| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سناء صالح

 

 

 

 

الثلاثاء 17 / 7 / 2007

 


 

حينما تتحرك الأرقام أشخاصا تعرفهم 
(
بناء على أرقام القتل اليومي في العراق الصابر
)


سناء صالح / هولندا

تطالعك نشرات الأخبار بأنواعها المرئية والمسموعة والمقروءة بأحداث العنف التي تطغى على العراق والمنطقة , يقدم لك المذيع التلفزيوني بلغة محايدة تماما تخلو من أي لون من العاطفة وبوجه خال من أي تعبير رغم الدماء والعويل والبكاء ومشاهد البؤس والفاقة وجثث في الهواء الطلق مقابل الطب العدلي مغطاة بقطع بلاستيكية سوداء , حقائق مؤلمة فالقتلى كذا عدد والشهداء المغدورين وعدد الأرامل تجاوز الحدود المعقولة , أما الأيتام فقد تضاعف رقمهم الى كذا ضعف, وبعدها يحيينا وينصرف , أمّا المشاهد أو لنقل القاريء أو المستمع فسيتلقى هذه الأخبار تبعا لوضعه النفسي , يتألم قليلا , ليديرالقناة أو الموجة أو الصفحة الى غيرها , قد تنا قضها تماما , وهكذا هي الحياة تمضي بكل مافيها من ألم وأمل , نجاح وإخفاق , فالأرقام تبقى صماء مادامت لاتكشف عن أصحابها.
مادفعني الى أن أحرك الأرقام شخوصا ماحدث في تفجير جامع الخلاني وعشرات القتلى الذين أهملهم السياسيون والأعلام من هم ! كيف كانت حياتهم ! بم كانوا يحلمون ! وهل شعروا حينما خرجوا بأنهم سيقتلون ! عوائلهم ! كيف تلقوا النبأ ! ليكتفى بالحديث عن الجامع , مع الرقم سوف تكون جامدا حياديا لاتتحرك مشاعرك يبرز أمام عينيك ثم يختفي أما لو سمعت قصص هذه الأرقام فسوف يتحرك فيك الأنسان  .

لو حركنا هذه الأرقام وأعطيناها صفة شخوص ولنقل رقم 20 بعد كذا ألف من قائمة الشهداء المغدورين ولنعطيه إسما وصورة وعمل فلنسمه (سعد) وهو اسم محايد لاينم عن طائفة أو عرق حتى نقول انه سني أو شيعي مسيحي أو صابئي فهو شاب في الثلاثينات من عمره متزوج له طفلان بنت وولد , تزوج من حبيبته , شاب عانى من البطالة لسنوات شأن أقرانه من أبناء من لاظهر لهم أو أذرع ممتدة حتى تمكن أن يجد له عملا في الشرطة بعد التغيير , لايحب السياسة , هو إنسان بسيط يريد أن يعيش مع زوجته وطفليه بأمان فكل سبل الحياة السعيدة في المفهوم المتعارف عليه متوفرة ومبشرة , لم يؤذ أحدا , لم يقتل أو يسرق , لم يعتد على جار لم يكن سليط اللسان, ودودا كريما كرم أهل الرافدين , في ظهيرة أحد الأيام خرج ليتبضع لأسرته , لم يعد سعد الى زوجته وطفليه جابهه إرهابيون, قاومهم , قتلوه , وجد مرميا في أحد الشوارع العراقية , دفن ولم يستطع أن يعطي أسماء قتلته , أما القتلة فما زالوا يجوبون الشوارع بحثا عن رقم آخر يضيفونه الى قائمة المغدورين .

