| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأثنين 8/9/ 2008



قصة قصيرة

حنين

شذى توما مرقوس

...... لماذا يكون الفراق دائماً نهاية الطريق عاجلاً أم آجلاً ؟ ....... وكأنّ الإِنسان لا يستطيعُ التواصُل أَبداً مع الإِنسان ..... مع الآخر ..... لماذا يُفارقُ الإِنسان كُل من يُحِبّ وكُل ما يُحِبّ ؟! ..... لماذا دائماً يحدُثُ الأقسَى ؟ ...... وأقسَى مافي الأَمر أن ينتهي حُبّ وكأنّكَ تذبحُ كائناً حيّاً فيُسفَحُ دمَهُ ويُغرِقُ كُل الدروب كالأَمْطارِ التي تغسِلُ الشوارع في يومٍ حزين ..... لقد فارقت وطنها لحاقاً بحبيبها الذي ارْتأَى لنفسِهِ بموافقةِ والديهِ طريق الهجرة حمايةً لهُ من الخطرِ المُتَرَبِّصِ بهِ ..... كان قد سبقها بمراحل في طريقِ هجرتهِ السِرِّية ...... لم يتبقْ لهُ الكثير من الرحلةِ ..... إلا أن الرحلة لم تصلْ نهايتها أَبداً ....... لقد ذهبَ حبيبها في إِحدى القوارب أَمْلاً بالضفةِ الأُخرى ..... لكن القارب كانَ مُخادِعاً فأخذهُ إِلى ضفةِ الموت .... جرفهُ التيار قوياً وأَغرَقتهُ الأَمواج ولم يكُنْ هُناك مُتّسعاً من الوقت لإِنقاذهِ ..... وقذفهُ الموج جثةً هامدة ..... بَكَتهُ حتى تَفَطَّرَ قلبها وحتى جَفَّتْ مآقيها وحتى كرِهت حياتها من دونِهِ ... وظروف الطريق .... طريق الهجرة لا ترحم ولا تُعطي أَيّ وزن لأيّ مشاعر أو أزمات أو ظروف .... كان عليها أن تُقرِّر إما الرجوع إِلى وطنِها وعليها حينها مواجهة كُل المُساءلات القانونية والمُقاضاة والأحكام أو تُكمل طريقها السِرِّيّ نحوَ بلدٍ ما ....لم يكُن القرارُ صعباً .... وهكذا حملت جراحها وأَحزانها معها وواصلت طريقها حتى استَقرَّت في هذا البلدِ الجميلِ الآمن الوديع ..... لكنّها كانت مُنهكة ..... كان الشوك قد نَمَا عالياً أمام بابها غارِساً جذُورهُ في قلبِها وذاكرتها وروحها وكيانها.. ذكرى حبيبها المؤلمة سحقتها وكَوَّمَتها اشلاءً .... كُل شئ هنا جميلٌ إِلى حدِّ الروعة .... إلا أَنّها تختنق ..... ما في داخِلها من أَحزان يُخيفُها ويخنُقها .... وتشعُر أنّها غيرُ قادرة على النسيانِ .... لقد عَمَّقَت الغُربة جراحها وملأتها مِلحاً ..... وليسَ من أملٍ في التِئامها ..... أَتعَبَها موتُ حبيبها وأَنهَكتها الغُربة وقتلها الحنين ..... والبارِحة في طريقِ عودتها دغدغت أَنْفَها رائحةٌ مجهولة وكأنّها جاءت من الوطنِ ..... رائحةٌ أَنعَشت روحها .... رائحةً ممزوجة بنوعٍ من دُخانِ السكائر الشائعةِ الاستعمال في بلدِها ... المخلوطة بهواءِ وطنِها .... ودونَ إِرادة منها وَجَّهَتْ نظرها صوبَ من خلقت حركة جسده وثيابه هذهِ الرائحة وهو يهمُّ بمغادرة مقعدهِ في الحافلةِ للنزولِ منها ... فكَّرَتْ إِنّهُ بلاشك سيكون رجلٌ بسحنةِ وملامحِ وبصماتِ بلدها .... إلا أنّها لم تَرَ أمامها ما ظنَّتهُ ..... بل رجلٌ من هذهِ البلاد التي تعيشُ فيها ... أَشْقَرُ الشعر .... أَخْضَرُ العينين .... طويلُ القامة ... جميلُها .... كانت تتَصَوَّر أن هذهِ الرائحة لا تحمِلُها إلا الأَرض التي وُلِدت فيها .... وطنها .... كمّ خدّاعٌ هو الحنين وماكر .... يسوقها إِلى حيثُ تختلطُ الأوراق فالرَّبُّ هو ربٌّ واحد وما أَنْعَمَ بهِ على وطنِها أَنْعَمَ بهِ على بقيةِ الأوطانِ والكُلُ أَبْناءُ الله ... أَشْقَرُ الشعر .... أسودَهُ .... أفريقيُ السحنة ..... أوربيُ الملامح ..... آسيويُ التقاسيم .... كم نحنُ واهمون في أَفكارِنا ..... إِنّهُ وهمٌ كبير يجبُ الخروج من دائرتهِ ..... حتى تكونَ هُناكَ طريقاً مُستقيمة .... لقد تفاجأت أيضاً في ذلك الصباح الماضي بدفءٍ كانت تظُنّهُ حِكراً لوطنِها وحدهُ .... وكان الهواءُ عابِقاً تماماً كما كان في وطنِها أَحياناً ..... وخدعها الحنين أَكْثر حينَ استَيْقَظت من النومِ ذاتَ مرَّة على صياحِ الدِّيك ثُمَّ تبِعتهُ أصوات تغريد العصافير فوق الأَشْجار ..... كانت الحياة تبدو غافية يُداعِبُ جفونها صباحٌ جميل يدعوها للنهوضِ .... إِذنْ كُلُ هذهِ العطايا لا تخُصُّ وطنها وحدهُ ..... إِنّها تخصُّ الكون بأَكْمَلهِ ...... وحتى تكونُ أَقْرَب إِلى الحقيقةِ اعْتَرَفَتْ لنفسِها أنّ ذلك لا يخُصُّ المكان بقدرِ ما يخصُّ مشاعِرنا ..... مشاعِرنا هي التي تقول وتحكي وتُصوِّر وتُفَسِّر ........