| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سعد محمد موسى

 

 

 

                                                                            الأحد 10/6/ 2012



الابحار نحو ضفاف المدن المنسية

نص ولوحة : سعد محمد موسى

في باخرةٍ قديمة لنقل البضائع والمسافرين مابين الامارات والبصرة .. أبحرت في سفينة تدعى، (الفنار) في عام 2004، وبعد سقوط صنم الديكتاتور صدام. كانت الرحلة من قارة إستراليا الى ولاية دبي ثم تبعها إنتظار ليومين في فندق(الجوهرة) الكائن في مركز دبي. ولم يكن حينها اي طيران جوي يربط العراق بالعالم الاخر..

حتى تم الاعلان عن أولى رحلة السفينة من ميناء راشد في الامارت الى ميناء أبو فلوس في البصرة - جنوب العراق. صعدت الى السفينة وأقمت بكابينة صغيرة .. كان كل شيء مختلف هذا المساء. بعد تلك السنوات التي قضيتها بعيداً عن الوطن.

كانت الاغاني العراقية حينها تنساب من مكبرات الصوت وهي تصدح في أنحاء السفينة، والتي كانت تعيد الذاكرة الى ضفاف بعيدة.

ثم دعى طاقم السفينة بعد ذلك الركاب الى دعوة لتناول العشاء وباطباق عراقية . وأثناء حفلة العشاء التقيت ببعض الاصدقاء من الذين تفاجأت بوجودهم في كازينو السفينة ..أتذكر إنيّ التقيتهم أخر مرة في مخيم رفحاء قبل سفرهم الى اوربا أو أمريكا او بلدان اخرى.

قاربت الساعة نحو الثانية صباحاً حينها ذهبت الى كابينتي، حاولت الاستسلام الى نوم متقطع. لم استطع النوم . صعدت الى طابق السفينة العلوي كانت نسائم الخليج دافئة . تأملت بكرنفال الامواج، أثارت إنتباهي حركة غريبة في الماء فتربصت في مياه الخليج ، حينها قفز دولفين من أعماق الخليج وكأنه يراقص ضوء القمر ويحتفي بالسفينة التي كانت تولج عباب الخليج .

وقد كانت الباخرة تتهاوى ببطء ثم أطلق الدولفين العنان لضحكته السعيده ثم إختفى بعيداً في كثبان الماء .
كنت أحرث في ذاكرتي بحقل الماء وانا استعيد صدى حكايات وعشق قديم. استغرقت الرحلة أكثر من يومين..
وأثناء هذا الابحار.

تذكرت نزوحي الاخير عندما حاصره الرعب والموت أثناء قمع إنتفاضة آذار عام 1990. فكانت قذائف الهاونات ونيران المدافع تدك بمدينة الناصرية، ثم إجتياح جيش صدام المغولي الى المدينة وضواحيها. وعلى أثر هذا الجحيم نزحت جنوبا لتبدأ حينها أيام المحنة والعذاب والجوع والنوم بقلق في مسجد كائن في قضاء (سوق الشيوخ).

وبعدها نزوحي مرة أخرى الى معسكر إيواء اللاجئيين الذي أقامته قوات التحالف في منطقة سفوان الحدود الفاصلة ما بين العراق والكويت. ثم النزوح الاخير الى مخيم رفحاء الصحراوي الكبير.

تأملت من فوق سطح السفينة تلك السلاسل الجبلية الممتدة على طول ضفاف الساحل الفارسي ..
ثم إستحضرت أيضاً نهر الفرات بحكمته وسحره .. وجراحاته الابديه وهو كان يشهد ومنذ الازل فجائع بلاد الرافدين ..

تذكرت الناس المهمشين والمعذبين في وطنٍ بات كفريسةٍ ينهشها الجميع من الاغراب والاعراب وأهل الدار ، وتذكرت أيضاً جسور دجلة والفرات المحطمة أثناء حرب الخليج الاولى .. ثم إنحنت ذاكرتي بنزيفها الابديّ على ضفاف الجسر الاخير المتبقي في اطراف مدينة الناصرية الجريحة والذي كان يربط بين صوبيّها كان المعبر الوحيد المهجور ، وكان الجميع يتجنب المرور قرب هذا الجسر خشية أن تلقى قنابل الطائرات الحربية فوقة وفي اي لحظة..

