| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الثلاثاء 21/10/ 2008

 

قصة قصيرة

طبق الحُمص

شذى توما مرقوس

….لم يعُدْ يَذْكُرُ تَماماً ما حَدَا به إِلى تَرْكِ الأَرْض التي أنْجَبَتهُ حتَّى تَطَأَ قدماهُ أَرْضَ هذهِ البِلاد الجَمِيلة … والجَمِيلة جِدّاً إِلى حدِّ الجُمُود…..
آه … لقد تَذَكَّرَ … إِنّهُ جاءَ هُنا ليَنْقَع الحُمص في الماءِ لبِضْعِ ساعات ثُم يسلُقَهُ ثم يضيفُ إليهِ المِلْح وبَعْضَ الكاري وبعدها يُصبِحُ جاهزاً للبيعِ …. الطَّبَقُ الصغير بهذا الثَّمَن … والمُتوسط الحَجْمِ بثَمَنٍ آخر … والطَّبَقُ الكبير بثَمَنٍ أَعْلى …. لم يتَذَّوق أَهْالي هذهِ البلاد الحمص زَمَناً طويلاً جِدّاً حتَّى نَسُوا طَعْمَهُ وبفَضْلِ وجُودهِ الآن هُنا عادَ النَّاس للتَلَذُّذِ بأكلِ الحُمص …. ليس هذا فَقَطْ …. على مدى تاريخ هذهِ البلاد لم يكُنْ هُناكَ من يَغْسِلُ
العَدَد المُتزايد من الصُحُونِ المُتَّسِخة ........ واختِراع ماكنة غَسْلِ الأَواني لم تَحُلّ المُشْكِلَة حَيْثُ اكتَظّت شَوارِعُ هذهِ البلاد كُلَّها بالصُحُونِ المُتَّسِخة بعد أن امْتَلأت كُلُّ مَخازِنِها وهكذا تَمَّ استيراده من ضمنِ الاحتياجات الأُخرى للبَلَدِ كالقَمْحِ والنَّفْطِ وغَيْرها … إِنّهُ شَخْصٌ في غايَةِ الأَهَمَّية لقد حلَّ مُشْكِلَة كانت قائمة على مرِّ الأَزْمان والآن وبفَضْلِ وُجُودِهِ هُنا لم يعُدْ مُمْكِناً العثُور على صُحُونٍ مُتَّسِخة …. لقد نَظُفَتْ البلاد تَماماً وحُلَّت المُشْكِلَة وهو مُوَاظِب يوميّاً على غَسْلِ كُلِّ ما جدّ من الصُحُونِ المُتَّسِخة .......
أَطْلَقَ في صَدْرِهِ المَشْحُون بالمَرَارَةِ والأَلَمِ ضَحْكَةَ تَّهَكُّم مكبُوتة وباكية ضاغِطاً على الكَأْسِ بَيْنَ يَديه فتَفَتَّتَت وانْكَسَرت وساحَ عنها الشَّرابُ مُلَوِّثاً أَرْضَ الغُرْفة وصَرَخَ صَرْخَة انْزِعاج واقفاً على قدميه ….. غَسَلَ يَديهِ وضَمَّدَ جُرْحَهُ وتركَ فَوْضَى ما حَدَث كما هي …. فَكَّرَ أن يتَّصِل بصَدِيقتِهِ لِتُسعِفَهُ في مُعاناتهِ هذهِ حَيْثُ تَفاقَمَتْ اليَوم على إِثْرِ خَدِيعة تَعَرَّضَ لها من قِبَلِ أَحدِ زُملائهِ في العملِ من مواطِني هذهِ البلاد …. لقد اسْتَغَلَّ هذا الرَّجُل غُرْبَتَه وجَهْلَه باللُّغةِ واسْتَدَان منهُ مَبْلَغاً (بالنسبة لهُ كغريب عن هذه البلاد يُعْتَبَرُ مالاً وفيراً ) من المالِ على أن يُعِيدهُ إِليهِ حالَ تَقاضِيه الرَّاتِب….