| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

سعد محمد موسى

 

 

                                                                                    السبت 25/6/ 2011

 

النزوح بعيداً

سعد محمد موسى

حين غمست الفرشاة بوجع الفجيعة وألم الانسان العراقي وفرشتها على سطح القماشة كان ذلك في مخيم رفحاء عام 1991 جسدت حينها وجع الوطن وكرامة الانسان المستلبة وقد كانت اللوحة صرخة ضد الطغاة الذين حاولوا إستئصال الوجود والانسان من الارض قسراً.

لوحة "النزوح بعيداً" هي امتداد مستمر ونزيف، إنها هجرة ورود الياسمين وطيور الحجل من جبال كردستان، وهجرة المشاحيف والجواميس من أهوار الجنوب بحثاً عن الماء وعن السلام حين تم تجفيف الاهوار.

بعد سقوط صنم الهلاك والحروب تسللت سموم الارهاب الى جسد الوطن من خارج الحدود واشتعلت فتنة الاقتتال الطائفي المقيت بين الاخوة الاعداء وتكاثرت الهجرات فتشظى أبناء الرافدين الى المنافي بعيداً عن جذورهم وعن سماواتهم الاولى مثل الاسماك حين تتقاذفها الامواج وترميها بعيداً فوق ضفاف الغرباء الموحشة.

في تلك الليلة تذكرت غياب اللوحة والتي غادرت خيمتي المتهرئه في صحراء رفحاء حينما كنت لاجئاً وبعد أن اقتنتها سيدة أمريكية أثناء زيارتها يوما ما الى استوديو الخيمة في معسكر رفحاء للاجئين العراقيين. أحياناً أتساءل عن مصير اللوحة أين تكون وعلى اي جدار تبكي الان وحيدة ، وهل آلفت لوحتي بعد كل هذه السنين فضاءات الغربة البعيدة.

في اللوحة كانت تبدو ثلاث نساء وطفل كان يلفهم فضاءً أخضر حزين و قاتم  .

المرأة الاولى كانت تحمل فانوساً يتثاءب فيه بصيص ضوء خافت شجي ، والمرأة الثانية كانت تنظر بآسى بالغ مودعةً الوطن والضحايا التي امتلأت فيها الارض المنكوبة، والنخيلات العجاف التي برحتها البلابل اخيراً .

أما المرأة الثالثة في اللوحة فكانت تمثل أم تحمل طفلاً على كتفها وهو يغفو بسلام  .

تسلل مشهد الامومة بودٍ هذه الليلة ليثير الحنين والشجن في صومعتي وعزلتي فترحل بيّ سنوات الطفولة وهي تعوم في فضاء الخيال البعيد وتحط الذاكرة كطائر وديع في أحضان العش وفوق كتف الامومة. استحضرني زمن الطفولة في هذه الليلة المنفية ايضاً، حينها كانت أمي تحملني على كتفها لتأخذني الى الاسواق أو تمر في الازقة وفي شوارع الناصرية كنت أشعر حينها بزهو وبغبطة وانا أعلو فوق كتف أمي وكأني أكاد ان المس قبة السماء وحين يتثاقل بأجفاني النعاس من الرحلة البهيجة أغفو ما بين رأس أمي وما بين زبيلها (سلة الخوصْ) المملوء بالخضار وعذق التمر المتدلي على رأسها فتستحيل احلام الطفولة والبراءة الى ايقونة عشق في محراب الامومة . كانت اللوحة مشحونة بمشاعر انسانية جياشة أخبرني أحد الاصدقاء المترجمين فيما بعد ان السيدة الامريكية والتي كانت تعمل في البعثة الامريكية لدراسة طلبات اللاجئين ومقابلتهم في المخيم اختلت مع اللوحة، ثم جهشت بالبكاء متأثرة بقوة تعبير اللوحة التي تجسد معاناة المرأة العراقية اثناء الحرب  .

من اكثر المشاهد المأساوية والتي خلفت شرخاً عميقاً على جدار الذاكرة كانت في زمن الفجيعة التي عشتها ورأيتها اثناء قصف نظام الطاغية وسيبقى أبداً نزيف وجع لن يجف وشلال آسى لن يتوقف هديره وأكثر المشاهد مأساوية انفطر لها القلب وجعاً حين وقع بصري على أم قتيله مع رضيعها وهي متكئة على جدار بيت قديم والرضيع من حرقة ألمه وأثناء اختراق جسده البض بشظية قنبلة عضّ بقوة على حلمة أمه فأدماها فتخضب فم الرضيع بالدم والحليب وسال الحليب الوردي فوق خديه ورقبته والام القتيلة مازالت متمسكة برضيعها.

 

استراليا- ملبورن
حزيران 2011
 

 

free web counter