية من خلال السلوك الحقيقي للفرد والجماعة، وبمعنى اخر قيام الحملات الانتخابية والدعائية بشكل حر ونزيه والمحافظة على سير العملية الانتخابية كالتصويت والاقتراع الحر المسؤول المباشر، بعيدا عن عمليات الابتزاز والمخاتلة الفكرية والعقائدية وشراء الذمم وافساح المجال للافراد والجماعات، من اجل ان يدلو كل بدلوه وفق القواعد النزيهة والسليمة، التي تقرها قيم الحق والعدل والانصاف. وبعد عملية الفرز في الانتخابات من قبل اية جهة كانت، يعد تشكيل المؤسسات الحكومية الفوقية والبرلمانية امرا بالغ الاهمية والخطورة، لتعلق الامر بمسألة بالغة الاهمية وهي الفصل التام بين السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية. وغالبا ما يجري، في هذه العملية، في الانظمة الرئاسية او البرلمانية، للاسف تشكيل مؤسسات الحكومة من البرلمان نفسه، وهذا الامر يعني الخلط بين السلطات الثلاث. لان الامر الانجح والاصوب هو تشكيل تلك المؤسسات من داخل البرلمان وخارجه تطبيقا لمبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب وعلى اساس الكفاءة والنزاهة، لغرض تطبيق الحد الضروري والممكن من العدالة الاجتماعية، وهذا لا يمكن تطبيقه، كما قلنا، الا بالفصل التام بين السلطات الثلاث. ولكن في انظمة شعوب البلدان المتخلفة دوما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، كما يقول الشاعر، وذلك بسبب الارث الثقيل والمقيت للتخلف التاريخي الاقتصادي والاجتماعي والنفسي، الذي دام حقبا من السنين.. وكذلك من اجل تداول السلطة، بشكل سلمي، ومدني، يجب الحرص على تنفيذ وتطبيق الاجراءات الديمقراطية الاصولية بكل دقة وموضوعية، للحفاظ على سلامة العملية الديمقراطية انسجاما مع قيم التسامح والتراضي والتوافق، للاسباب التي ذكرناها انفا. ولغياب القيم الديمقراطية في بلادنا ردحا من الزمن، ينبغي التأكيد على تطبيق مبدأ الديمقراطية التوافقية في الوقت الحاضر للانتقال وبشكل تطوري تدريجي وفقا لقواميس التطور التاريخي الى الديمقراطية المتطورة (المتقدمة) بعد انجاز مشروع ابستمولوجي علموي مدني. ورغم ان هذه العملية هي عملية شاقة وعسيرة، وذلك بعد اعادة النظر بالمناهج الدراسية وتشذيبها وتهذيبها من عوائق وادران الذهنية الخرافية، ووضع برنامج ثقافي تعبوي شامل من اجل تحول امكانية القضاء على فيروسات التخلف الاقتصادي والاجتماعي والنفسي. ان بلدا، مثل العراق، بمختلف تكويناته الاجتماعية، وحسب اوضاعه التاريخية، يحتاج الى تطبيق انموذج (الديمقراطية الرائدة) والذي انتهى هذا النموذج بانتهاء النظام الملكي في العراق، وهذا النموذج المسؤول عن تطبيقه هم الفئات الرائدة والنخب المثقفة وامتداداتها في شعاب المجتمع، لان عملية البناء الديمقراطي في بلد مثل العراق هي عملية صعبة وعسيرة، للاسباب التي ذكرناها انفا.. ومن اجل انجاح هذه العملية ينبغي النظر اليها بكل دقة وجدية لغيابها عقودا من الزمن على المستوى المؤسساتي، وكذلك التعامل مع واقع الشارع العراقي بواقعية وموضوعية من اجل التدرج في عملية البناء المدني وفقا لقوانين وسنن التطور الموضوعي التاريخي، باعتماد اساليب المعالجة الصحية لجميع الفيروسات التي انتجتها الحروب والاسباب التاريخية الاخرى والتي امست تنخر في عصب المجتمع العراقي، ومنح الحقوق الديمقراطية على شكل دفعات او زرقات ووفقا لواقع المجتمع المتخلف، وتهيئة مختلف مستلزمات ايقاظ الوعي المدني والحضاري لمختلف فئات وطبقات المجتمع.

