| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

طه رشيد
taha.rachid@orange.fr

 

 


 

السبت 15/1/ 2011

 

لو كان الموت رجلاً لقتلته (*)

طه رشيد

رغم قناعتي التامة بأن نهاية كل كائن حي هو الموت والأندثار ، الا أنني أمقته لكونه يسرق منّا أجمل الأصدقاء وأطيب الناس الذين سوف لن نلتقيهم قط ، إنه الفعل الوحيد الذي لا فعل بعده .
وأنا أشاطر الرأي القائل بأنه لا جدوى من لصق صفة (جميل) أو (سعيد) بالموت ، فالموت واحد مهما كانت ظروفه وهو لا يعني سوى إيقافاً للمشاعر والأحاسيس والأفكار والفعالية الجميلة للحياة ، فلو كان الموت رجلا لقتلته .

لقد كان شاعرنا الكبير الجواهري محقا حين اعلن كراهيته الشديدة للموت ويصوره كوحش كاسر كريه :

أنا أُبْغِضُ الموتَ اللئيمَ وطيفَهُ
بُغضي طُيوفَ مخاتلً نصّاب
ذئبٌ ترصَّدَني وفوقَ نُيوبهِ
دَمُ إخوتي وأقاربي وصِحابي

ومن أخوتي من قتل غدرا برصاصات الفاشييين القدماء - الجدد في نهاية عام 2006 في مدينة بعقوبة ، انه الكاتب والصحفي المبدع ياسين ابو ظفار ، لقد ترك مقتله في نفسي ، تلك المشاعر التي دفعت ( هند ) للمطالبة - رغم بشاعة الطلب - بكبد قاتل أخيها .
لقد أحدثَ الحدثُ شرخاً في الروحِ وتهشيماً لأملٍ أبى ان يغادر تلك الروح رغم كل محاولات القتلة .

حين وصلني خبر اغتيال صديقي - لوركا العراق - المثقف المبدع كامل شياع على أيادي قوى ظلامية مجهولة !! ، شعرت بنارٍ حارقةٍ مسّت كل خلايا جسدي ، إذ إن ( كامل ) لم يكن مستهدفا بشخصه فقط بل كان مشروعه الثقافي التنويري هو المستهدف أيضاً بتلك الرصاصات الجبانة ، هذا المشروع الانساني الجميل الذي كان ينوي إيقاد شمعة في نفق مظلم سبق وإن بدأوا بحفره لا في بغداد وحسب بل في كل أرجاء الوطن ، لقد بدأ المشروع ينفرط - للأسف - من بين أصابعنا وما قائمة الممنوعات في الشارع العراقي الا تكملة لتلك الرصاصات المتخلفة .

وكانت الفاجعة المكملة لي هو رحيل معلمي ورفيقي وصديقي الفنان منذر حلمي ، الذي جاء مباغتا وسريعاً مثل حريق شب في حقل قمح قبيل الحصاد فأتت النار لتحصد الغلة والجذور ... لم يأخذني نوم في تلك الليلة ... قلبت وريقات بداية علاقتنا التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود ... في تلك الليلة كتبت له رسائل عديدة عن منع المسرح والموسيقى والغناء في المدارس و المهرجانات ... كتبت له عن مشروعي الخاص بالمسرحيين العراقيين في المنفى وقد سبق وأبدى استعداده لمساعدتي ، طلبت منه ان يبدي ملاحظاته ، كما عودني ، على آخر قصائدي العراقية التي كتبتها، ولكن كيف أن ارسل له كل هذه الرسائل وقد كتبتها على صفحات قلبي . . .

أيها الوطن المقبل إننا نقتل

تعرفت على منذر حلمي كمعلم في أواسط السبعينات اثناء دورة تدريبية لأعضاء فرقة المسرح الريفي - وكان من بين أعضاءها الفنانة الراحلة زكية خليفة والفنانة سعدية الزيدي والفنانان سعد كامل السامرائي وصبحي خزعل ، وآخرون لا أتذكر أسمائهم - وهي فرقة تابعة للمؤسسة العامة للتثقيف الفلاحي ، وهناك بدأت آواصر صداقة لم تنقطع ، وصرت له بعدئذ رفيق درب وفكر وغربة ، غربة تقاسمنا فيها العواصم المختلفة واللقمة والضنك وحتى الكنية المتشابهة ... وبقي ابو سلام وفيا لعلاقاته ، مخلصا لمبادئه الفكرية والفنية ولآخر لحظة من حياته ، فشكل منجزه الأبداعي وخاصة في مجال التمثيل علامة مضيئة ومتميزة في تاريخ المسرح العراقي ، ولا يمكن ان ينسى ذوي الاختصاص دوره المتألق في مسرحية ( دائرة الفحم البغدادية ) التي أُعدتْ عن مسرحية بريشت ( دائرة الطباشير القوقازية ) والتي أخرجها الفنان الراحل إبراهيم جلال وقدمتها الفرقة القومية في منتصف السبعينات ليوم واحد فقط ! ! ! ، لأنها منعت من قبل طارق عزيز الذي حضر عرضها الوحيد ، ومن اعماله الأخيرة هو دوره المتميز في مسرحية (السيد والعبد) التي أخرجها الفنان الراحل عوني كرومي وتقاسم البطولة فيها مع الفنان الكبير خليل شوقي وعرضت المسرحية في برلين ودمشق وقرطاجة وقد نالت استحسان الجمهور والنقاد على حدٍ سواء ، بالاضافة الى عشرات الاعمال المسرحية والتلفزيونية التي ساهم فيها قبل مغادرته العراق .

سيبقى اسم منذر حلمي لامعا ما دام هناك فن ومسرح حقيقيان ملتزمان بقضية الانسان وسعادة هذا الانسان التي كانت الهدف الاسمى لمنذر حلمي .

يشكل رحيل منذر حلمي في الغربة بعيدا عن جمهوره وأصدقاءه ومحبيه وصمة عار جديدة في جبين الدكتاتورية المقبورة التي أجبرت بسياستها التسلطية في نهاية ألسبعينات وما تلاها من سنين لهجرة الاف المثقفين والفنانين العراقين وتشتيتهم في المنافي .


لتطمئن روحك يا منذر - واصارحك بان الحزن أخذ منا مأخذه لرحيلك - الا اننا سوف لن ننوح ونصرخ ، سوف لن نلطم الصدور ، سوف لن نشج الرؤوس ، بل سنعزف ونغني ونمثل وسنفتح القلوب لفرح قادم رغم أنف القوى الظلامية التي تريد اليوم أن تجعل من الوطن مقبرة للأحياء قبل الأموات .
 


باريس / برلين
ك ٢ / ٢٠١١


(*) القيت الكلمة في أربعينية الفقيد منذر حلمي في برلين في النادي العربي الالماني في الثامن من كانون ألثاني 2011





 

باريس
 

 

free web counter