| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صباح محسن جاسم

 

 

 

الأحد 9/3/ 2008



أقصوصة

أحلى ما في ضحكتها

صباح محسن جاسم

تمانع أمي المقعدة منذ زمن طواحين الهواء مرورا بأشداق الشعراء وصوْلات العَسَس زمن الفرسان الأفذاذ أمثال سيف بن ذي يزن والزير سالم وحمزة البهلوان ، من أن تمتطي كرسيها الطبي الخاص ، متحججة ساعة ببرودة في الجو أو سخونة في الهواء، متلفعة بشال رأسها الذي تماهى ولون شعرها بضفيرتيه القصيرتين الناصعتي البياض.
أقبَل كل عنادها عدا رفضها أن تضع طقم أسنانها الاصطناعية رغم كل ما اعرضه عليها من المحفزات آخرها يوم أمس وأنا أتوسل:
"مائة ألف دينار ، فقط ما أن تضعي طقم أسنانك وتجربي أن تأكلي وجبة طعامك !"
تضحك معاندة فأنكص محبطا لوسع ابتسامتها الرافضة رفضا مطلقا مواسيا نفسي إن لا بأس طالما ابتسامة وجهها بذلك الكرم.
أما سر عنادها فلأنها تشعر بالتقيؤ ما أن تضع طقم الأسنان في جوف فمها.. أو ربما لشعور من رهاب تجاه كل ما هو غريب عن الجسد فقد أمضت حياتها والجيران يقسمون برأسها أنهم حتى لم يروا وجهها بسبب من تحجبها . وهي فوق كل تحفظها وحجابها تزيد في لبس ما يعرف بـ (البوشي) تلك قصاصة القماش المخملية السوداء حريرية الملمس بقصد حجب الوجه من نظرات الفضوليين.
ولما كانت حبيسة الدار أغلب وقتها وطوال سنوات عمرها الذي تجاوز السبعين عاما فقد أصابها ما أصابها من أمراض فرط السمنة وسوفان المفاصل وشيء من الضغط وآخر من السكّر .. الخ.
لكنها أمي بكل ما فيها وما تعاني منه.
اليوم الثامن من آذار.. وهي تعلم جيدا ما تعنيه هذه المناسبة بالنسبة لي.
جهزت لها كرسيها الطبي المتكاسل زمنا ، حتى تفاجأت ومحاولتي إيجاد متسعا للكرسي قرب فراشها. حاولت الاعتراض. أقنعتها بمفاجأة تنتظرها.
سرعان ما فتح الأولاد الأبواب الداخلية من غرفتها عبورا للرواق ، ليستقبلنا فناء الدار تحت فيء شجرة السدر التي تمايلت أغصانها الغنية بالثمار لنسمات آذار الهابّة من جهة النهر.
لم تمض لحظات حتى شرع حفيدها يهز فرعي شجرة السدر فتنزل الكرات الملونة كزخات مطر وسط اندهاشها وصياحها الطفولي فتسارع تفترش شال رأسها طمعا بلم أكبر كمية من الثمار.
كان حضنها قد امتلأ أو كاد بثمار تلونت بلون الشفق . وأمام إغراء لا يقاوم ، نادت على حفيدتها الصغيرة تطلب منها جلب طقم الأسنان.
كنت مندهشا وأنا أفكر بصوت عال : كل المال لم يحرك ساكنا كهذا!
تلك كانت طريقة مبدعة للاغتسال بنسيم آذار والتطهر بتناول تلك الكرات الذهبية من الثمار.. وذكرى يوم أمسكت بي أمي بقبضة كفها الحديدية لتقتص من مشاكستي لأختي الكبرى فيما راحت تقضم لي أذني بأسنانها التي لم تعد بالدائمية.
كنت وما أزال أفتش عن ذلك الناب الحاد المغلف بلبوسه الذهبي فأوشك سماع صراخي بأعلى صوتي وسط ضحكات أمي وفضولي المتردد بحثا عن شيء كم أفتقد صداقته الآن ، بين زمن نبذته كان يعض علي بنواجذه وآخر أبحث عنه في طقم أسنان منسي يتوق معي لحراك !
 


 

Counters