* الديمقراطية في العراق بين النظرية والتطبيق:
كل الدلائل تشير الى ان النموذج الديمقراطي الذي شرع النظام الجديد في العراق بتطبيقه يفتقر الى الموضوعية والواقعية في الرؤيا. فبعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق شرعت منظمات مختلفة وعديدة بفتح مقراتها بطريقة قانونية وغير قانونية، واخذ البرنامج الانمائي العراقي التابع للامم المتحدة من دعمه لهذه المنظمات في مجال عقد الندوات الثقافية، ومن جراء ذلك ظهرت اشكاليات عديدة منها: -عدم اهلية الملاك المحاضر، حيث تم انتقاء المحاضرين بطريقة عشوائية وبطرق اخرى بعيدة كل البعد عن الواقعية والموضوعية وعلى اساس الطائفية والعرقية والقبلية والمذهبية والولاءات السياسية وما شابه ذلك، علما ان الامم المتحدة قد صرفت مبالغ طائلة من اجل انجاح هذا البرنامج ولكن للاسف لم يؤت ثماره، فالعناصر المثقفة والتي فعلا تمتلك وعيا ديمقراطيا وثقافة مدنية قد استبعدت عن هذا المجال، والادهى من ذلك ان منظمات المجتمع المدني ما زالت تسيرها وتتحكم فيها منظمات تابعة لاحزاب سياسية وغير محايدة. وهناك نماذج سلبية اخرى وطفيلية استطاعت ان تبرز في هذا المجال بسرقة فرصة الملاك ولا تمتلك اية اهلية، مستفيدة من الوضع الاستثنائي والانفلات الامني الذي يسود البلاد، منذ سقوط النظام السابق ولحد الان. ومن جانب اخر فان العملية الديمقراطية التي تجري في العراق تشوبها مساوئ كثيرة وتتخللها تعقيدات كثيرة. ان الانتخابات الحرة النزيهة هي احدى الاليات الاساسية والمهمة التي يقوم عليها البناء الديمقراطي، وان اعتماد اليات معينة اخرى لا تأخذ بنظر الاعتبار القيم الاخلاقية والانسانية ولا تضع نصب عينها المسؤولية التاريخية لقيادة الدولة والمجتمع الى شاطئ السلام وادارة ظهرها الى الاوضاع التاريخية العامة للبلاد التي تمر بها، وهذه المحن التي باتت عصية على الحل، يشكل بحد ذاته ضررا كبيرا على العملية الديمقراطية وعلى مصير البلاد من شمالها الى جنوبها..

