| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سعد محمد موسى

 

 

 

                                                                            الثلاثاء 21/2/ 2012




أرصفة الشعر والجنون

نص ولوحة : سعد محمد موسى

في هذا المساء الجميل كان حذائي الكسول يتثائب فوق سرير الرصيف، حين توقفت خطواتي قرب نصبٍ للشاعر الاسترالي (أدريان راولينز)، شاعر العبث والتسكع والفضاءات، درويش الارصفة في شارع (برانزويك) في مدينة ملبورن الاسترالية.

كان إدريان يرسم خرائط الضياع على الارصفة ويغني أمام بوابات الحانات ويهذي بالشعر مدمدماً مع ظله الراقص ، بموسيقى "الجاز والبلوز" وهو يبحث عن أسرار الغابات وأحلام الابورجنيز وسواحل الجزر الوحشية النائية.

كانت ليلة أدريان الآخيرة والتي أمضاها بين حوارييه الصعاليك في حانات "فتزروي" بعدما ودع ظله الذي عشق الليل والمدينة ووصايا البوهيميين كقمرٍ أدمن على "هروين الليل" ليلتحق الى حانة أخرى في الآقاصي البعيدة حيث كان أصدقاؤه الصعاليك بإنتظاره وليلتحق معهم أيضاَ عراب الارصفة المتوّج بأخر أسمال الملك الآشوري جان دمو.

غادر جان دمو ضفاف بغداد النازفة وبرح آخر حانةٍ في شارع أبو نؤاس مع قوافل الخيبات الاخيرة الى أرصفة عمان بعد أن ترك وجدانه في غرين ضفاف دجلة, ونقش بذاكرته على جمار نخلة غادرتها أعثاقها.
لطالما سخر جان دمو من السلطة والمرابد وبصق على موائد الفتات والتهافت الشعري في بغداد .

وبعد أن غادر ثكنات الرعب والمقاهي التي يترصدها المخبرون السريوّن في الشرق الاوسط... حطّ هذا المطارد الابديّ رحاله في جزيرة مسترخية عمدتها الغابات والسواحل تدعى "استراليا".

حينها بدأت رحلات دمو مع فراديس الخمر وأرصفة أكثر أماناً من أمكنة الشرق، وتسكع الشاعر بسلام في حدائق وفضاءات ملبورن وسدني دون رعب المفارز البوليسية والسيطرات العسكرية التي كانت تعترض خطواته
تعاطى "دمو" الارصفة التي تنام في أحضان القصائد وأدمن التسكع والترنح حتى أخر تراتيله التي أباحها فوق آخر أرصفة "مدينة سدني".
وذات ليلة حين شعر دمو بقساوة الاغتراب دثرّ عراب الارصفة والتسكع وجهه المتعب، بين أثداء الاسترالية الشقراء "ليندا".
وحين خذله الشبق، نام كطفلٍ يحلم بانهارٍ الحليب وأراجيح الصباح، وحلم بأن ظل الله كان يستلقي بين المطر والحقيقة.

• جان دمو وأدريان إبتعدا عن إثم الانجاب، حيث أوقفا جريمة التناسل، وكانت فكرة حضور الاطفال على هذه الارض تمثل لهم خطيئة قبيحة..حين يكون الاطفال هم ضحايا لرغبات جنسية مابين الرجل والمرأة فأرادا أن يوقفوا هذا النزيف وهذا العذاب الوجودي بعدم إنجابهما لعذابات أخرى فوق هذه الارض، فأكتفيا بمشاهدة ظلال أجسادهما وعذاباتهم الآبدية على أرصفة عارية وأحلام مؤجلة.

• عادة ماتكون أسمال دمو معبأة بزجاجات النبيذ والتبغ كدرويشٍ مدمن على تعاويذه وتهويماته .

• وكان يفترش العشب والمحطات ويدلق نبيذه الاحمر القاني كدم المسيح فوق طاولةعشائه الاخير،كان دمو يحمل روحه وجراحات الوطن المنفيّ بين اسماله وارتحالاته وترنحاته التي تحط كعصفورٍ متعب تمنح الرصيف والخطوات توازن أخر.

مات جان دمو وحيداً وبعيداً ومنسياً مثل (أبي ذر الغفاري).
تخلى الجميع عن إبداء معرفتهم بملامح الجثة وطمروا رؤوسهم في الرمل كالنعام تجنباً من أن يضطروا للمشاركة في دفع مراسيم العزاء أو جباية دفن الموتى في إحدى مقابر سدني.

• دفن الشاعر بشكل أفقي كموت الاشجار، وكأن هنالك لم يكن متسعاً في هذه الارض لامتداد جسد جان دمو النحيل... فكم انت جشعة وقبيحة يا أرض المقابر حين ترفضين إستقبال جسد متعب أراد أن ياخذ قيلولة قبل ذهابه الى أرصفة الله الاخرى.

حتى في دفن الموتى كان هنالك تفاضل حين رفضت أرض المقبرة ان يستلقي بجسده أفقياً، مثلما تستلقي الجثث الاخرى فوق أسرتها الترابية فمات الشاعر صامتاً كالزجاج وبارداً كالظل وحزيناً كسرير يتيم.


استراليا – ملبورن
يناير 2012
 





 


 

free web counter