| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

طارق حربي

tarikharbi2@getmail.no
http://summereon.net/

http://summereon.net/tarikharbiweb.htm

 

 

 

الأحد 8/3/ 2009



كلمات -243-

رحيل المعلم الأول

طارق حربي

في صباح شتائي سنة 1963 اصطحبني عمي شاعر الأغنية العراقية المرحوم زامل سعيد الفتاح وسلمني ليد المعلم الأول فسجلني طالبا في مدرسة قرطبة الابتدائية للبنين تأسست سنة 1961، كان وجه الشاعر بشوشا موردا وهو يفتح لي في الطريق إلى المدرسة آفاق الحرف الأول فيما كان وجه المعلم الأول بريئا حنونا يطفح بمحبة أطفال مدينته ويحرص على تعليمهم ويسعد أن يحملهم أحيانا أحر التحيات لمن يعرف من آبائهم!

طقس بارد حرس قومي بدلات خاكية بنادق نص أخمص دوريات راجلة مسيّرة أجواء سياسية مشحونة، تلك هي صور الناصرية الأولى التي انطبعت في ذاكرة الطفل الذي كنته قبل أن تتلاشى منها كل الألوان إلا ألوان الفقر والحاجة في بلد النفط وبيادر الحنطة والشعير، وكان المعلم الأول الذي طبع على قلبي أولى معاني الحب والتفاني يسمو في نفسي، ومنذ ذلك اليوم مازال يداخلني شعور دائم أشبه مايكون بالحيرة في الطريقة التي يمكن بها للانسان أن يرد الجميل لمعلم أول الحرف وأبجدية الحياة.

تمت التأسيسات الأولى للمدارس العراقية على يد مدحت باشا ببناء أربع مدارس (المدرسة الرشدية المدنية ، والمدرسة الرشدية العسكرية ، والمدرسة الإعدادية العسكرية ، ومدرسة الفنون والصنائع) ولما انتدب فيصل الأول ملكا على العراق سنة 1921 اصطحب معه ساطع الحصري فعينه وزيرا للمعارف ثم مديرا للآثار، ونقل الاستعمار البريطاني تجربة التعليم المصرية إلى العراق واستقدم المعلمين منها وكذلك من سوريا لمواجهة النقص الحاصل في عدد المعلمين العراقيين وكان التعليم الذي وضع أسسه الأولى الحصري وهو أحد ابرز مؤسسي الفكر القومي العربي تعليما يغذي نفوس الطلاب على المبادىء القومية والاتحاد بين الدول العربية ولم تكن المناهج الدراسية تشير إلى الدين أو الطائفة وبقي المجتمع العراقي متماسكا رغم مااعتوره من مشكلات والتعليم ممتازا عبر سلسلة من الاصلاحات التربوية بقي فيها المعلمون باعتبارهم محوريين في العملية التربوية وكان المجتمع والمدرسة يتجوهران في بنية واحدة تكاملية، وتبلور في العراق نظام تعليمي راقي وانتشرت المدارس في القرى والأرياف العراقية وكان من حسن حظ الناصرية أن تربينا فيها تح عناية ورعاية مربينا الأفاضل ولم تكن مدرسة قرطبة نموذجية مثل الهدى والمركزية حيث يتعلم أبناء المتصرف والذوات والموظفين لكن بفضل معلميها ومعلمها الأول الذي سيصبح مديرها فيما بعد فكانت قرطبة بين المدارس الأولى سواء في نسب النجاح السنوية في البكالوريا أو في الفعاليات الرياضية والكشفية والمعارض العلمية والفنية وغيرها.

كان المعلم الأول راعيا لأول مسرحية اشاهدها في باحة المدرسة عن فلسطين التي سيبتلي بها العراقيون عبر موشور الفكر القومي العفلقي البسماركي جلس في الصف الأمامي قريبا من حانوت المدرسة ينظر بإعجاب لتلاميذه الصغار وهم يؤدون أدوارهم باتقان ولم يكن مثل المهندس الصغير في قصيدة الراحل باقر سماكه (أصفها فتنتظم ثم جميعا تنهدم!) بل كان ينظم صفوفنا خلال نهاية الدوام وفترة تناول إبر اللقاح ضد الأمراض أو موسم التطعيم ضد مرض الجدري فنشمر عن ذراعنا تحت الشمس في طوابير منتظمة تنتهي مقدمتها بين أيدي المضمدين الطيبين وبإشراف المعلمين كل على صفه وفي الفعاليات الكشفية (وله ماله في تأريخ الناصرية الرياضي المتوج بمنصب رئيس اللجنة الأولمبية العراقية فرع ذي قار) ..كان يتقدمنا بملابس الكشافة إلى ملعب الادارة المحلية حيث تتجمع الفرق المدرسية وينعقد مهرجان سنوي في الربيع تتصاعد فيه حمى التنافس الرياضي في ألعاب القوى تحت خفقات أعلام المدارس الملونة وصداح الموسيقى.

