| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سعد محمد موسى

 

 

 

الخميس 16/6/ 2011                                                                                                   

 

إغتيال الجسر الاخيرإ

سعد محمد موسى
 
بجناحيين ُمرعبيّن يخترق الأله مارس (إله الحرب والإنتقام) السماء وينفث أحشاؤه المسمومة فوق ارض اوروك النقية وحين تتصاعد لهب النار فوق بوابات المدينة المقدسة  ُيلقي إله الدمار بخناجره على أوصال أوردة جسد الفرات.

لقد كان أزيز الطائرات مستمراً دون توقف على مدار الاربعين يوما فوق سماء العراق حتى حصول الهجوم البري بعد أربعينية الهلاك.

غادرتُ مدينة الموصل بمركبة كانت تعجّ بالجنود وكان بعضهم مصاباً بجروح من جراء القصف، وبإعجوبة وصل الباص الى العاصمة.

كل الطرقات كانت تحت لهيب طائرات التحالف في بداية (عاصفة الصحراء) حيث كان كل شيء هدفاً للفناء.

وصلتُ بغداد ومكثت فيها ليلة في أحد فنادق الكاظمية، وكان جميع النزلاء قد تجمعوا حول أضواء الشموع وهم يترقبون بقلق الاخبار عبر موجات المذياع ، فلم تهدأ العاصمة ولا حتى ساعة واحدة من انفجارات الصواريخ وقنابل الطائرات، كانت بغداد تبدو وكأنها روما بعد ان أحرقها نيرون فباتت وكأنها مستوطنة أشباح.

في صباح اليوم التالي ذهبت الى كراج النهضة وتكدستُ مع عشرات الركاب في باص متوجه جنوباً إلى الناصرية وقد سلك سائق المركبة طرقاً ترابية بعيدة عن الشارع العام خشية ان يكون الباص هدفاً للطائرات الحربية وبشق الانفس وصلت مدينتي.

وقد شاهت المعامل والجسور مدمرة ، وكان أعمق الاوجاع إيغالاً في نفسي مشهدٌ لجسر الناصرية الكبير الذي يربط شطريّ المدينة ، شاهدت هذا الجسر محطماً ومنحنياً مثل أم تلفظ أنفاسها الاخيرة وهي تتشبث ببقايا الحياة وتأبى أن تودع وجوه صغارها، جسر المدينة ووريدها الاخضر هو معبر العشاق الى الضفتين فطالما أحتضن ابجديات الحب ومفردات المدينة.

في ظهيرة مشمسة حيث كان المئات من الناس يحاولون العبور الى الجهتين المتعاكستين، حينها هاجت طائرة مسعورة من قواعد الخليج العربي ونفثت بغلّها ونيرانها فوق الجسر والقت ببراكين الموت وعناقيد الشر فوق جسر السلام ، فتشظت الاجساد في الفراغ وتطايرت قرطاسية الاطفال مع عباءات النساء مثل خيام سوداء في سماء الفجيعة، وتمزقت العباءات مع قصائد العشاق ولعب الاطفال، ثم هوت الاجساد اشلاءً على سطح الماء وفوق الطين وعلى ضفتيّ النهر.

الفرات الذي كان شاهداً للنكبات ومواكب الاحزان والندب ودم المدينة المهدورعاشوراء اخرى يباح، وكان الرب والنهر قد ولدا توأمين.

******

الجسر الاخير المتبقي في اطراف المدينة الجريحة والذي يربط بين صوبيّها كان المعبر الوحيد المهجور ، وكان الجميع يتجنب المرور قرب هذا الجسر خشية أن تلقى القنابل فوقة في اي لحظة.

كان الجسر يرتجف فوق طوافاته العائمة على الماء وهو يشعر برحيله القريب وكأنه يواسي نكبته المتوقعة والقريبة بحلمٍ يحلق فيه الى سماء مرصعة بالنجوم بدون دخان ولا طائرات موت فوق فرات يغفو في احضان قمر.

كان هذا الجسر يُستعمل لعبور الماشية والسابلة وهو الهدف الأخير المتوقع قصفه من قبل قوات التحالف في حرب الخليج الأولى لانه كان جسراً بسيطاً وصغيراً لا يتسع لعبور الجحافل العسكرية او المدرعات لكنه في الاخير هدف لانه جسر ليس إلا .

******

كانت نرجس تسكن الصوب الاخر من النهر..
حبيبتي يا وجع الضفة البعيدة
وأنت تنسجين بخيوط الشوق سجادة عرس
كان قلبي يهفو اليك ويغفو كطفلٍ
في ارجوحةٍ تتنهد بين نخلتين
وعلى اسوارحديقتك يزهو البنفسج
ومن اهدابك يترنح الشعر ثملاً

يا ألقاً.. يولد منك العشق دافئا واليك يعود.


******

قررت أن أعبرَ الجسر رغم المخاطر "كيف لك ان تكون عاشقاً دون ان تكون مغامراً ومجنوناً"

فدفعتني براكين الشوق ان أغامر بالعبور، تقربت من رأس الجسر والناس ُتحدق اليّ بغرابة وبفضول والبعض ظنّ انيّ معتوهاً فشعرت ان هذا الجسر هو الشريان الذي يربط بين نبضيّن، بين قلبين، وبين شفتيّن ،ولقاءيّن، تأملت الضفة البعيدة واطلقت العنان لساقيّ في الريح وكأني أطير فوق النهر وفوق الجسر نسيت الخوف وتجاهلت الموت والحرب وانا أتخيل أول موعد وأول قبلة مع نرجس، اقتربت من نخلة الضفة الاخرى وحين وطأت قدمايّ نهاية الجسر شعرت إنيّ أعبر الى بلد اخر .

حينها انحدر الشوق الى شارع ضيق وحمّتُ حول الدار كحمامةٍ ظمىءّ وحين أدركتْ نرجس بوجودي ُصدمتْ بنشوة الحضور فتأججت جمرة اللوعة بحناياها وبرحت الدار ثم تتبعت روحي خطاها كظلٍ محموم حتى استوقفتنا النخلة الاولى فهامّ الولّه بذاكرة القلب لاّول لقاء وأول قبلة وأول انعتاق ولرغبات دفينة فوق تضاريس اللّذة وتحت سماوات العشق الاولى ،سبحتْ أرواحنا بشطأن بعضها تعانقنا وبكينا وكان الهمس حضوره أعلى من صوت الانفجارات ورائحة النرجس تطغي على رائحة الموت ، وكانت النسمات بين سعيفات النخلة مثل الحان المزامير التي تنهمر من بساتين الفرات، كنا نعرف ان هذا اللقاء هو الاخير وكنا نعرف ان هذه الحرب خاسرة وحينها ستتفجر انتفاضة الكرامة المجروحة وأعرف انه سوف تأخذني احدى الضفتين ضفة القتل او ضفة النفيّ، عانقت النرجس وافترقنا بوجع الوداع كانت القبلة الاخيرة والعبور الاخير لجسر أخير اغتيل بعد ساعتين من عبوري الى الضفة الاخرى.


حزيران 2011
ملبورن- استراليا

free web counter