* الديمقراطية بين المباح واللامباح:
ان التجربة العراقية الحالية لا شك انها تجربة قد ولدت حديثا وبطريقة قيصرية بعد اسقاط النظام السابق البائد عن طريق القوة (الولايات المتحدة وحلفائها) واني كمراقب مستقل احذر من خطورة الاليات المتبعة لتحقيق الديمقراطية في العراق. اذ يجري التعامل مع التطبيق الديمقراطي على اساس مناهج مطبقة وليس منهجا للتطبيق، يأخذ بنظر الاعتبار الخصوصية العراقية بجميع ابعادها واشكالاتها التاريخية. وللاسف ان اولياء امور السياسة في العراق لم يتحرروا بعد من اثار وتأثير ثقافة الملة الواحدة، اذ ما زالوا كعادة اسلافهم يدورون ككائن معصوب العينين في هذه الدوامة المغلقة والقاتلة، والتي لم يستفد منها سوى اعداء الشعب العراقي المظلوم، الذي عانى من الاضطهاد والتغييب مئات السنين كما يقول الشاعر.. فالشاعر العراقي يتساءل اليوم: ما هو برنامج الفئات الفائزة في الانتخابات العامة، واذا كانت هذه البرامج قد وضعت لخير ومصلحة الشعب فكم هي الامكانية والجدية بالتطبيق؟ لقد بات المواطن العراقي وظيفته الوحيدة اجترار الاحزان واحتساء الالام.. المواطن العراقي بامس الحاجة الى من ينقذه من مشروع الموت الكبير، والذي يتجرع مرارته يوميا. فهل من منقذ جديد من هذه الغمامات السود، او تبقى هذه الغمامات تهطل يوميا بمطرها الثقيل الحزين؟

* الثقافة الديمقراطية:
الديمقراطية هي اكثر من مجرد الفاظ ومصطلحات مجردة او اسم او مسميات نقرأها في الصحف والكتب ليس لها صلة بالواقع اليومي. فالانسان الديمقراطي عليه ان يدين بالولاء اولا واخيرا الى الشعب والوطن، ويتخلى عن ثقافة البداوة والقبلية والطائفة والمذهب والايديولوجيات المتحجرة، وان يؤمن حقا بفصل كل ما هو لا علمي عن الدولة، ومن ثم تحول الدولة الى مؤسسة علموية اقتصادية اجتماعية من طراز جديد، تأخذ من الاديان ما يساعدها على تنظيم الاحوال الشخصية والاجتماعية لا اكثر، والعمل على نبذ ومقارعة جميع اشكال القيم والتقاليد والاعراف التي تعمل على دمج الخرافة بالعلم، او تعمل على اسطرة الواقع وتأليه وتصنيم الافراد و(كرزمتهم) باعتبارهم شخصيات خارقة، وهذا ما جرى ويجري في ظل الانظمة التوتاليتارية. اذن فالثقافة الديمقراطية نقيض ثقافة الكراهية والاستبداد والاقصاء والعنف، ثقافة المحبة والاخوة والتماسك والقيم السامية، وهذه الصفات يتحلى بها الناس الاحرار محبو الوئام والسلام، بعيدا عن التعصب الديني والعرقي وثقافة الملة الواحدة. فالثقافة الديمقراطية تقوم على اساس المواطنة الحقيقية، وتغذي روح الشعور بها.
تقول دايان رميتش:( ان الثقافة في هذا الاطار لا تعني الادب والفن والموسيقى بل تعني السلوك والتصرف والممارسات والاعراف التي تبدي منها قدرة الناس على حكم انفسهم) ** وكتبت تقول (ان النظام السياسي التوتاليتاري انما يشجع ثقافة قائمة على الاذعان والخنوع ويسعى مثل ذلك النظام الى تنشئة مواطنين طيعين يسهل انقيادهم) –
نفس المصدر- **

خلاصة:
تعتبر الديمقراطية احدى المشكلات الخطيرة، التي تواجه الانظمة العربية في عملية بناء انظمتها الجديدة، الديمقراطية بوصفها نظام حكم، ولكن للاسف الشديد ان الكثير من هذه الانظمة ما برحت تتعامل مع الديمقراطية كمظهر وليس كجوهر، كشكل وليس طبيعة او مضمون. وجميع الانظمة الاستبدادية تتعامل مع شعوبها على هذا النحو الاستبدادي: اي الديمقراطية للمؤسسة الحاكمة والدكتاتورية ضد شعوبها وهناك من العقول السياسية الاستراتيجية العربية الكثير ولكن معظمها يسكن المنفى جبرا او اختيارا، والباقي يعيش حالة التغييب والاقصاء والتهميش اي النفي السياسي في الداخل.. ان من يهمه عملية البناء الديمقراطي في العراق، ينبغي ان يتجرد من الانا السياسية، بهذا القدر او ذاك، ويتحول الى الانا الغيرية، لتحقيق الاهداف الغيرية لمختلف فئات وطبقات المجتمع، الذي مرت عليه مئات السنين يعاني من الظلم والاضطهاد والقهر الاجتماعي والغدر السياسي..