وإذا كانت العائلة العراقية في الغالب لاتخلو من السياسي فهنالك الشيوعي والبعثي والقومي والاسلامي والمستقل والمتمرد فإن المعلمين في مدرسة قرطبة وحدهم الخطاب التربوي وقسمتهم الأحزاب السياسية كان معلم الرسم في الصف الأول هو الأستاذ معاذ عبد الرحيم القومي الذي سيتزوج احدى خالاتي ويذهب إلى بغداد بعد 1963 ليتبوأ مناصب رفيعة في الحكومة، وهنالك المعلم الطيب الساخر الراحل عبد الحسين حواله والطيبون المعلمون موفق ونوري معلما الرياضة وقاسم دراج المعلم الشهيد في الحرب وكوكب الأسدي وصالح عبد الأئمة وإبراهيم وعبد علي وجمال الكاتب وغيرهم من المنتمين وغير المنتمين وكانت قرطبة يجري فيها الدوام خلال فترة الاضطرابات سنة 1963 لكن تتأثر بها ويتناقش المعلمون وهكذا كانت الأشياء تتداعى في السياسة والحياة اليومية.

كان المعلم الأول يقف في الاصطفاف الصباحي مثل إله السومري حاد النظر لماحا يتطلع من وراء نظارتيه السميكتين إلى معلم الرياضة وهو يجري التمارين الرياضية (السويدية) فنقلده ثم يقف صديقي الشهيد في الحرب العراقية الايرانية فيصل يوسف الذي سيمثل معي في المدرسة المتوسطة مسرحية ثورة الموتى للكاتب الزنجي الأمريكي أروين شو من إخراج الأستاذ الراحل كاظم العبودي يلقي فيصل نشيدا ويحيي العلم تحية عسكرية بعد أن يرجع إلى الوراء ثلاث خطوات ليتقدم مرة أخرى إجلالا له ثم يفكه من السارية ويرفعه وترفعه معه نظرات المعلم الأول وبقية المعلمين الطيبة فيما تنشد الصفوف من الأول إلى السادس قصيدة معروف الرصافي الشهيرة :عش هكذا في علو أيها العلم... فإننا بك بعد الله نعتصم.

في موسم معونة الشتاء كانت أحذية باتا و(القوط) المصنوعة من الجنفاص تفتح صناديقها في بلاط الباحة الداخلية من المدرسة بين غرف الادارة وقاعة المسرح والمرسم الذي شغله المعلم الفنان الشهيد قاسم دراج وكان المعلم الأول يشرف ويوزع المعونة بالتساوي على الفقراء من التلاميذ وأنا بينهم لأن ابي رحمه الله وكان بينه وبين المعلم الأول صداقة (ولد الولاية) وودهم العميق كان عاملا بسيطا بالكاد يسد رمق عيشنا وكان المعلم الأول يشعر بأعمق الأسى أن يحتاج إبن الولاية إلى صدقات الحكومة!!

وقعت لي حادثة في الصف الثالث الابتدائي لايمكن مقارنتها إلا بوقوعي على رأسي في الثلوج النرويجية الصلدة بتأريخ 14/12/2008 فسقطت مغشيا علي وحملني مواطن نرويجي عابر وطيب بسيارته إلى مسشفى الطوارىء في أوسلو وكنت في الصف الثالث (السنة الدراسية 1965-1966) سقطت على رأسي (منطقة الصدغ الأيمن) على القاعدة الحديدية (البوري) التي يثبت فيها عمود الشبكة الطائرة، دخلت في غيبوبة دامت ثلاثة ايام في مستشفى الناصرية الجمهوري وحزن أهلي حزنا شديدا وصل إلى حد الجزع وكان عويل أمي لاينقطع ووصل الجميع إلى حد اليأس وكان أبي رحمه الله حائرا بين شحة الدواء وضيق ذات اليد، فقد اشترط عليه الطبيب العاني ويؤسفني أني لاأتذكر اسمه في الوقت الحاضر أن يشتري الحقن الطبية باهضة الثمن وإلا فإن ولده البكر سيفارق الحياة لامحالة، لاأعرف من أين استدان المرحوم المبلغ المطلوب وأخيرا جاء بالحقن وبعد ساعة فتحت عيني وكان الوقت عصرا وأول ماوقعت عيني عليه كان المعلم الأول والطبيب وأمي وأبي وعدد من أقربائي، كان وجه المعلم الأول حنونا قريبا إلى نفسي وقد تفتحت أساريره ولم يكن فرحه بعودتي إلى الوعي بأقل من فرح الوالدين والطبيب العاني الذي احتضنته الناصرية كأنه ابنها وبقيت صورته الكبيرة بإطارها الجميل تزين واجهة ستوديو فليح سنوات طويلة يمر عليها الناس بمحبة واحترام وأمر عليها في الطريق المؤدي إلى السوق واقول بأن هذا الرجل أنقذ حياتي!

