| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

سعد محمد موسى

 

 

                                                                            الثلاثاء 2/8/ 2011




نذور لعودة الغائب

نص ولوحة : سعد محمد موسى

ألواح الطين وبوابات المعابد حين توشمها اصابع النسوة المعفرة بالحناء وهي تنقش بالآهات والهواجس رغبات مدفونه ومعتقة باحشاء أقبية العشق، فترسم خرائط الامنيات وقدسية المثلث وبهاء حجر اللازورد وام سبع عيون وغنوصية الحروز والادعية. وتلك الطلاسم والنقوش ترمزً الى الدلالات والرموز الروحية المقدسة فعلى بوابات وشبابيك المعابد والاضرحة وبيوت القديسين والشيوخ والدراويش واصحاب الحظوات والمكارم كانت تعلق النذور وتشعل الشموع ويحرق البخور بشفاعات التبرك.
وكان للتضرع صدى يتراجع في أروقة المعابد  ثم يأفل بعيداً متوسلا ًحضور المراد والمبتغى في قداس الخنوع وشلالات الدموع التي تنهمر في وديان الغياب.
دعوة لعودة الحبيب أو الزوج او الابن من دوامات  الحروب او بعد الاسفار.
 
 "تعميد جسد الامنيات في نهر الطين".

أفاقت بيّ لوحة كانت مركونة فى احدى زوايا مرسمي "نذور لعودة الغائب" سنوات الوجع التي عشتها أثناء محارق الحروب فاستعدت من خلالها شواخص المدينة ومن ضمنهم شخصية أم غايب المراة التي كانت تعج بالفرح والغنج وكانت في بدايات العقد الرابع من عمرها المصابة بداء العقم وكانت عادةً ما تنعت الزوجة العاقر انذاك بهذا اللقب وايضاً الزوج الذي لا ينجب اطفال يلقب (ابو غايب).
كانت ام غايب  وأسمها موزة متزوجة من رجل بسيط يدعى"مطر" وكان سكان المحله  يدعونه ايضاً ابو غايب. حينها كان الرفيقان ام غايب وابو غايب يعيشان بوئام  وحب دائمي وكأن حرمانهم من  انجاب الاطفال جعل عشقهم يتالق اكثر.
 
بدأت حرب تشرين 1972 وكان ابو غايب حينها مطوعاً في الجيش العراقي وقد شارك بالحرب ضد اسرائيل ضمن الوية الجيش العراقي  التي  التحقت مع بقية الجيوش العربية.
 وحين انقطعت اخبار ابو غايب اثناء حرب تشرين. هامت ام غايب بحنائها ونذورها وعشقها توشم بها بوابات المساجد والاضرحة وتوقد شموع (الخضر) على ضفاف الفرات وهي تتشفع بايقونات العودة .
 في ضفة الموت الاخرى ربما كانت ام  غايب اخرى، يهودية  تمسد  بحائط المبكى في اورشليم وتنوح تحت اطلال اخر جدار لهيكل سليمان  وتتوسل لعودة الغائب الذي يحمل نجمة داوّد في حرب الغفران. فكانت زوجتا العدوّين تتشاركان بالتوسل والنواح لانتظار الغائب. 
بين قلق الحضور وحزن الغياب كانت أم غايب تدور كمجرةٍ ضائعة في مداراتِ الاسى .

أخيراً عاد (أبوغايب) من حرب تشرين سالما،ً فاخذت (أم غايب) القرابين ونذور الشكر الى الاضرحه ومقامات السادة تنثر الحلوى في طرقات حبيبها الجندي الذي عاد بسلام الى مملكتها، وتعالت هلاهل أم غايب  فوق القباب والمنائر وسطوح المدينة وكانت تتغنج وتستعرض  من وراء عباءتها الحريريه المتموجة بظفائرها المعطرة بالطيب والمحلب والحناء. 