أما الرقم الآخر الذي سنحركه ولنختر رقم لأرملة 5 بعد الثلاثة ملايين أرملة المصنفات من الفئة العمرية 25 -40 ولنعطها أسم لمياء , لمياء شابة في الخامسة والعشرين ربيعا هي زوجة للمغدورسعد , في سنها تكون قد أتمت دراستها الجامعية وبسبب الظروف الأمنية والفساد الأداري فهي عاطلة عن العمل شأنها شأن الكثيرين والكثيرات من أبناء بلدها , تزوجت عن حب ووضعت طفلين جميلين بصحة جيدة , فيي مثل حالتها لابد أن تكون سعيدة في حياتها الخاصة بعلاقتها مع شريك حياتها تدبر معه شؤون البيت والمصروف وجمع الفلس على الفلس لشراء أثاث وربما يبتعد طموحها سيشتريان قطعة أرض يبنيانها معا وستزرع في حديقة الدار الصغيرة وردا جوريا , ستكبر , وسيكبر أبناؤها هكذا كانت لمياء تحلم حلم فتاة عادية منحدرة من أسرة متوسطة, لم يشغل بالها سوى الوضع المتردي وخوفها علىالزوج والأهل والأطفال ماعدا ذلك كل شيء يهون مادامت مع حبيبها تقاسمه الحياة , لم تهتم كثيرا للأزمات هي متفائلة وإن كل شيء سيكون حتما أفضل ولو بعد حين , لمياء قضي عليها حينما جيء بحبيبها مضرجا بالدم ,انهارت احلامها , في لحظة تهاوى البيت الموعود بالسعادة تقصفت أشجار الجوري التي كانت حلمها حملتها رياح غاشمة عتية , لمياء ذات الخمسة والعشرين ربيعا تنوء بحمل ثقيل - يتيمان ولقب أرملة - .

الملايين من الأيتام هم نتاج سياسات خاطئة لما مضى وماهو قائم , رقم خيالي يفوق التصور ووراء كل رقم حكاية , وسأستطرد في حكايتي التي ابتدأتها عن رقمين أعطيتهما إسما وشخصية شهيد وأرملة أريد أن أحكي عن يتيمين طفلين بنت وولد هما نتاج علاقة زوجية وحب وتفاهم , البنت عبير والولد رافد وقد اخترت اسمين محايدين أيضا عبير في سنتها الثانية أما رافد فهو مازال في الرابعة من عمره , لمياء وسعد كانا فرحين بطفليهما أيما فرح , لاشك أنهما كانا يخططان لمسقبل أفضل لهما , وكيف سيذهبان الى المدرسة وكيف سيستقبلان نبأ تخرجهما وتصل الأمنيات بعيدة متصلة رغم الدمار والعنف الدموي الذي يحيط حياتهما فقد اتفقا ضمنا على أنهما يعيشان في مملكتهما الصغيرة وعشهما حياة سعيدة رغم الضنك واللاأمان فبالحب سيتغلبان على منغصات الحياة , الطفل الصغير لايعي الآن ما سيطرأ على حياته سوى أنه افتقد وجها محبا ضاحكا ويدا قوية تضم يديه الصغيرتين أو قطع الحلوى التي يجلبها له حين يعود من الخارج , أما عبير التي لاتزال تدرج في عامها الثاني ستنسى حتما كلمة بابا وسوف لاتتعرف على دور الأب الحاني الحازم والسقف المظلل والجدار الذي تتكأ عليه في أيامها القادمة ,هذان الطفلان سيفتقدان وجها أليفا وقلبا حانيا وحزما ومورد رزق يؤمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة . سيفتقدان التوازن النفسي والعاطفي الذي يخلفه اليتم ستبقى صورة الثياب المدماة ونحيب وصوات الأم المفجوع ثابتة , سيبقى الخوف من مشهد مرعب سيستقر في أعماقهما سيؤثر على نفسيتهما الغضة , وتأخذ الذاكرة آخر صورة للأب الذي غيبه الأرهاب وضعف الحكومة .

هذه عينة لأرقام تتكرر يوميا يختفي وراءها بشر من لحم ودم وأحساس , تذكرها بحوث وأحصائيات كأرقام مجردة , تنقل مأساوية الأوضاع وتدرج العراق في مقدمة الدول ليس في الخدمات والرعاية والتطور بل في التخلف والدمار والفساد واللامبالاة والنزاع في سبيل سلطة مآلها الى الزوال .