| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سعد محمد موسى

 

 

 

                                                                                    الأحد 5/6/ 2011

 

ما بين نايّ تومان.. وعازف ساكسفون سوهو

سعد محمد موسى

برح الطين جرف النهر
وتحررالجنين من حبل السرّة
والناسك ايضاً غادر صومعته.
حمل المنفي ألواحه التي حفرت على سطوحها ترنيمات معبد (ننجرسو) *

وفي أنفاق لندن كانت أتسكع فوق الارصفة المترنحة، قادتني خطاي الى حانة في حي سوهو وفي احدى النوادي الليلية كانت موسيقى "الجاز" تضج في ليالي سوهو وتستفيق بنشوة الايقاعات محتضنة الاضواء الصارخة. جلست على مقربة من عازف الساكسفون الزنجي الذي كان ينفخ بروحه في حنايا الساكسفون فيتصاعد النغم مثل عواء ذئب جريح في ادغال افريقيا وهو يناجي القمر. تمعنت بملامح الزنجي عازف الساكسفون التي تقاربت وتداخلت مع ملامح (تومان) عازف الناي سليل أسلاف ثورة الزنج في البصرة جنوبي العراق، وكان عادة مايزور الناصرية مدينته المفضلة وهو يقطع شوارعها عازفا الناي بأنفه ويتمايل راقصاً بجسده الطويل والرشيق . وكنا فصيلاً من أطفال المحلة نحوم حوله ونتتبع رحلته الى شوارع أخرى حيث نشاطره الرقص ويصافحنا بكفه الضخمه وأحيانا يوزع الحلوى علينا ويمازحنا بحركاته الرشيقه البهلوانيه وايحاءات وجهه التي تثير الضحك والدهشة والخوف فينا، في البدء كان تقربنا له يشوبه شيء من الرهبة والفضول لهذا الزنجي المهرج والغريب الذي يعزف الناي بأنفه ،لكن بعد أن تعرفنا عليه وآلفناه أدركنا أن تومان قديسٌ عفويٌ يمنح المرح والسلام الى الناس.

صعدت‘ قطار الليل الاخير الذي أقلني حيث سكناي في احد أحياء الجنوب الشرقي من لندن والتي كانت يقطنها الكثير من الزنوج فالتقيت مرة اخرى بعازف الساكسفون الذي رأيته قبل ساعات في حانة سوهو كان جالساً في مؤخرة عربة القطار وكان في اغفاءاته المتقطعه وهو يعانق آلة الساكسفون، أعادني هذا المشهد الى مملكة تومان البعيدة والتائهة وارتحلتْ مخيلتي ايضاً الى مدينة الناصرية. حيث كان تومان بانين نايّه الآخّاذ يُسحرنا ونحن نتتبعه بعيداً الى ازقة أخرى.

كان هنالك زنجياً اخراً معروفاً في انحاء مدينة الناصرية يدعى (شنيشل) وهو من أصحاب تومان المقربين وقد اعتاد شنيشل ان يجالس رفيقه في المقهى وهو يحمل قردته على كتفيه أنه مشهدُ حميمُ في ذاكرة المدينة "شنيشل وقردته النزقة"، فحين يعزف تومان تنتفض القردة تلهو وتزعق وتصفق على ايقاع الناي.

في تلك الرحلة استعدت قارع الطبل في ليالي رمضان حيث كان أهل المدينة يطلقون عليه تسمية "ابو طبيله"، كنت أتصوره مثل لغز او شبح، عادة ما كنت أرهق مخيلتي لرسم ملامح رجل الظلام ذلك بهيئته الهلامية وهو يشق الشارع مسرعاً في الظلام يدق الطبل ويصيح سحور.. سحور... سحور.... وانا أطلُّ بفضول واحاول جاهداً ان أطرد النوم من عينيّ الناعستين وأترقب مجيء أبو طبيلة متطلعاً من وراء النافذة فيمر ملتحفاً بعباءةٍ داكنةٍ ومعتمراً طاقية بيضاء.

.. وسرعان ما يأفل قارع الطبل وسط الظلام مخلفاً صدى يتوارى بعيداً وبعيداً سحور.. سحور... سحور....

تومان وأبو طبيله هما صوتان في ذاكرةٍ توضأت بمراسيم الرقص والموسيقى بين الناي الحاضر في النهار والطبل التائه في الظلام.

غاب تومان بضعة أسابيع عن الناصرية وأفتقدت الشوارع أناشيده وحضوره البهيج ذلك الانسان المشرد عاشق الحريه والتمرد والجمال سليل الزنوج المضطهدين وطوطم ثورة العبيد.

تساءلت القباب عن الغياب وتساءل الرصيف بوحشة عن خطى تومان الراقصة, بعد فترة جاء الصدى البعيد كالامواج من ضفاف شط العرب الى الفرات, وكأن الصدى ينبوع تفجر وسراً دفيناً أباحه حلاق اشبيليه الى مسامع المدينة, تومان مات.. تومان مات...تومان مات....

في صباح غائم توقفت النسوة العائدات من بساتين ابو الخصيب واللواتي أذهلتهن الصدمة امام جثة تومان وهو مسترخيا بسلامٍ على جذع شجرة "النبق" والتي حفر على لحائها أول ينابيع عشقه حين كان طفلاً يتغيب عن المدرسة ويزور محرابه تحت ظلال شجرة " السدر" يعزف بنايّه ويتباهى امام صبايا البصرة ، وعلى ضفاف شط العرب عانق بودٍ خليله الابدي الناي الجنوبيّ. وكانت على تضاريس وجهه دمعتان انحدرتا كجرحين حفرتا أخاديد الوجع، بعد ان عاد مثل طائرٍ أضنته الرحلات فعاد الى مكانه الاول وحبل سرته وعشة الوديع ليرقد تحت شجرة السدر الازلية والمقدسة.

في تلك الليلة لم يوقد الزنوج النار والتي عادةً ما كان يلتف حولها الراقصون وضاربو "الدفوف والخشابة" ليرقصوا (الهيوه) رقصة اول عاشق حين داهمه الخبلْ وتجليات المتصوفين

(دان دان
أيها الحلاج
تومان يعزف
ما نجا أحدٌ ومن ينجو مدان
دان دان
) **

رحل النايّ مودعاً مريديه ونام على صدر تومان كعاشقةٍ, ودفنا سوية في رمال البصرة.



* ننجرسو معبد الموسيقى والاناشيد لدى السومريين.
** مقطع من قصيدة للشاعر العراقي عبد الحسن الشذر الذي غادر قطارالحياة مبكرا.
 

استراليا- ملبورن
حزيران 2011
 

 

free web counter