من اجل منهج ديمقراطي سليم

ياسين ابو ظفار

الديمقراطية اليوم، نظام حكم ومنهج سلمي لادارة اوجه الاختلاف في الرأي والتعارض في المصالح(1). الديمقراطية هنا تسمو لتحقيق قيم الانصاف والعدل واعطاء كل ذي حق حقه، إذا ما قامت هذه التجربة أو تلك على المبادرة الفردية والجماعية على الصدق والنزاهة في الممارسة والتطبيق وتحويلها إلى قيمة اجتماعية ومعيار اخلاقي، بعيدا عن روح المغالبة والنزعة المارثونية والتجرد بهذا القدر أو ذاك عن الانانية والمصالح الفئوية الضيقة، وتحطيم جميع القيود لانطلاق كل الانشطة الاجتماعية الانسانية وتحقيق تجاذب جدلي انساني بين الفرد والمجتمع، وكذلك بين مجموع الانشطة الاجتماعية المدنية ومؤسسات الدولة التمثيلية. واليوم وقد ولدت الديمقراطية في العراق بطريقة قيصرية، كيف نتعامل معها كمنهج مدني حضاري؟ الديمقراطية كمنهج لا يقتصر على كونه تعبيرا صادقا لحكم الشعب، وانما ينطوي على منظومة قيمية كالمحبة والتعاون واحترام رأي الأكثرية وضمان وصيانة حقوق الاقلية، واحترام حرية الفكر والمعتقد مهما كان منشأه واتجاهه.. الديمقراطية كمبدأ قيمي ليست حديثة أو غريبة على المجتمعات البشرية، فلها امتداداتها واصولها التاريخية القديمة في الاديان الارضية والاديان السماوية، فجميع هذه الاديان بشرت بنشر قيم الحق والعدل والانصاف والصدق والمحبة والتسامح، ويبدو ذلك واضحا في القرآن الكريم والسنة النبوية. الا ان مصطلح الديمقراطية ظهر حديثا مع ظهور المجتمع المدني على انقاض المجتمع الاهلي القبلي والاسري، ليضفي طابعا مؤسساتيا قائما على أساس العدل والمساواة في مختلف ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. اذن الديمقراطية افراز طبيعي لعملية تاريخية تطويرية، وثمرة من ثمار ثقافة المجتمع المدني، ومن اجل التطبيق السليم لهذا المنهج الانساني الحيوي يجب الاخذ بعين الاعتبار الخصائص التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية للمجتمع، ومتطلبات العصر واشتراطاته الموضوعية. وبما ان الديمقراطية، كما يقال، هي مجموعة من القواعد لادارة الاختلاف، فينبغي عند ظهور اراء وافكار متناقضة، اللجوء إلى اساليب شفافة للحد من الخلافات كالحلول الوسط وغيرها من المعالجات الواقعية، القائمة على أساس مبدأ التعاون والتسامح. .. الديمقراطية في العراق بين المعوقات والحلول: لاشك ان الدولة العراقية الفدرالية الفتية تواجه من المشكلات في هذا المجال ما لا يعد ولا يحصى، بسبب الارث الثقيل من ثقافة الاستبداد، والمتوارث من قيم التخلف والبداوة كنزعة التغالب والقيم الفئوية الضيقة، التي شرعت، بتفعيلها، الانظمة السياسية الشمولية المتعاقبة منذ نصف قرن تقريبا كذلك هناك احزاب وتيارات سياسية تختلف فيما بينها ثقافيا وايديولوجيا. ان المهمات الاساسية والعاجلة امام جميع مكونات الامة العراقية السياسية والاجتماعية والقومية هي بذل جهود حثيثة وواقعية من اجل قيام دولة علمانية ديمقراطية غير مؤدلجة، مهما كان الثقل السياسي لهذا