| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

سعد محمد موسى

 

 

الأثنين 18/4/ 2011                                                                                                   

 


حمار في ذاكرة مدينة

سعد محمد موسى
 
في حدائق- كولنك ووّد في  ملبورن الاستراليه وعلى مقربة  من سكني كنت ذات صباح بمحاذاة نهر يارا- حيث استوقفني حماركان يتطلع الى معجبيه من وراء أسوار مزرعته وهو يمضغ برتقالة والاطفال كانوا منهمكين باغرائه بالايس كريم وبالفاكهة وضحكاتهم تتعالى مشاطرين بهجة الحمار والذي يدعى ( ميكي) .

كان العشاق والازواج ينتظرون دورهم أيضا في الطابور لاخذ صوّر تذكارية مع الحمار وكأنة نجم سينمائي من مشاهير هوليود. تمتد مزرعة حمار (كولنك ووّد)  الخضراء الوديعة الشاسعة بعيدا الى ضفاف النهر. كان يلهو بفرح شديد ويقترب من صبايا ملبورن وهو يشم ويعانق صدورهن وافخاذهن وينام على اكتافهن كطفل ٍ.

في أيام السبت والاحد عادة ما يكون هنالك طابور يمتد من عدة أشخاص في انتظارالوصول الى ملامسة ومداعبة الحمار "ميكي " وكأنه مزاراً له مريديه, كنت واقفاً في الطابور في صباح الاحد الماضي وحين وصلت الى بوابة المزرعه وعلى مقربه من الحمار المدلل السعيد التقطت له صورة كأي معجب وتأملت عميقاً في عينيه حينها اخذت بي الذاكرة لاستحضار حمير مدينتي الناصريه.
لاسيما (حمارعويد الاعمى)  الذي اخترق سماء الذاكرة واختزل تضاريس الزمن, حمار أبيض هزيل موّشم بسخام الارصفه وجسده خارطة المدن التي غمرها التراب. واستحضرتني ايضاً وقفاتة القصيرة عند منعطفات الازقة والشوارع وهو يهش الذباب بذيله عن جراحات ظهره المدماة والتي احدثها السرج ووثاقه الجلدي القاسي.

اعتاد اهل المدينة على مشاهدة حمار عويد الاعمى وهو يجر بخزان طويل اخضر معبأ بالنفط يمخر عباب الشوارع والازقة الخرافية كسفينه متهالكه اتعبتها الرحلة الطويله ابتداءً من شارع 19 الى شارع عشرين والحبوبي والشرقية .وحسب خبرته الطويله في عمله اليومي الشاق كان يتعرف بسهوله على بوابات الزبائن ويعرف البراميل وصفائح النفط الفارغه يشمها احيانا ويرفسها احيانا اخرى حين يضايقوه أطفال المحلة النزقين كان يعرف العتبات والوجوه ايضا وحتى الاسماء وحين يتوقف يَهمّ الناس حاملين براميلهم  لملئها من صنبور خزان العربه.  عويد الاعمى عادة ما كان يتربع فوق مقدمة الخزان ويجلس على وسادة وسخه وهو ينادي بصوتة الاجش نفط ....نفط... نفط  متقاضياً الاجور  من الزبائن بعد ان يعبئوا ما يحتاجونه من وقود. لم اتخيل أية قوة وصبر يتحملها هذا المسكين حمار عويد لاسيما وهو يجر عربة أكبر من حجمه بثلاث مرات اضافة لحمله لسيده واحيانا يجلب عويد ابنه الصغير ذو الخمسة اعوام يجلسه بقربه فوق الخزان في رحلة النفط والمدينة الناعوريه. حمار عويد كان معروفاً في مدينة الناصرية لكن شهرته  مختلفة عن شهرة حمار كولنك وود. فالاول عرف بشقائه وعطائه وهزال جسده والثاني عرف كحمار محبوب ومدلل وسمين.

حمار عويد من شواخص المدينة التي تشبهه انه يعرف تأريخ المدينة واماكنها واناسها يخرج فجراً برحلته الابدية كسيزيف وصخرة القدر الى محطة تعبئة الوقود (البانزين خانة) ثم يعود متهالكاً كرب اسرة مسؤول عن عائلة كبيرة وفي ساعات الراحة القليلة التي يلقاها في زريبته اول طقس ينشده يطلق العنان لنهيقه في فضاء المدينة المنهمكه باعداد العشاء والوضوء قبل اذان المغرب بدقائق. جميع الناس اعتادوا سماع صوت حمار عويد الذي ينم عن ألم كبير وحنان وعشق للمدينة المنسية الغافية على جرح طويل وعميق يشطر المدينة نصفين وكأنه الفرات, بنهيقه المتكرر تماما وبنفس الوقت من كل مساء وكأنها دقات ساعة (بنج بن) اللندنية.

اِحدى المساءات الغريبة والتي خلت من عويل حمار عويد قد حملت قلقاً وتساؤلاً الى اهل المدينة القريبين من بيت عويد القديم واستغرب الناس اختفاء صوت المدينة الذي اعتاد الناس على سماعه وبات كتقليد يومي من سمعيات المدينة لاسيما في شارع عشرين وشارع 19 ولسنين طويلة.
 لقد جاء اذان المغرب في هذا المساء الموحش ولاول مرm يعلو سطوح البيوت ويخترق النوافذ ولم يسبقه شجن حمار المدينة.

بدافع الفضول والقلق عدوت بسرعة نحو بيت عويد في الشارع الاخر المحاذي لشارعنا لكي اعلم ما الذي حدث وحين اقترابي من بيت عويد, فجعت بمرأى عويد جالسا القرفصاء فوق عتبة داره الموحشه وهو يجهش ببكاء طويل ومرير كأغنية أبوذية شجية تشج أْجمة القصب او كتراتيل بديله ينشدها على روح رفيقه الغائب. حينها عرفت ان الحمار رحل الى الابد, رحل عنا وعن عائلة عويد الاعمى ,عن مدينة الناصريه الشقيه التي كانت تنام في عينيه رحل الى مدن سماويه أخرى عسى ان يجد فيها ثمة مزرعة خضراء ونعيم واطفال وايس كريم وصبايا يداعبن رموشه الحزينه .
 


مساء ملبورن في 16 ابريل 2011  
 


 

free web counter