 تسرح أبو غايب من الخدمة العسكرية بعد نهاية حرب تشرين وعاش حياة اخرى بعيداً عن قساوة الجيش والبعد القسري.
استلقى باحضان موزه في منتهى السعادة والسلام، وكان مطر يتباهى أحياناً، ويذكر موزه بمغامراته وتحدياته لاهلها وابناء عمومتها سابقاً حين كان مولعاً  بعشقها  وقد كان أهل موزه يرفضون فكرة قدوم مطر للزواج ببنتهم الوحيدة ، لكن مطر العاشق لم يكل أو ييأس عن المحاولات لخطبة حبيبته وقد ارسل شخصيات وأعواناً من سادة وشيوخ الى اهل موزه حتى استطاع اخيراً ان يتزوجها رغماً عن أبناء عمومتها.

 كان مطر أحياناً يشاكس موزه ويستعرض لها وشمأً قديماً نقشه على ذراعة الايمن كان  يمثل قلباً وبداخله عبارة "موزة حبيبتي" نقش هذا الوشم بابرة ورماد التنور، حين كان جمر الجوى يحرقه في ليالي البعد والحرمان وهو يمر خلسة في الليل في شارع بيت موزه ينتظر مشاهدتها ولو للحظة.
وكانا عادة ما يستذكران المقالب والاعذار التي كانت تقوم بها موزه  لكي تقنع أهلها  حتى تفر من البيت وتلتقي بمطر.
 
بعد أن تسرح مطر من الخدمة العسكرية اتفق مع موزة على  بناء حانوتٍ بسيطٍ تابعاً لبيتهم القديم الذي يقطنونه منذ سنوات وقد عرضوا على الرفوف حلويات  وعلب سجائر  وبعض المعلبات.
 كنت عادة ما أرى أم غايب وأبوغايب يجلسان سوية في الحانوت يتغازلان مع بعضهما ويقهقهان بضحكات عالية وقد اعتاد المارون على سماع ضحكاتهما ونكاتهما أو احيانا كانا يداعبان أطفال المحلة الذين يتقافزون امام باب الحانوت لشراء بعض الحلوى وكان المذياع لا يفارقهما في متجرهما الصغير وهم يستمعان الى الاخبار او يطربان بسماعِ الاغاني بصحبة قطتهم البيضاء الكسولة والمدللة.

 استمرت حياة الزوجين وديعة وعادية لسنوات لن تشوبها أية هموم. حتى مجيء سبتمبر عام 1980 الذي غيّر خارطة الحياة في العراق وبدأ الانذار لتعبئة الناس لحرب ضروس طويلة بين العراق وايران .

" ليلة العشق الاخيرة"

استدعيت مواليد أبو غايب عام 1982 للالتحاق بجبهات الحرب ، ذهب ابو غايب مرة اخرى الى حرب طويلة لا أحد يعرف نهايتها.
 ثم عاد أبو غايب من الحرب باجازتين شهريتين لايام قلائل بعدها.

كانت أم غايب تتباهى باجمل ثيابها الصارخة الالوان وتستعرض حليتها الذهبية في المدينة.  وكانت كل ليلة تنصب فوق سطح الدار (الكله) الناموسية المستلقية باغفاءةٍ ناعمة تحت شهوة القمر.
 الساعات المتبقية من الليلة الاخيرة قضاها أبو غايب مع زوجته بوصالٍ حزين يشوبه شعور غريب.

 ودع مطر إمرأته في فجرٍ باردٍ وموحش من نهاية شهر نوفمبر بعد ان عبّأ حقيبته الصغيرة ببعض الحاجات الشخصية وأيضا حشر في الحقيبة  صورة زفافهما ورسائل الغرام قبل الزواج وبعض ملابس أم غايب الداخلية التي كان يعشق الوانها ورائحتها. عانقت موزة حبيبها قبل أن يغادر الدار ثم ناحت موزة بوجع عميق فسالت دموعها الساخنة على رقبة واكتاف زوجها وقد بللت بدموع الوداع قميصه العسكري.