بعد سنوات الابتدائية وكلما صادفت المعلم الأول في شارع الحبوبي أو غيره من شوارع الناصرية أبتعد إلى الرصيف المقابل كما يفعل الكثير من الطلاب في وقتنا عرفانا وتعلثم لسان أبتعد متحاشيا النظر في عينيه الطيبتين لكيلا يراني متلبسا بما لم يعلمني إياه من الحروف الأولى التي طالما شعت في مخيلتي فأرى في البعيد أطلال سومر حيث ترتفع ألواح طينية تمجد الحياة ويقوم العازر من بين الأموات والإله تموز الإبن الحق لأبسو إله المياه العذبة معلنا ستة أشهر جديدة من الخصب والنماء كان المعلم الأول في حبه للعلم والتعليم سليل المعلمين السومريين الأوائل الذين علموا بني البشر أول الحرف.

في منتصف الثمانينات خلال الحرب العراقية الايرانية المجرمة غيب المعلم الأول في سجن ابو غريب الرهيب بتهمة انتمائه إلى حزب الدعوة ضمن مجموعات من أبناء الطبقة الوسطى والفقراء في المدينة المتمردة على الدوام على السلطة الجائرة، ولاأعرف أي نوع من العذاب تحمله أستاذي في السجن وأي جلاد لايعرف قدره وفضله على أجيال خرجها من مدرسة قرطبة بينهم الطبيب والمدرس والضابط والعالم والفنان والشاعر والتاجر وأتمنى في يوم من الايام أن تخرج عائلته الكريمة إلى النور أوراقا ربما كتبها عن رحلة عذابه في السجن أو أحاديث يجمعها الأصدقاء والأقرباء.

يقع بيت السيد راضي (أحد البيوت الدينية المعروفة) وسط مدينة الناصرية ملاصقا لمدرسة قرطبة على مبعدة 50 مترا من تمثال محمد سعيد الحبوبي وتقع المدرسة في الطريق إلى سوق الخضار (الصفاة) وكان زميلي وصديقي محمد حسين السيد راضي رحمه الله (يناوشه) أحد إخوته الصغار من السياج الواطىء (لفة كباب) بعد الدرس الثاني أو الثالث كل يوم تقريبا وتدوخني رائحة الكباب المشهية وربما مرت أم طيبة عائدة من السوق وأعطت ولدها من وراء السياج تفاحة أو اب ينقد ولده عشرة فلوس ويتجمع الباعة في الباب يبيعون الباقلاء والمحلبي والمشروبات الغازية بعد انتهاء الدوام وفي انتفاضة آذار الخالدة 1991 أصبح بيت السيد راضي مقرا لقيادة الانتفاضة فيما أصبحت مدرسة قرطبة ببجانبه سجنا القي فيه عدد من البعثيين وعسكريين من القاعدة الجوية وغيرهم ممن اشتبه فيهم واطلق سراحهم فيما بعد.

أعربت خلال إحدى المقابلات الصحفية عن رغبة عارمة في تقبيل سياج مدرستي قرطبة وصفوفها وأبوابها وقبل ذلك وجوه المعلمين جميعا وأعانقهم وأسألهم عن أحوالهم وأيامهم بعد سنوات طويلة في المغترب الثلجي وأعود طفلا في الصف الأول وأنشد مع الزملاء إحنه صف الأول...أحسن الصفوف... والميصدك بينه.. خل يجي ويشوف!!، فيما المعلم الأول الأستاذ والمربي الفاضل هاشم البناء الذي لبى نداء ربه بتأريخ (23/2/2009) يمر علينا بوجهه الباسم الحنون متصفحا وجوهنا البريئة واحدا واحدا كأنما يستعيد فيها أيامه الماضية وطفولته البعيدة.
 


8/3/2009
 



 

free web counter