الحزب أو ذاك في المؤسسة البرلمانية المنتخبة، تأسيس جيش وطني فوق الميول والاتجاهات كما اشار إلى ذلك الاستاذ جلال الطالباني، اثناء تسلمه رئاسة الدولة، كذلك اشاعة ثقافة علمية ديمقراطية في حقل التعليم ورفض ادلجة العلم والعلوم في المناهج الدراسية، من اجل تنشئة اجيال على أساس القيم العلمية والحضارية، بعيدا عن الخرافة والوهم وقيم التخلف والظلام، كذلك التأكيد على جانب اخر، لا يقل أهمية، هو القراءة الموضوعية لتاريخ الانظمة الاستبدادية في العراق والمنطقة والعالم وفضح سياسات المطامح الاقليمية لتحقيق مصالحها الضيقة، كذلك الاسترشاد بالتراث الفكري العراقي النير وبالفكر الانساني العالمي، ايمانا بمبدأ المعنى التوافقي باعتبار الحضارات الانسانية مكملة لبعضها. ... الدستور: دستور أي بلد هو القانون الاسمى والاعلى، الذي يجسد حقوق الفرد والمجتمع وما يترتب من واجبات وحقوق على المواطنين حيال الدولة والقانون. ويتسم دستور البلاد بسمات خاصة وعامة. وفيما يتعلق بالخاصة فهي تفاعل الدستور مع الطبيعة المحلية للمجتمع بكل مكوناته العرقية والدينية والاثنية، اما العامة فهي تماشي الدستور مع متطلبات العصر واشتراطاته الموضوعية، على أساس ان الطبيعة البشرية هي واحدة وان الانسان هو واحد دون تمييز عقائدي أو جنسي... في النظم الديمقراطية ينبغي الانتباه إلى عدة شروط، متعارف عليها عالميا، لانجاح العملية الدستورية اهمها: -لا سطوة لاي فرد أو اقلية أو اية مؤسسة على الشعب باعتبار ان الشعب هو مصدر السلطات. -سطوة القانون هي السائدة والكل متساوون امامه. -الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وحمايتها من السلطة الفردية أو سلطة أي مؤسسة اخرى. -ضمان الحقوق والحريات العامة دستوريا وقانونيا وقضائيا وتنشيط قدرات وفعاليات المجتمع المدني، من اجل حماية الحريات العامة وجميع الانشطة الانسانية. -تداول السلطة بجميع انواعها وفق انتخابات دورية ونـزيهة وتحت اشراف قضائي.. وبشكل سلمي. ومن هنا يتضح ان الدستور يشكل اهم عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع، إذا ما تم تحويل الديمقراطية الى قيمة اجتماعية ومعيار اخلاقي. .. الانتخابات الديمقراطية: تقول (جين كيرباتريك) الباحثة الامريكية: الانتخابات الديمقراطية ليست انتخابات رمزية. انها انتخابات تنافسية دورية شمولية وحاسمة يتم فيها اختيار كبار صانعي القرار لحكومة ما من قبل مواطنين يتمتعون بحرية كبيرة في انتقاد الحكومة وفي اعلان ونشر انتقاداتهم وطرح البدائل.. من الامور المهمة والفعالة في ميدان الانتخابات، ولكي يكتب لها النجاح، الاعتماد على عناصر: -اشاعة وعي انتخابي سليم بين الناخبين بعيدا عن المحسوبية والمصالح الشخصية والفئوية الضيقة. وهذا الدور تقوم به اجهزة الاعلام المرئي والمسموع، بعقد الندوات المستمرة على أساس الحوار الديمقراطي الحر، وكذلك الصحف المحلية، ودعم منظمات المجتمع المدني، لاداء دورها الانساني في هذا المجال. -اعتماد لجان مشرفة على الانتخابات