الأثنين 19/1/ 2009
غزة الضحايا والمطالب الإنسانية العاجلة
(1)الأستاذ الدكتور تيسير الآلوسي *
طوال أسابيع من محرقة الهولوكوست، إبادةَ َ جماعية طاولت كلَّ طفل وامرأة وشيخ، وكلَّ زاوية من الأبنية والبيوت والمدارس وحتى المستشفيات والملاجئ؛ طوال تلك الأيام من جحيم جرائم ضد الإنسانية كانت غزة بكل حبة تراب منها تتشرَّب بدماء الضحايا ويعلو فيها نحيب الأطفال والثكالى فيما تملأ فضاءها سحب الغازات السامة، ليتطلع العالم لأي حلّ منقذ للإنسان المحاصر في دائرة الموت الأسود الذي سطا على الحياة جغرافياَ َ هناك في غزة وتفاعل إنسانياَ َ هنا في وجدان العالم وضميره!
غزّة والخراب في الأبنية يمكن إعمارها.. ولكنَّ القضية لن تمضي، بحق، في صالح الفلسطيني المبتلى إلا عندما يأتي الحلُّ في إطار احترامِ ِ لوجوده وحقوقه ومطالبه.. إنَّنا اليوم بمجابهة مع لحظة ينبغي أن نتحول فيها بأسرع ما يمكن إلى التفاعل مع المطالب الملحة العاجلة، وأولها قضية الجرحى والمستشفيات والرعاية الصحية الفورية المؤملة وهذا يستتبع فوريا التعاطي مع مسألتي الكهرباء والماء وتحريك شؤون الطاقة عاجلا..
وبالتسلسل في الأولويات؛ لا يمكن لأهالي غزة المنكوبة الانتظار أكثر بخصوص تفاصيل من نمط توفير الأغذية والأدوية على نحو لا تأخير فيه... وطبعا لابد من التعاطي هنا مع مسائل رفع الأنقاض من جهة والتعامل مع كل ما من شأنه إزالة تلويث البيئة ووقف نشر الأوبئة ورفع أيّ تهديد لحيوات الناس وصحتهم...
وكيما لا نعيد تجربة مريرة بائسة وبلا دخول في لوم أو نقد للتجربة السابقة والوضع الذي دخله الفلسطينيون، ينبغي أخذ الدرس من أنَّ الانقسام السياسي في الإرادة وفي القرار العملي يظل العامل الرئيس في الإمعان بمزيد من التضحية بالإنسان ومطالبه ومصيره... وعليه فلابد من التعاطي مع قضية تلك الأنفس التي زهقت ويمكن أنْ تـُزهق بروح فاعل وصادق في تقديم أولوية الأمر على حساب المكاسب الضيقة فئويا وحزبيا وعقائديا... وتنتظر غزة وأهلها وجميع الأخيار من جميع أطراف الواقع الميداني أن يُقبِلوا على العمل من منطلق التنسيق ووحدة القرار ومركزيته بيد سلطة وطنية تبدأ حاليا بلجان تنسيق على الأرض في إطار السلطة الوطنية الفلسطينية أو حكومة طوارئ استجابة لإعلان القطاع منطقة منكوبة...
إنَّ استغلال طريق الانقسام وسلطة القوة على الأرض والتفكير بمكسب ميداني حزبي اليوم يعني تضييع فرص إنقاذ حيوات الناس وتعريضهم لمخاطر مضاعفة وإرباك الوضع لصالح العدوان وأدواته.. وعليه فإنَّ البداية والنهاية يجب أن تكون بالتفكير العملي بمتابعة الخطوات التي تتعاطى مع تطمين الأوضاع ومع تهدئة بعيدة المدى تـُفتح ضمنها المعابر وتؤمَّن المطالب بحسب الأولويات التي ترسمها الوقائع وخطة جدية مسؤولة من السلطة ومن كل من يعمل لتحقيق مصالح الفلسطينيين وتطمين مستقبلهم في دولة مستقلة تضمن الهوية والمطامح والأهداف...
