| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سعد محمد موسى

 

 

 

                                                                            الأربعاء 19/9/ 2012



آلالام الفرس فضة

سعد محمد موسى

وفي هذا الصباح حين أمتطيت ظهر الفرس السعيدة (أوديل) ، شعرت وكأن الفرس قد أذرفت من عينيها دمعتين ساخنتين . حينها سقط قلبي جريحاً وباكياً وتدحرج مثل كرة فوق الارض.
وكأني مع اوديل نستعيد صدى مأساة وفجائع
خيول الحروب في التأريخ حين زجّت في المعارك دون خيار وبدون ذنوب , لتتعذب وتموت في ساحات القتال.

ثم مررّت بمحطات الذاكرة، وأنا أشاهد الخيول البائسة والنحيلة وهي تجر بالعربات الخشبية المتهالكة، وكانت الخيول الحزينة تهش الذباب بأطراف أذيالها حول ضفاف جراحاتها ، التي خلفتها السروج والحبال وسياط الحوذيين القساة .. وتذكرت أيضاً سيرة حياة فضة (الفرس العراقية)

"حوافر الفرس التي وشمت آخر الطرق"

كانت أخر الاناشيد وإرتحالات صدى الصهيل المبكر للمهرة "فضّة" يتوارى بفضاءات البادية حين وأد الاعرابي دلالها بعد فطامها عنوة من ثدي أمها كي يبيعها الى تاجر خيول مقابل حفنة دنانير .

غادرت فضّة بشاحنة تاجر الخيول الى مدينة بغداد بعد أن ودعت أمها بنظرات بائسة وهي كانت تأفل بعيداً عن البادية من وراء قضبان عجلة نقل الخيول الى منطقة "الوشاش" في العاصمة بغداد.

فيتم تدريب الخيول هنالك والاستعداد فيما بعد لسباقات الفروسية والتي تقام عادة في منطقة " المنصور" البغدادية.

حيث كان مراهنو سباقات الخيول يزحفون باعدادٍ غفيرة من كل صوب وحدب ومن المدن الاخرى أيضاً الى مضمار سباقات الخيل في المنصور عند صبيحة كل يوم جمعة حيث تبدأ الرهانات وصراخ المقامرين وشتائمهم الغرائبية!!.

وفي أولى سباقات الفروسية التي شاركت فيها فضة عندما كانت تتراقص بعنفوان تحت أشعة شمس ربيع آذار ولم يكن المراهنون حينها يعرفون شيئاً عن فضة، تلك الفرس الرشيقة والسريعة.. حين زجت بأحدى السباقات.

كانت المفاجأة التي أذهلت الجميع حين توّجت تلك الفرس الجديدة بالفوز بعد أن إكتسحت جميع الخيول المتسابقة وأحرزت المرتبة الاولى.

ربتّ السائس على ردفيها الصقيلين. ورقص مالك الفرس مبتهجاً بهذا الفوز الذي درّ عليه بأموال كثيرة وغير متوقعة.
.......
وفي الاسطبل صهلت فضّة بعد عناء السباق وأرتحل لهاث ذاكرتها الى فضاءات بادية النجف حين كانت تقلد خبب أمها الحسناء فوق الرمال الساخنة، وهي تتبع حوافر قوافل الامومة المسترسلة نحو الشمس  .

توالت إنتصارات فضّة في سباقاتها والتي كانت عادةً ما تتوج في المرتبة الاولى أو الثانية أحياناً وباتت هذه الفرس مشهورة بين المتنافسين حيث يراهن عليها الكثيرون.

في الفترة الاخيرة أرهقت وتراجعت فضّة على أثر مزايدات الرهانات المستمرة وجشع المالك الذي كان همه الارباح والشهرة من وراء تلك الفرس، فبات العد تنازلياً لسباقاتها. وكانت خيبات كبيرة للمراهنين بخسارات متلاحقة لسباقات فضة والتي باتت تضمحل سرعتها ويهبط نشاطها بشكل ملحوظ بعد عدة سنوات من سباق الفروسية..

حتى غضب سيدها الجشع ذات يوم وسجنها في الاسطبل ومنع عنها البرسيم والشعير والماء.
أخيراً باع المالك تلك الفرس الاصيلة وبعد أن يأس من إحرازها لأي فوز جديد في سباقات الخيول الى حوذيّ فظّ لا رحمة في قلبه.
.......
باتت فضّة تجر العربات المحملة بالطابوق وأكياس الاسمنت من أطراف بغداد حيث "منطقة المعامل" الى مناطق بغداد الشعبية وكان سخام أفران معامل الطابوق والدخان قد لوث جسد فضة.

كانت فضّة تتطلع من وراء رموشها المسترسلة الحزينة الى دروب القهر المستديمة وهي تهش الذباب النزق عن ضفاف جراحات ردفيها الملتهبتين والنازفتين، حين اثخنت جراحها بأسرجة الجلد والحبال القاسية وسياط الحوذي الهمجي.

ذات ظهيرة عبأ الحوذي الجشع بأكداس الطابوق المفخور في حوض العربة الخشبية وكانت الحمولة قاسية اكثر مما تتحملها قدرة الفرس، وكان الحوذي ينهال بسوطه على ردفي وظهر الفرس، وكانت الشمس تنتصب عمودية والسراب يتماوج في أحضان الشارع الاسفلتي الملتهب بنيران صيف شهر آب، وسعير العطش كان يتأجج في أوصال فضّة وكآن الطريق يمتد دون نهاية والحوذي ينهال بسياط النار عليها، بينما كانت فضّة تنوء تحت الاثقال التي انهك قواها وفجأةً انعطفت العربة وتعثرت الفرس ثم تهاوت على الرصيف فتناثر الطابوق على أطراف الرصيف وعلى إمتداد الشارع الاسفلتي. استشاط الحوذي غضباً وانهال شاتما وجالدا لفضة بسوطه.
فقفز الحوذي الى الارض غاضباً، ثم حاول رفعها الى الاعلى ولكن دون جدوى، فقد كسر ساق فضة.

فقام الحوذي بحل وثاق وسرج الفرس ودفع بالعربة جانباً بمحاذاة الرصيف.
ثم غادر المكان مسرعا الى بيته ورفس باب الدار بعصبية ودخل الى غرفته ومد يده الى خزانة الملابس حيث يخبئ سلاحه الناري هنالك ثم انصرف عائدا الى مكان الفجيعة وبحركة خاطفة سدد فوهة المسدس وسط جبهة فضّة وضغط على زناد المسدس بسبابته الخشنة ليفرغ رصاصة الرحمة في رأس الفرس.....

سال الدم الساخن من رأس الفرس وإنحدر الدم على اسفلت الشارع .

نظرت فضة بعينيها الى السماء مودعةً أرض العذاب والنكبات ثم أسدلت رموشها الجميلة .

 





 


 

free web counter