| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سعد محمد موسى

 

 

 

                                                                            الثلاثاء 29/11/ 2011




حكايات الماء والضفاف

نص ولوحة : سعد محمد موسى

"الى روحيّ الغريقيين جواد الازرقي ويحي"

كان درويش الماء واسطورة الصمت يوشم هذياناته على ضفاف النهر ، حيث كان ذلك الغريب الزاهد الذي نزح من جزيرة "سيد احمد الرفاعي" ومن شمال مدينة الناصرية الى جنوبها والذي قطن تلك الضفة بعد أن شيّد كوخاً من طين النهر ومن جذوع النخيل وعلى مقربة من نهر الفرات قرب بساتين "السديناوية". لا أحد كان يعرف شيئاً عن هذا الشيخ الصامت والذي هبط من أقاصي الاستفهام الى حضرة النهر فلا هوية كان تعرّفه أو إسماً يشير اليه أو حتى وطناً يعود اليه.

كان الروحاني موحد لا ينتمي الى أية عقيدة أو دين. سوى التوحد في الرمل والماء والتأمل والصمت.
البعض كان يظن إن هذا النازح نحو النهر كان من أواخر مريديّ التصوف التابعين الى "الحلاج أو أبو يزيد البسطامي.

كانت نسوة القرية يتبركنّ بهذا الدرويش والذي يعد علامة غريبة وله بعض الكرامات في إعتقاد سكان تلك الناحية، وغالباً ما كانت النسوة وهن يجلبن بارغفة الخبز والتمر والشموع. ويتركنّ النذور قرب الكوخ ثم يتسللنّ بهدوء خشية إرباك عزلة الشيخ.

وكان هذا المجهول عادةً ما يلقي بقطع الخبز الى ضفاف النهر حيث تتجمع الاسماك الجائعة. ويترك فتات الخبز أيضاً على حافات ثقوب مستعمرات النمل الذي يدب ما بين كوخة وضفة النهر.
وبعد ان يطعم الشيخ كائناته، يبدأ بتناول الخبز المتبقي بخجلٍ وبهدوء.

لا أحد كان يرى هذا المتخفي، فقد كان يعتكف بقداسٍ عزلة الكوخ في النهار، لكنه في الليل حين يطمئن إن جميع العيون قد نامت إلاّ عين الله، حينها يبرح هذا الشيخ الاثيريّ بوابة الكوخ ليتبع قوافل ضوء القمر على ضفاف الفرات.

وكانت للدرويش نخلة مفضله عادةً ما يتكئ على جذعها وهو يتأمل سكون الماء الغارق في غيبوبة الليل.. فلا أحد كان يعيّ ألّغاز النهر سوى جلالة هذا الصوفي .

تناول الزاهد الاخرس في تلك الليلة، بمزماره المصنوع من قصب "البردي" ونفخ بروحه في فضاءات الصمت، فأضحى النايّ ينساب بوجدٍ كانسياب الماء ليطرب البومة المتوارية خلف شجرة التوت لدى ضفة النهر الاخرى ويفيق بلابل البساتين من نومها.

عراب الصمت ودرويش الماء رسم رحلته الاخيره في حضور أمواج النهر حين حفر بسبابته أخر أناشيده فوق جسد الماء وأختار نهايته وهو يعانق مزماره، ليخلدا معاً في أعماق النهر ويترك كوخه الوحيد على الضفاف دون عودة وهو يتتبع أخر إرتحالاته في تلك الليلة كسحابة يتيمة توارت بسلام، وهي تمس جسديّ الغريقين "جواد الازرقي ويحي" اللذان إختارا النوم في معبد (ننجرسو) في تلك الليلة.

ألواح اللعنة والعذاب كان يحملها جواد الازرقي أمام بوابات الموت وهو يعد بخيباته، فاختارته بوابات الخراب عراباً للخسارات.

وفي الليلة الاخيرة كان "الازرقي" منهمكاً بالبحث عن حبل سرته المدفونة في غرين الفرات، وحين إستدل الى قبر السرّة سحب الحبل ثم عقده كانشوطة مشنقة جعلها تليق برقبته التي تدلت فوق قداس الماء.

ثم تعقب خله وصاحبه "يحي الناصريّ" بنبل وهو ينشد الخلاص منحدراً نحو سلالم الماء المؤدية الى باحة الفناء للالتحاق بهواء الغريق.

كان خيار الصديقين أن يودعا الاجساد المتفسخة في تضاريس ملح الفاو لرفاقٍ ثقّب الرصاص أجسادهم وجماجمهم. ليعلنا رفضهما للجحيم وللحرب القذرة العبثية ما بين العراق وايرن.
ويختبئا في سلام الماء وسحابات الفراديس الملونة، بعد أن برحا خنادق الموت ووصايّا الطغاة الى سماواتٍ صافية خالية من دخان الحروب وبعيداً عن رماد المحارق .

الشاعران جواد الازرقي ويحي الناصريّ كانا توأمان في العذاب وفي الانتحار أيضاً.
لا أحد كان يقدم على فعل الانتحار أو يتحضر له مسبقاً. ففكرة الانتحار عادة ما تكون مثل إتقاد حرائق الغابات أو براكين القصيدة حين يباغت حضورها وجنونها الشاعر، فالرحيل المباغت يحدث في لحظة الحضور والفناء.

هكذا حين أغوت ضفاف الفرات أقدام جواد الازرقي العارية لتنزل الى جوف النهر ثم يتبعه رفيقه يحي ليلقي بنفسه الى أعماق الماء.

كان عويل الامهات الثكالى ينساب كالعزاء من أعماق البساتين المظلمة والموحشة وكانت الامومة المفجوعة تتوسل بالماء لكي يدلهم على وجود الغريقين.
تمر مواكب شموع الخضر مع النذور وأغصان الياس الطافية فوق سطح الماء وعلى أواني الفضة، وهي تتعقب الجثتين الطافيتين.

مر الغريقان من امام كوخ درويش الماء في هذا المساء البائس، وكأن هنالك تساؤلات مستباحة مع الضفة ومع الماء. فأبلغ الكوخ الغريقان ان سيد الدار قد غادر الليلة الماضية الى أقاصي النهر. ثم عامت الجثتان بعيداً... بعيداً نحو إنحدار النهر جنوباً لتلتحقا بدرويش الماء.


استراليا – ملبورن
نوفمبر 2011
 





 


 

free web counter