فالمكان هو ما نحمِلهُ في دواخِلِنا لأننّا نعيشُ في مُحيطهِ ومُجرياتهِ .... المكان ليس تلكَ الأرض التي تطأُها أقدامنا بأَسمائِها الجُغرافية ..... المكان هو مانحمِلهُ في دواخِلِنا وذواتِنا .... ولهذا أيُّ أرضٍ تطأها أقدامنا فأننّا نحمِلُ إليها أحزاننا وأفراحنا وتشكياتنا ومتاعبنا وكياننا ..... لا نستطيعُ أَبداً أن نترُكَ خلفنا في أرضٍ عبرناها كُل ذلك .... بل نعبُر بكُلِهِ إِلى الأَرض الأُخرى ويبقى المكان هو نفسُهُ رغمَ تبدُّل الأَسماءِ والخريطة ..... وهذهِ هي الدلالة نحو رأس الخيط الذي أرادَ الرَّبُّ أن يضعهُ بين أيدينا ويَلُفُّهُ حولَ أصابِعنا ...... الدلالة التي تؤكِّدُ أن الكوكب الأَرض هو بلدٌ واحد وأن كُلَّ البشر الَّذِينَ يتَنفَّسونَ نسماتهِ هم شعبُ الله .... فنسماتُ هذا الكوكب هي نسماتٌ من روحِ اللهِ العظيم الرحيم ....والرَّبُّ العظيم الرحيم لايشاءُ أن يرحمها فيُطفئ النيران المتقدة في قلبِها .... تشعُرُ كثيراً أنّ النيران التي في قلبِها أَبداً لن تنطفئ حتى وأنّ خرجت إِلى الشوارع تركضُ بكُلِ ما أُوتِيَتْ من قوةٍ وتصرخُ بأَعْلى صوتها وتشكو وتبكي .... لعلّ السماء تسمعُها وتعرِفُ كُلَ مظالِمها ...... وتُفِّكِّرُ إن ما بها من اللَّوْعة ِ لايتَّسِعُ لهُ امتداد الكون ..... فهل ستبقى معها هذهِ اللَّوْعة دائماً وأَبداً .... ألنْ تنتهي ؟ ..... ألنْ تنطفئ النار في قلبِها وتخمد .... أيُّ أمْلٍ يُداوي كُل هذهِ الجراح ويجتثُها من عُرُوقِها .... وجذورُ هذهِ الجراح غائرة في تُربةِ روحِها تَتَغَذَّى من عقلِها وقلبها ومنها ...... أَلا ترتوي من روحِها وعقلِها وقلبِها وكيانِها وكُلُ جزءٍ منها ؟؟ إِنّها تتساءل .... هل من مُجيب ؟ ..... من عُمقِ جراحِها النازفة صرخت إِلى ربِّها : ..... لماذا لا تتفقدني وأنا التي أتوسَّلك ..... لماذا لا تستجيبُ وأنا التي أَرْجُوك ..... لماذا تديرُ وجهكَ
عني وأنا أتحَدّثُ إليك ........ وصُراخها ضاعَ في الهواءِ .... كما ضاع منها حبيبها وفقدتهُ إِلى الأَبدِ ..... حملت رُزمةَ ذكرياتهِ معها إِلى حافةِ النهرِ .... صُوره ورسائِله .... حُبَّه ومشاعِره ..... قد يأخذُ النهرُ ذِكراهُ كما أَغْرَقهُ .... لو ترمي بهذهِ الرُزمة إِلى النهرِ .... لو تستطيع .... لرُبَّما شُفيت من ذِكراهُ وعذابِ فراقه .... رُبَّما تُصبِحُ قادرةً على الحياةِ أو على الأَقلِّ الاستمرار فيها أو على هامِشِها .... لو تستطيع أن ترمي بهذهِ الرُزمة إِلى شفتي هذا النهر ليبتلعها ..... لكنّها لا تستطيع ...... اسْتَلْقَت على الحافةِ .... هائمة .... مُتخبطة زمناً ما لم تعرف أَبداً كم دام ..... وحين نهضت لالتقاطِ الرُزمة من مكانِها سرقتها الريحُ المفاجئة من بين يديها ودفعتها إِلى النهرِ .... فطفت مُتناثرة فوق وجهِ المياه مُبللّة ..... مُقطعة الأوصال .... انْدَفَعت بجنونٍ نحو الماء محاولةً لَمَّ مايمكنُ لَمّهُ من هذهِ الذكريات .... لكِنْ لم يعُدْ هناكَ ما يُمكِنُ جمعهُ ..... وفوق تلك الذكريات تناثَرَتْ دُموعها بلا انقِطاع ......


الأحد 6 ــ 7 ــ 2003


مُلاحظة : ( حنين ) قصة قصيرة من ضمن مجموعتي القصصية غير المنشورة ــ حكايات جدُّ صغيرة ...... كبيرة ــ عن الغُربة .


 

free web counter