ورغم أنّهُ كان بحاجَةٍ لهذا المَبْلَغ إلا أن ما تَعَلَّمهُ بَيْنَ أَهْلِهِ عن مُساعَدَةِ الآخرين إِضافةً لخَجَلهِ منعَهُ من قولِ "لا " لهذا الزَّمِيل … لقد فهِمَ بصعُوبةٍ وبعدَ الحديث المُطّول والشَّرْح المُملِّ والتَّفْصيليّ مع الاعْتِمادِ على القامُوسِ أنَّ هذا الزَّمِيل مُحْتاج ويُريدُ المُساعَدَةَ الماليّة واليَوم تَوَقَّعَ استردادهُ نقودهُ فإِذا بهِ يُفاجأ …. هذا الزَّمِيل المُحْتَاج كَذَّبَ الأَمر وقالَ بأنّهُ لم يستدنْ قرشاً ولجأَ ( س) إِلى زَمِيلٍ آخر ليُساعِدهُ في فِهمِ الأَمر فأَكَّدَ لهُ هذا صحة ما فهِمَهُ وأنَّ زَمِيلهُ المُحْتَاج ينكرُ ذلك بإِصْرَارٍ حتَّى أنَّ الآخرين صَدَّقُوهُ واتَّهَموهُ هو بالكَذِبِ ......
لو قالَ لهُ إِنّهُ لن يَسْتَطِيع ردَّ ما اسْتَدانَهُ لاخْتَلفَ الأَمر وما طالبَهُ أَبداً بقرشٍ ولكِنَّ إِنكارهُ كان طَعْنةً موجهة لذَكاءِ (س) وإتْهاماً صريحاً لهُ بالبَلَهِ والغَباءِ …. وعادَ ليُفَكِّر هل يتَّصِلُ بصَدِيقتِهِ التي تُحِبّهُ لكِنّهُ لم يُحِبّها قَطْ … لقد فَقَدَ قُدْرَتَهُ على الحُبِّ … أَبداً لن يُحِبّها ..... هل يتَّصِلُ بها والساعة قاربت العاشِرة … بالتأْكيد إِنّها نائمة ….فالبَشَر هُنا كالدَّجاجِ تَماماً ما أن تَدُقُّ الساعة دقاتُها التسع حتَّى يُخَيِّمُ المَوْت فلا مصباحاً مُضاءً تَلْقَى ولاتُسْمعُ في الشَوارِعِ هَمْسة … ولا لأقدامٍ دَبّة …. يَمُوتُ الجَمِيع حتَّى صبَاح اليَومِ التَّالي …. بَعْضُهُم يُفَضِّلُ الاسْتِفاقة في اليَومِ التَّالي هذا وبَعْضُهُم يُفَضِّلُ الاسْتِغْراق في نوْمِهِ وإِلى الأَبد ….وكُلَ مساء والساعة لا تَتجاوَزُ الثامِنة تجِدُ النَّاسَ جَمِيعاً يتسابقُونَ للوصُول إِلى منازِلهُم حتَّى تَقْفَرُ الشَوارِع تَماماً .... إِنَّهُم لايَشْبَعُونَ من الوَحْدَةِ التي يَعِيشُونها نهاراً وهُم بَيْنَ الآخرين بل يستعجِلُونَ اللَّيْل أَيضاً لنَشْرِ الصَّمْتِ القاتِل الفاضِح للوَحْدَةِ العميقة التي يَحْيَاها كُلُّ فردٍ هُنا …. أَهْلُ بلادِهِ كانوا على النَّقِيضِ تَماماً لا يَشْبَعُونَ من الضَّجَّةِ …. بل كانُوا يُحِيلُونَ اللَّيْل أَيضاً إِلى ضَجَّة ….. لاشَّيء مقبُول في هذهِ الحَياة …. كان يَنْشُدُ الوَحْدَة وهو في وطنِهِ …. لم يكُنْ يَفْهَمُ قيمةَ وجودهِ بَيْنَ من كانُوا معهُ …. لم يُفَكِّرْ أَبداً أنّها نِعْمَة … والمَعَارِك الدَّامِيَة التي كانت تَدُورُ رُحاها يوميَّاً بَيْنَهُ وبَيْنَ زوجتهُ لسببٍ أو لعدمِهِ ورغمَ كُلِّ ما آلت إليهِ من نتائجَ مأساوية كانت كُلُّها تُعَبِّرُ عن فَوْضَى الحَياة وضَجِيجَها وتقولُ لهُ أنّ العالَمَ من حَوْلِهِ مُكتَظٌّ بالكثيرين …. إِنَّهُ ليسَ وحِيداً ولن يكون وحِيداً أَبداً …. كان الأَمرُ مُزعِجاً إذْ لم يكُنْ للضَّجَّةِ من نِهايَة …. ورغمَ شُعُوره القاتِل أَحياناً بالوَحْدَةِ وهو بَيْنَ أَهْلِهِ وشُعُورِه بالغُرْبةِ بَيْنَهُم وعنهُم …. كانت فَوْضَى الحَياة الخارجية وضَجِيجَها وأبواق السَّيَّارَاتِ وأَصوات الراديوات والمُسجلات التي تَملأُ الشَوارِع والأَسْواق التي لاتُقفِلُ أَبْوابها إلا في ساعات مُتأخِرة من اللَّيْلِ …. كُلُّ هذهِ كانت تُلَوِّنُ الحَياة وتُضيفُ إليها بَعْضَ النَّكْهَة والبَهْجَة وتُزِيحُ عنهُ ما أكتَظَّ بهِ صَدْرهُ …. في الحَقِيقَةِ ضَجِيجُ الحَياة في وطنِهِ كان جُنوناً وخَرْقاً فاضِحاً لحُقوقِ الآخرين وعدم احترامهم ….. لكِنّهُ كأَهْلِ بلادهِ أَحَبَّ هذا الجُنون …. لقد انتَقَلَ من الضَّجَّة القاتِلة إِلى الصَّمْتِ القاتِل …. يا لِمُفَارقاتِ هذهِ الحَياة …. قبلَ أَيّام اتَّصَلَتْ جارتَهُ بالشُّرْطةِ لأنّ صَوْتَ التلفاز علاَ لبَعْضِ الوقت … والرَّجُل الذي يَسْكُنُ في الطابقِ الرابع دارَ مَعْرَكةً ضِدَّ جاره في الطابقِ الخامس لأنّهُ لم يمشْ على رؤوسِ أَصابِعهِ تَجَنُّباً للضَّجَّةِ بل مشى مُتباهياً بكَفّي قدميهِ كاملتين مُنبَسطَتين على أرضيةِ الشقة …… كانت معارِكَهُ اللامُنْتَهِيَة مع زوجتهُ أَحياناً تتحَوَّلُ إِلى سهرةٍ لَيْليَّة يُشارِكُ فيها الجيران المُتألِّمين والشامتين معاً…. بَعْضُهُم كان يَرْغَبُ حَقّاً في إِصلاح الشَّأْنِ بَيْنَهُ وبَيْنَ زوجته والآخرين كانوا قد مَلُّوا هذهِ الشجارات واتَّهَموهُ بانعِدامِ الشُعُور وسُوء الاحترام للجيران كما حُقوقِهم ....لكِنَّ أحداً منهم لم يُفَكِّرْ قَطْ باستِدعاءِ الشُّرْطةِ .... بَعْضُهُم لم يكُنْ يُزْعِجهُم سلب راحتِهم بقدرِ ما كان يُزْعِجهُم ويُؤلِمهم سُوء التفاهُم بَيْنَهُ وبَيْنَ زوجته .... وما كانوا يَأَلُونَ جُهداً لإِصلاحِ الشَّأْنِ ودون جَدْوَى صِدْقاً أو تباهياً ..... كانت مَعَارِك لا تَنْتَهي ما انْتَصَرَ فيها يوماً وما غلب .... حتَّى حانَتْ الساعة فكانت المَعْرَكة الأخيرة والحاسِمة ولم يَرْبَحْ فيها أَحد .... بل خَسِرَ الجَمِيع حتَّى الَّذِينَ لم تكُنْ لهم علاقة بالوَضْعِ لا من قريب ولا من بعيد ... يَذْكُرُ يَومها أن الشجار شبّ بَيْنَهُ وبَيْنَ زوجتهُ .. ...