غادر أبو غايب بقلب يعتصره الاسى ارتحل  مرغماً عن داره وزوجته وقطته وحانوته.
غاب ابو غايب اكثر من المعتاد في إجازته الشهرية المفترضة، فتوجست موزة من تأخر قدومه، فزادت من رحلاتها الى المقامات والأضرحة وهي تمنح النذور والقرابين، ولكن الغياب كان يتسع ويطول. تمر الاشهر وليس للغائب من خطى او حضور . لم يكن اسم ابو غايب ضمن قوائم الاسرى ولا ضمن قوافل الجنود العائدين بالاجازات الدورية. أدركت ام غايب أخيراً ان زوجها في عداد المفقودين  ممن بقيت جثثهم في الارض الحرام ولن يعود ابداً.

لم تعد أم غايب تثق  بما قالته العرافة يوماً لها حين زرعت تلك العرافة حقول الامل بعودة الغياب الوهمي, وأيضا قبلها أنبأت العرافة ذاتها موزة بقدوم الحمل لكن الحمل كان كاذباً.

في الاشهر الاخيره بدأت  تضاريس الشيخوخة والقهر تكتسح وجه موزة الذي اعتاد الناس قبل غياب مطر في الحرب الاخيرة على رؤيته وهو يشع بالفرح والغنج والاشراق، تخلت الزوجة عن روائح الطيب أو الديرم الذي كان يصبغ شفاهها الشهية او الكحل العاشق الذي غادر محراب الليل لينام فوق جفون موزة.

 ارتدت الارملة ملابس العزاء وانزوت بحزن وانطفأ قداس الفرح في أروقة روحها المشرقة. لم تعد تفتح بوابة الحانوت الا قليلا بعد المصاب الذي حل بها، أخذ الحزن يغطي بيت الغياب والعناكب تنسج خيوطها  فوق زوايا سقف الدار والغبار يغطي  كل شيء حتى السرير الملون الذي اعتادت ان تهتم به بافراط في السابق. وايضاً القطة المدللة بدأت أكثر حزناً وكسلاً  وقد كان أغلب الناس في المحلة يتجنب السؤال عن أخبار ابو غايب تعاطفاً واحتراماً لمشاعر ام غايب.

في احدى الليالي الشتائية نفذت سجائري وذهبت الى حانوت أم غايب القريب من البيت لكي اشتري علبة سجائر فكانت القطة تموء وهي تتربع مكان أم غايب وسط الحانوت الصغير، انتظرت لحظات وصاحبة الحانوت لم تظهر ناديت في ارجاء الحانوت  المطل على فناء البيت : "ام غايب .. أم غايب". لم تكن هنالك استجابة غير مواء القطة المرعوبة والتي كانت تحدق بي وكأنها تريد ان  تنبأني بشيء. ثم استحال المواء الى نواح بعد ان تطلعت الى احدى زوايا البيت حيث وقع نظري على جسد ام غايب الملتحف بالسواد مسجى امام بوابة الغرفة وهي تعانق صورة المفقود ابو غايب وبالجانب الاخر  المذياع المغطى بتراب أخر اغنية اعتادا على سماعهما سوية.

براكين العشق والحنين صادرت أخر نبضة كانت تئن وحيدة في ثنايا  قلب موزه الموشوم بأغاني الغجر ومزامير مطر وأناشيده التي ارتحلت كأخر القوافل التي ابتلعتها كثبان الرمل والسراب.
فكان رحيل موزه فوق هودج الغياب والفجيعة مع أخر القوافل يسدل الستار امام قصة عشق لحلم وانتظار أمراة بقيت تنتظر عبثاً عودة الرجل الذي لن يعود ابداً.


استراليا – ملبورن
اغسطس 2011
 





 


 

free web counter