| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأحد 14/9/ 2008

 

 قصة قصيرة

الماضي..... ماضياً

شذى توما مرقوس

........... من أَين جاءتها هذه القسوة ؟ ...... وهل هي قسوة فعلاً أم شيء آخر لاتستطيعُ تحديدهُ أو تسميته ؟ هل أَوْدَعتها هذا السنين بفعل تقدم السن ، أم إِنّها الغُربة ؟ رُبَّما كانت هذهِ القسوة أو هذا الشيء الذي لاتستطيعُ تحديدهُ أو تسميته يسكنها فيما مضى أَيضاً ولكن لم تُفطِن إليهِ أو رفضت أن تُفطن إليهِ وظلّت تتجاهلهُ ..... من أَين جاءها كُل هذا ؟ ...... لم تعُدْ تؤمنُ بالبعيدين حتى شملَ القريبين ........ وهذهِ الأَفْعَى في شعورها بدأت تزحفُ نحو عائلتها ، لم تعُدْ تؤمنُ بأَهلِها أيضاً ، إِنّها لاتنتظِرُ من أَحدٍ على الإِطلاق شيئاً ، قريباً كان أم بعيداً ، لا الحُب ، لا التعاطُف ، لا التفهُم ، لا المُساندة ، على العكس بدأت تتقبلُ رفض هؤلاء الآخرين لها باعتِبارهِ أَمراً ممكن حدوثه وتوقُعِهِ ، بدأت تتفهمُ أنّها قد تكونُ شخصاً غير مرغوب فيهِ لدى فُلان وعلان دون أن تسأل نفسها لماذا ، ولماذا تسأل ؟ ...... بالتأكيد فلان وعلان وكذلك الغِربان لهم أَسْبابهم ، لن تعاتبهم ، ولا يحقُ لها أن تعاتبهم ...... آه العتاب ، قالوا إن العتاب نتاج المحبة ، من يُعاتِب يُحِب ، لكِنّ هذهِ المقولة فقدت مصداقيتها لديها ، فعلى مدى حياتها عاتبت من أَحَبْتهم أصدقاء وأَهل وأَصحاب وأَقرِباء ، عاتبتهم بمحبة خالصة حين أستدعت الضرورة ، لكنّ هذا العتاب لم يُفسَّر منهم دليل محبة بل زادهم عنها بُعاداً .... وأبتِعاداً ...... بينما ازدادوا تقرُباً لمن لايهتمُ لمجيئهم وذهابهم ، حضورهم وغيابهم ، سؤالهم أو اهمالهم ...... كم سببت لها كُل هذهِ الأمور من آلام .......
لم يعُدْ لذلك الأَلَم من مكان في نفسِها ، تعلمت أنّ تتقبل الأمور كما تحدُث ، والأشخاص كما هُم ، لم تعُدْ تُعلِقُ آمالاً كبيرة ولا حتى صغيرة في رقبة شخصٍ ما ، حتى وأن بدا هو الشخص الذي يُمكِنُ تعليق كل الآمال في رقبتهِ ، في النهاية هو إِنسان ..... هي الآن أبْعَدُ ما تكون عن التوقع أو المطالبة بشيءٍ من أَحدِهم ولاحتى بابتِسامة ، وكُلّما أبتعَدَ الآخرون عنها وأبتعَدت عنهم هكذا ، انسحَبت أكثر داخل نفسها ، لم تعُدْ تؤمنُ بأَحد ....... فقط بنفسِها وباللحظة التي تعيشها ......
قبل سنين شاءت لها الأَيام أن تلتقي إِحدى صديقاتها القديمات بعد فُراقٍ طويل بفعل الحرب الدائرة في الوطن لم يؤثر فيها شوق صديقتها كثيراً فما كان يشغلها هو شكل العلاقة الجديدة مع صديقتها هذهِ بعد لقاءات عديدة مُفترضة ، تَعَلَّمت في الغُربة أن هذا الشوق ليس أكثر من دهشة اللحظة الأُولى للتلاقي ووجهٌ آخر من الفضول لمعرفة ما جدّ أو سيستجِدُ في حياة الآخر ، وهي مؤمنة أن هذهِ اللهفة ليست سعادة للقياها بشخصِها هي بل سعادة بلُقيا ماضٍ جميلٍ كان ..... لقد مثلت لهذهِ الصديقة القديمة عزيزاً فقدتهُ ثُم وجدتهُ ، لكنّ هذا المفقود المعثور عليهِ لم يبقى على حالهِ بفعلِ السنين وهذهِ الصديقة لم تكُنْ هي نفسها قبل عدةِ سنين ، وما أن أَشْبَعت هذهِ الصديقة فضولها عما اسْتَجدَّ منذ افتراقهما وإِلى اللحظة في بضعةِ لقاءات حتى بدأ البرود يُعَرِّي ذاتهُ وما تبِع ذلك لم يكُنْ سوى مُكالمات هاتفية مُتباعدة جداً .... جداً مُعللّة بالأنشغالات الحياتية ورغم محاولاتها العديدة مع هذهِ الصديقة القديمة لحفظ حبل التواصل ممدوداً غير مُنقطع ودعمه بالزيارات إلا أن العلل والأَعذار والحجج تكاثرت بلانهاية وانْتَهَى الحال بأنَّ هذهِ الصديقة لا تهاتفها إلا وقد تكدس كمٌّ هائِلٌ من الهم فوق نفسِها ولابُدّ من إِفراغهِ ....... فإِلى من تُفضي بهذا الهم وهي في بلاد الغُربة حيثُ يصعُبُ الوثوق بالآخرين ، ليس من أمام هذهِ الصديقة القديمة غيرها ، وهي الذكرى التي أَوْدَعتها ثقتها قديماً والماضي الذي تطمئِنُ إليهِ ، وهكذا تديرُ رقم هاتِفها وتبدأُ بالشكوى في أُذُنيها ...... شكوى ، ألم ، آذية ........ حتى تشعُر بالراحة ، ثُم تستعجلُ إِغلاق الخط في اللحظات الأخيرة لأنّ الهدف الذي اتصلت لأجلهِ بات مقضياً ........ نهاية طبيعية لعلاقة من الماضي ...... كانت تتوقع أن تؤول هذهِ الصداقة القديمة إِلى هذا المصير ، إِنّها لا تستغرِب ، تغير الزمن ، تغيرت النفوس ، تغيرت الأماكِن والأَشْياء والظروف ، كما هي أيضاً تغيرت وما ينتهي مرة لايُمكنُ أن يبدأ مرة أُخرى ...... مكالمات صديقتها القديمة هذهِ صارت تُشعِرها بالنفور والقرف ..... كم أصبحت هذهِ الصديقة غريبة عنها ...... يالله ....... وقبل بضعةِ أَشْهُر شاءت الأَيام لها ثانيةً أن تعثر ببعضٍ آخرين من أصدقائها وصديقاتها القُدامى ، تبادلوا معها أرقام الهواتف وإِلى آخرهِ من العناوين البريدية والألكترونية فهم يعيشون في دولٍ أُخرى ، وهي تعلم أن ماحدث بينها وبينهم إِنَّما هو دهشة اللحظة الأُولى للعثور على الماضي ووجهٌ من الفضول للمعرفة عن الطرفِ الآخر ....... كتبت إِليهم بعد ذلك بضعة مرات محاولةً منها لحفظ التواصل لكِنّها لم تستلم من أيٍّ منهم رداً ...... انتظرت ثانية ولم يأتِها شيء ، وهي مُتأكدة أن هؤلاء القُدامى لن يتصلوا بها وهي أيضاً لن تتصل بهم لاحقاً بعد محاولاتها العديدة معهم وبعد أن أَكَّدوا لها شكوكها فما يُمكن أن يعيشهُ الإِنسان هو اللحظة الحاضرة فقط ، هذهِ اللحظة هي مُلكهُ ، أَما الماضي أو المستقبل فلاشيء لهُ فيهما ، وهي لن تعرف أَبداً ماذا سيكون معها في اللحظة القادمة وماذا سيجري ..... الحروب فرّقت الأحِباء والبشر وقتلت الماضي بجمالهِ ..... المحبة لاتكفي لإِصلاح كل ذلك الخراب الذي كومتّهُ الحروب خلفها والغُربة أتت على كُل ماتبقى وأَوْرَثت الكثير من الخراب الروحي والنفسي لمن وقعوا في قبضتِها ، الغُربة والحروب وجها عُملة واحدة .... رُبّما يبقى بعضٌ من الشوقِ والحنين إِلى ذلك الماضي البعيد ، الماضي بأشخاصهِ وأماكِنهِ ومُفرداتهِ ..... يبقى بعضاً من الشوقِ والحنين ليس أكثر ..... يبقى ذلك الماضي ماضياً إِلى غير عودة ، وهو بعيدٌ كُل البعد عن هذهِ اللحظة .......


 11 ـ 12 ـ 2007



مُلاحظة : ( الماضي ...... ماضياً ) قصة قصيرة من ضمن مجموعتي القصصية الغير المنشورة ــ حكايات جدُّ صغيرة ..... كبيرة ـــ عن الغُربة .

 

free web counter