وصناديق الاقتراع ممن تتوفر فيهم صفة الاستقلالية والحيادية والدقة والكفاءة والنزاهة.. -العمل على اشاعة حالة الامن والاستقرار للمواطن الناخب والعمل قدر الامكان على المعالجة والحد من الظواهر السلبية، التي تبرز في اجواء لانتخابات، للتحايل والكسب غير المشروع للاصوات عن طريق تقديم المغريات واستخدام الوسائل الاخرى غير المشروعة. .. لعبة الاقتراع والانتخابات في ظل الانظمة الدكتاتورية: في البلدان التي تحكمها انظمة شمولية توتاليتارية تتخذ من الديمقراطية غطاء لترويج ايديولوجيتها ومصالحها الفئوية، تحت اسماء ومسميات وشعارات طوباوية لممارسة خداع الجماهير وتضليلها وصولا لتحقيق مبتغاها ومآربها، وهي تستخدم لذلك ضروبا مختلفة واساليب تكتيكية في ضوء الظروف الخاصة بكل بلد. وتتحول الديمقراطية إلى مشروع سياسي لصالح الحاكم المستبد وفي افضل الاحوال تتحول إلى مشروع استفتاء قائم على أساس الترغيب والترهيب، وهذا الاستفتاء يجري، بطبيعة الحال، لدعم وتثبيت سلطة الاستبداد. وفي البلدان العربية غالبا ما يكون هذا الاستبداد اسرياً أو قبلياً وتصبح الدولة اداة لقمع ومصادرة حق المواطن والمواطنة بما لها من قوة بوليسية على أساس طريقة الترغيب والترهيب. .. المساواة امام القانون: المساواة امام القانون حق طبيعي وشرعي لجميع افراد المجتمع، مهما كان العرف والمذهب والعقيدة. وعلى الحكومة الديمقراطية توفير جميع مستلزمات الامن الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لجميع افراد المجتمع. يقول (جون فرانك) الخبير في القانون الدستوري: ينبغي على الدولة مهما كانت الظروف ان لا تزيد من اختلال المساواة، بل يجب ان يكون لزاما عليها ان تتعامل بشكل منصف ومتساو مع جميع مواطنيها. وفيما يتعلق بموقف المواطنين من القانون في ظل القيم الديمقراطية، فانهم بطبيعة الحال يحترمون القوانين والانظمة بجميع مضامينها واشكالها لاحترامهم ارادتهم المتجسدة في هذه القوانين والانظمة التي جسدت ارادتهم وتطلعاتهم. وعندما تحمي الدولة الديمقراطية، الحقوق العامة لمواطنيها فانهم سيتفاعلون مع دولتهم وحكومتهم بشكل ايجابي بمنحها تأييدهم وولاءهم باعلى درجات الاخلاص والمسؤولية، وعندها ستكون هذه العلاقة البينية مثمرة وايجابية.. وعلى ضوء المثل الالماني: (اكون لك كما تكون لي). .. الاجراءات القضائية: يشير (جون فرانك) إلى انه في كل مجتمع، عبر التاريخ، يتمتع اولئك الذين يريدون نظام القضاء الجزائي بسلطة تنطوي على إمكانية اساءة استخدامها بطريقة متسلطة وتعسفية. فباسم الدولة جرى سجن اناس وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم وعرضوا للتعذيب والنفي واعدموا دون مبرر قانوني، وفي معظم الاحيان دون ان توجه اليهم اتهامات رسمية. والمجتمع الديمقراطي لا يقبل أو يتحمل اساءة استخدام السلطة هكذا.. وهذا ما حدث كثيرا في العالم العربي في ظل انظمة الدكتاتورية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وهناك احصائيات موثقة من قبل منظمات انسانية، بما