وبالتأْكيد كان السبب تافِهاً أو معدوماً .... ويَذْكُرُ أيضاً وَجْه طِفْلهِ الفزِع مما يَجْرِي وتطورَ النِّزاع أَكثر فانْهالَ ضَرْباً عليها وفي غَمْرةِ انْهِماكِه سمعَ صَرْخَة طِفْلهِ يُداخِلها صَوْت الكابح لمقودِ سَيَّارة فقفزَ إِلى الشَارِعِ كالمَجْنون وقد سبقَهُ الآخرون تتبَعَهُ زوجتَهُ كعجينة أَنْهَكَتْها اللَّكْمات .... ورأَى ماتَمَنَّى طوال عمره أن لايراهُ .... وكان كُلُّ شَّيءٍ قد انْتَهَى في لَحْظةٍ والطِّفْل الذي أَفْزَعَهُ هُجوم أبيهِ على أُمِّهِ ظاناً مَوْتها وهَبَه المَوْتُ وَجْهاً فارقَهُ الفَزَع وجسَداً هادئاً مُستسلماً للرَاحةِ الأبدية .......
لم تَغْفِرْ لهُ زوجتهُ أَبداً مَوْت وحِيدها وهو السبب في نَظَرِها .... كما لم يَغْفِرْ لزوجتهِ مَوْت ولده وهي السبب فيما جَرَى فلو لم تَجُرُّهُ لمَعْرَكةٍ جديدة لما حَدَثَ ما حَدَث .... وبعد هذا الحادِث المُفْجِع لم تَنْفَعْ ولا حتَّى المساعي الدوليَّة في إِصلاحِ الشَّأْنِ بَيْنَهُ وبَيْنَها فهَجَرَتْهُ إِلى غيرِ رَجْعَة وهَجَرَها هارِباً إلى هذهَ البلاد .... ما أَحْوَجَهُ إِلى وحِيده ..... ما أَحْوَجَهُ إِلى أَيّاً كان ممن تركهم وراءه ليُبعِدَ عنهُ هذا الشُعُور الكَريه ـ الوَحْدَة ـ .... أَبداً لن تَتَمَكَّن صديقَتَهُ هذهِ من هدمِ ولو طابوقة واحدة في جِدَارِ وَحْدَتِهِ .... لن يُزِيحَ هذا الشُعُور عنهُ إلا واحداً من أُولئك البعيدين .... ملأ كأْساً أُخرى بالشَّرابِ وأَفْرَغها في جَوْفِه دُفعةً واحدة أَتْبَعَها بأُخرى وأُخرى وأَرهفَ السَمْع لصَوْتِ المُطرب علّهُ يَطْغي على الضوضاءِ التي تَملأُ دواخِلَهُ وتَكْتُمُ صُرَاخ رُوحِهُ المُعَذَّبة ...... .
وجاءَ صَوْتُ المُطرب حَزِيناً مُلتاعاً يُنادِي أَهْلَهُ ويَشْرَحُ احتياجَهُ لهُم ويُناشِدهُم أن يَذْكُرُوهُ كما يَذْكُرهم دائماً وهو الغريب البعيد عن أَرضهِ ووطنِهِ فناحَ مع المُطرب ضارِباً بقَبْضَتهِ الجَرِيحة المنضدة أَمامَهُ ضَرَبات مُتتالية مع كُلِ كلِمةٍ صارِخاً :
" نَعَمْ ... أُريدكُم اليَوم .... هُنا ..... هُنا ..... معي أنا بحاجَتِكم ، رديئكُم وطَيِّبكُم .... أَعدائي وأحبائي .... أُريدكُم هذهِ اللَحْظة.... هُنا الآن .... أَمامي .... أُريدكُم ..... "
ووصلَتْ الجَلَبة جارتهُ فصَرَخَتْ من خَلْفِ بابهِ المُقفل:
" أيُّها الحَقير ، هل جُنِنت أم ماذا ، أَلا تَخْمُدُ ناركَ يا لَعِين ..... "
وما كان مِنهُ إلا أن صَرَخَ أَكثر علّ صَوْتَهُ يَجْتازُ كُل الحواجز
ويصِلُ إِلى حيثُ يَتَمَنَّى ، وإِلى أن يصِلَ صَوْتهُ هُناك ستكُونُ كل أَوعِيَةِ الطَبْخ مُمتلئة بالحُمص اللَّذيذ وجاهزة للأَكْلِ .......
وكل الأَواني ستكونُ نَظِيفة .........


الجمعة 13 ــ حزيران ــ 2003

 

free web counter