كان الجسر يرتجف فوق طوافاته العائمة على الماء وهو يشعر برحيله ويواسي ذاته بحلم قريب ويلتحف سماءً مرصعة بنجوم دون دخان
دخان الحروب والهلاك .
كان هذا الجسرُ يستعمل لعبور الماشية والسابلة، وهو الهدف الأخير المتوقع قصفه من قبل قوات التحالف في حرب الخليج الأولى لانه كان جسراً بسيطاً وصغيراً لا يتسع لعبور الجحافل العسكرية أو المدرعات.
وتسللت ما بين تضاريس الذاكرة مشاهد الموت والحروب والتحدي والامل والياأس .. وتيقظ أيضاَ حنين الى إمراءة البنفسج..

كانت نرجس تسكن الصوب الاخر من النهر
حبيبتي يا وجع الضفة البعيدة
وأنت تنسجين بخيوط الشوق سجادة عرس

كان قلبي يهفو اليك ويغفو كطفلٍ

في ارجوحةٍ تتنهد بين نخلتين
وعلى اسوار حديقتك يزهو البنفسج
ومن اهدابك يترنح الشعر ثملاً
يا ألقا.. يولد منك العشق دافئا واليك يعود.

******
ثم أرست سفينة الفنار على أحدى أرصفة ميناء (أبو فلوس) أخيراً ، حينها أفاقتني رائحة غرين شط العرب التي تسللت عبر نافذة السفينة الدائرية الصغيرة المطلة على الشاطىء. حينها علمت إنيّ قد وصلت الى مدينة البصرة. تطلعت من خلال النافذة الصغيرة ورأيت حزم قصب البردي العائمة على ضفاف شط العرب والمشاحيف التي تدور حول السفينة إبتهاجاً بوصول اول رحلات المغتربين... وقد دمعت مآقي العيون ونحن نشاهد الاهل والاصدقاء والذين أضناهم الانتظار وهم يستقبلون أحبتهم المنفيين ويلوّحون بأياديهم إحتفاءاً بقدوم السفينة.

في تلك الليلة التي حلقت فيها الاحلام بعد أن غادرت نوافذها وسبحت في فضاءاتِ الذاكرةِ، مثل إيقونة عمدها "السادن" في إحدى معابد "كاما سوترا" فاستحال الحنين مثل بلبل ٍ، حلق بأجنحةٍ وردية، وثمل ببقايا الخمرة التي تعتقت في حضرة التين.
ثم أخذ البلبل... يرتل بأناشيده..
قد تمر كل الليالي دون ان ُتخلف في الذاكرةِ وشمٍ
أو تمسَ وترَ الروح،
لكن هذه الليلة التي لن تشبه سواها
يبوح العاشق ترنيماته،
إشتهاءاته دون أية مسافات....

بين الرغبة والحلم..
بين الاغنية والنافذة ..
في تلك الليلة كان هوس الحبيب.. يخضب ثغرك بالاشواق المحمومة،
ويعجُّ الوجد ُ بجمراته في ثناياك تائهاً بين المدارات وشبقِ العشق، ثم يتناسل

لاهثاً عبر المحطات الناعسة بأنفاسٍ ذابت بنشوةِ الزنابق والندى الذي يتألق فوق بهاء المرمر،
يا سحر القداس..
وسطوة الحضور..
يامن سلمت َ راياتك
لشهوةِ المهادنة
وحوار الروح والجسد..
شرّبني هذا الليل نديماً حتى النهايات
وكل الأشياء إنشدتّ لهذا الوسن اللذيذ،
ليس هناك سوى صمت ٍ، أحيانا يوشي بهمساتٍ تتصاعد عبر فضاءاتِ اللوعة.
وكل السدود... إنهارت بعنفوانِ السيل وإنعتاق الامواج الوحشية
ونزفت الغيمة أحشائها فوق الزهور البرية
لم تعد هناك إتجاهات.
قد تهشمت البوصلة,وضاع ربان السفينة
في هذا التيه
وخلعتْ الرغبات ُ وشاحَ التوجس، وأحترق الوجد بألقِ اللحظات على أسرةِ البنفسج،
وتوجت النجمة ، باكليلِ الضوء.
فكانت ليلةٍ لن تعد تشبه سواها
 

 





 


 

free web counter