ارتكب من جرائم بحق الانسانية في العراق وبلدان عربية اخرى. ومن سمات النظام الديمقراطي الاخرى في مجال القضاء: استقلالية القضاء ولا يجوز ادلجته لصالح حزب أو جهة سياسية معينة. واستخدام القوانين بصورة عادلة ومنصفة في حالة ايقاف واعتقال المشتبه بهم، وعدم استخدام اساليب الاكراه والتعسف والتعذيب الجسدي والنفسي للحصول على الاعترافات. كذلك عدم مداهمة البيوت في ساعة متأخرة من الليل. وعلى السلطات التنفيذية استخدام الاجراءات القانونية العادلة في هذا المجال. ومن المعروف ان الديمقراطية في البلاد العربية والاسلامية تواجه اشكاليات معقدة. وغالبا ما تطفو على السطح قيم اجتماعية متخلفة ومتناقضة كقيم المجتمع الاهلي المتمثل بطوق القبيلة أو الاسرة، والمترشح ايضا من قيم البداوة، متقاطعة مع قيم المجتمع المدني. وان جميع التجارب السياسية في العالم العربي في مجال الديمقراطية لم تلق سوى الفشل التاريخي، لانها تتعامل دوما مع الديمقراطية بطريقة (الفهلوة)، والطامة الكبرى هنا، ان تلك المؤسسات الحاكمة لن تخرج مطلقا عن سطوة الحاكم الفردي المستبد. وغالبا ما كانت تمارس سياسة ذر الرماد في العيون وترفع شعارات براقة خداعة كقضية العرب المركزية وشعار الوحدة وغيرها من الشعارات الطوباوية، في حين ان معظم البلدان العربية تعاني من غياب الوحدة الوطنية وتدور فيها الصراعات والنـزاعات المحلية.. الديمقراطية بوصفها قيمة اجتماعية ومعيارا انسانيا من ضمن متطلباتها: الاتفاق على برنامج تربوي ثقافي عام بعيدا عن الادلجة والرؤى الحزبية والفئوية الضيقة وكذلك ادخالها كمادة تدريبية ضمن مناهج التعليم، وهذا وحده لا يكفي بطبيعة الحال، لان المجتمع الذي مضى عليه ردح من الزمن تنهش به ثقافة الاستبداد حتى استشرت به امراض كثيرة ومازالت ادران الماضي تنخر فيه، هو بحاجة إلى مشروع اصلاح اقتصادي اجتماعي سياسي ثقافي شامل، وهذا يتطلب جهدا وطنيا كبيرا وواسعا مدعوما بطاقات وخبرات عالمية انسانية. أي ان بلادنا بحاجة إلى اعادة بناء شاملة في مختلف الميادين. وان اصعب واعقد مشكلة تواجهها الدولة العراقية الفتية هي اعادة بناء الانسان، خصوصا الاجيال التي انتجتها ثقافة الاستبداد والحروب، الاجيال التي انتجتها ثقافة الاستبداد والحروب، الاجيال المشوهة فكريا ونفسيا.. فهذه الاجيال، بطبيعة الحال، هي بعيدة عن ان تمتلك ابسط مقومات الوعي الديمقراطي والحس الانساني القويم.. ومن اجل تفعيل القيم الديمقراطية هناك عامل لا يقل أهمية عن العوامل الاخرى هو موضوعة الاديان، وعلى وجه الخصوص الدين الاسلامي. اذ ينبغي تحقيق مقاربة واقعية بين القيم الديمقراطية وبين القيم والتراث الانساني للاسلام، والتي تقوم على أساس العدل والانصاف والاعتدال والمحبة والتعاون والتسامح، وكذلك العمل على ايقاظ المشاعر الانسانية واي اتجاه من شأنه تنمية الوازع الاخلاقي الانساني وتحويل ضمير ووجدان الفرد إلى ضمير ووجدان اجتماعي...

 (1) مجلة فكر وفن. العدد 38-2001- علي خليفة الكواري.


 

free web counter