وعليه فأول الأمر هو قراءة عاجلة محددة المطالب والإجراءات فلسطينيا من السلطة التي يجب أن تـُفعـَّل مؤسساتها فورا؛ وأن تكون هناك حيث الإنسان المغلوب على أمره وبلا انتظار لما يدخل في تفاهمات سياسية ومصالحة وما شابه، فذلكم أمر يأتي تاليا ولاحقا.. وعلى منظمات الأمم المتحدة أن تتجه فورا إلى حيث ميدان عملها في منطقة منكوبة تتطلب نقل الجهد الدولي بالكامل وعلى وجه عاجل للتعاطي مع مفردات العمل...
كما أن موضوع إسرائيل واستكمال الانسحاب وموضوع حماس والمصالحة يجب ألا يتقاطع سلبيا مع مسارات الوقائع الفعلية حيث حيوات الناس لا المصابين حسب بل المهددين (أيضا) بسبب الكارثة التي تحيق بهم في كل لحظة..
إن قضية أمن القطاع وتنظيم ظروف العمل والفعاليات الاقتصادية تحديدا منها سوق رغيف الخبز وتوفير الغذاء والدواء والخدمات العاجلة هي مسؤولية مؤسسات السلطة.. والمجتمع الدولي يتعاطى مع الإنسان المواطن في إطار مؤسسات الدولة وليس في غيرها ما يحتاج لحكمة الفصائل [...] كيما تغتنم الظرف تعزيزا لمسار الوحدة وتكاتف الجهود بعيدا عن آليات التعطيل التي نجمت عنها تداعيات خطيرة منها مسببات النكبة الكارثية...
وعليه فإنَّ بيان السلطة ووزارة تصريف الأعمال تتطلب معاضدة أولى من جميع الأطراف الوطنية والمحلية المعنية ومن أطراف عربية ودولية لتنتقل إلى ميدان الحاجات الإنسانية المباشرة وليكن ذلكم صخرة البدء والتأسيس عليه للاحق من الإجراءات المؤملة...
وسيكون أي فعل أو طرف خارج الاستجابة الفورية لمثل هذا التحرك، جهة تعتدي على حياة الفلسطينيين في غزة اليوم، وفي كامل الدولة غدا؛ إذ أنها تعمل على التشطير والتشظي بما يدفع لمزيد من الخراب ومحو الحلم الفلسطيني وإبعاده ردحا زمنيا آخر على حساب الدم الفلسطيني وعلى حساب المطالب الإنسانية الفلسطينية، طبعا بمبررات وذرائع معوجة تتعكز على مصطلحات لا تقف عند كونها لا تغني ولا تسد رمق أحد بل تذهب أبعد لتشكل سببا مضافا لبلاء يتواصل ويستمر سيفه يحصد رقاب الناس...
ولن يكون لجهة أن تقنع ذبيح عقائديتها وسياستها بأنها تضحي بحياته من أجل أمر (عادل)!! فمن يركب فلسفة الشهادة والتضحية من أجل الإنسان عليه أن يقدم نفسه هو الذي اختار هذا الطريق بقناعته وإرادته من أجل الإنسانية لا أن يقدم الإنسانية قربانا لتصوراته وخططه وعنجهياته التي ظلت مختبئة طوال دوران الآلة الجهنمية التي حصدت أرواح الأبرياء بلا رحمة ولا إنسانية..
إنَّ موضع الخيارات بين أساليب النضال وتحديدا منه تبني العنف والسلاح من أجل تحقيق هدف أو آخر لن يكون موضع جدل لحظة تعرضه لحياة الإنسان ومطالبه وحاجاته ومصيره بل يجب وقف أية أفعال أيا كانت حيثما تقاطعت وحياة الفلسطيني وحتى في أمر أصحاب الخيار الدبلوماسي السياسي ينبغي أن يرتقوا لمستوى إجرائي فعلي يستجيب لتطمين المطالب كافة ولا عذر لأي طرف وأية فلسفة أو سياسة... وما بعد ذلك فنحن مع هذا الفلسطيني في اختياره أية قوة سياسية وأي نظام سياسي يرى فيه أمله وحلمه ومصالحه وتلبية مطالبه... إذ يبقى حق تقرير المصير وحق السيادة والاستقلال وحق الحياة الحرة الكريمة وحقوق الخيارات كافة محكومة حصرا بالفسطيني نفسه..
* محلل سياسي أكاديمي \ ناشط في مجال حقوق الإنسان - رئيس جامعة ابن رشد في هولندا