نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صباح كنجي

 

 

 

 

الجمعة 24 / 2 / 2006

 

 

 

احياء واموات ... الحرب ُ في بيتنا !


صباح كنجي

قبل أيام معدودة طلب مني السيد غالب العاني المشاركه بوفد صغير لزيارة قبر المرحوم حسن جباوي الطبيب العراقي المتزوج من ألمانية ، وكالعادة كنا في الموعد المحدد نفس المجموعة التي تزور القبور بين حين وآخر .

كان الجديد في الأمر بالنسبة لي أني لم اتعرف على المرحوم جباوي ولا زوجته ومعرفتي بهم لا تتعدى المشاركة في مظاهرة ضد زمرة من البعثيين وعملاء السفارة العراقية في عهد ابن الأتان الذي لا أود تعكير مزاجكم بذكر اسمه الكريه ، وأفضل أن اسميه ابن الأتان ، أي قبل سقوط النظام.

المهم كان المرحوم جباوي وزوجته الألمانية معنا وكنا لا نتعدى العشرين شخصا ً في مواجهة حشد كبير من اعوان النظام البعثي من العراقيين والمغاربة والفلسطينيين والأردنيين والمصريين وغيرهم من أجاويد العرب ممن يتسا بقون لتأدية دورهم القومي بعد قبض الأجر من السفارة التي كانت تدفع لهم بلا حساب ، في تلك الأيام السوداء تعرفت على المرحوم حسن ولم يكن حينها أثناء المظاهرة مجالا ً للحديث بيننا ومضت الأيام وتوفي حسن ، وبقيت ذكراه عالقة في ذهني، مات الرجل ، واقيمت له تعزية في مدينة هامبورك حضرها عدد من اصدقائه ومحبيه وكانت زوجته السيدة بركيته تستقبل وتودع العراقيين وتتحدث معهم بالعربيه ولم تكن لدي الفرصة للأستفسار عن جباوي لكثرة الأصدقاء المتواجدين ودخولنا في نقاشات جانبية شأن أي تجمع عراقي تطغي عليه النقاشات السياسية التي لا يكفيها الزمن فينفض الشمل ولا ينتهي النقاش .

في الطريق المؤدي إلى مدينة ( نو منستر) التي تبعد حوالي الأربعين كيلو مترا عن هامبورك حاولت أن استثمر المدة التي تستغرقها العربة بالطلب من الدكتور غالب العاني أن يحدثنا عن المرحوم حسن جباوي لأنه قد زاملة مدة طويلة فقال العاني :

كان المرحوم طبيبا ً جاء إلى المانيا عام 1959 وساهم في تشكيل الجمعيات الطلابيه وكان نشيطا ً في مجالات كثيرة وأسهب في الحديث عن صفاته وتعلقه بالعراق واحتفاضه بكل الصفات العراقية الأصيلة من قيم وعادات ، كنت احاول أن التقط كلمات غالب من خلال التركيز في الاستماع لأن السيد ستار الوندي الذي يرافقنا في هذه المهمة كان قد تهيأ لتوثيق شريط فيديو عن الزيارة وكان قد طلب منا أن نتحدث عن جباوي ولو لدقائق فاعتذرت له لأني لااملك أية معلومات عنه .
كان العاني يواصل حديثه السلس بلا تردد ويتوقف أحيانا ً عن الحديث محاولا ً التركيز على الطريق المزدحم بالسيارات التي تنطلق مسرعة لتتجاوزنا رغم برودة الجو والجليد الذي ينتشر في كافة اصقاع أوربا في هذه الأيام، فأستغلها الشيخ صفاء للتعقيب على ما ورد في حديث العاني مؤكدا ً انه قد سمع عكس هذا التقييم بخصوص جباوي وهناك من اكد له في هامبورك بأن جباوي لا صله له بالعراق والعراقيين وانه منذ زواجه من سيدة المانيه قد غير كل طباعه وأصبح لا يمت بصلة للعراق لا من بعيد ولا من قريب وإن ما يسمعه الآن من العاني قد خفف من الأمر وحسن الصورة ، كان الشيخ صفاء وهو رجل دين متنور ومعروف في الوسط العراقي قد تهيأ لأداء دوره في تلاوة القرآن وقراءة صورة الفاتحه على المرحوم وهي مهمة يؤديها في كافة الزيارات للقبور بلا تردد ، استمر النقاش في بقية الوقت من الطريق وساهم ستار الوندي في تأكيد الصورة التي اعطاها العاني عن جباوي وكنت استمع لهم متسائلا ً مع نفسي .
ما الهدف من تشويه سمعة الرجل وتبديل خصاله ، ما الحكمة في القسوة عليه بعد مماته؟ من أين جاءت كل هذه التشوهات في الشخصيه العراقية التي لا يسلم منها سالم؟ ومع هذه الأسئله حاولت أن امنح عقلي فرصة للمرونة في التعامل مع هذه الظاهرة التي تنتشر بين العراقيين والتي تحدث عنها الوردي وعللها بأزدواجية الشخصية ونزعة البداوة التي تتجذر في الشخصية العراقية وقلت لأدع بقية الفصل يسري متخذا موقف المتابع للوضع والنقاش، وصلنا مدينة ( نومنستر) كان الجو باردا ً ورذاذ من المطر يلاطف وجوهنا ويرطبها ، استقبلتنا زوجة المرحوم بالترحاب مكررة الشكر على زيارتنا كانت تتكلم العربية بطلاقة وبشكل فصيح قلت مع نفسي هذا أول دليل على تأثير المرحوم الأيجابي ولا يحتاج إلى حديث من غالب أو ستار ، دخلنا الدار واجهتنا لوحات مخطوطة بالعربية موزعة على الجدران بشكل يوحي للزائر وكانه في بيت عراقي داخل الوطن ، وكان دليلا ً آخر على عراقية جباوي.

في صالة الأستقبال توزعت الكتب بين دفات رفوف المكتبة المزخرفة بنقوش شرقيه كأننا في احد بيوت دمشق القديمه ، بعد دقائق قدمت لنا السيدة الألمانيه القهوه العربيه وبعدها دعتنا إلى طاولة المطبخ لتناول الكباب والطرشي العراقي مؤكدة إن زوجها المرحوم كان يتعلق بهذه الأكلات طيلة السنين الماضية ، و كل شيء كان من حولنا عراقي حتى زوجته كانت عراقيه أكثر من الذي كان الشيخ صفاء قد استمع إلى احاديثه في فترة سابقة ونقل تلك الأنطباعات غير الصحيحة عنه .
فتساءلت مع نفسي أي انسان كنت يا جباوي ؟ أية قدرات هذه التي حولتَ بها الألمانية إلى عراقية؟ كم كنت اصيلا ً كي تحافظ طيلة هذا الوقت على هذه الخصال؟ كم بذلت من جهد كي تبقى كما كنت منذ أن غادرت الوطن في عام 1959؟ وكنت ُ منشغلا ً في ترتيب المزيد من الأسئلة مع نفسي وإنتقيت منها لقطة احببت ُ أن اعرفها عنه فقلت لزوجته كيف تعايش حسن مع الحروب التي مرت على العراق؟!
تنهدت المسكينه وقالت كان يقضي ساعات طويله وهو يتابع اخبار العراق كان يجلس لوحده أمام التلفزيون وبعد ساعات ينزل والدموع في عينيه وعلى خديه ، أما في الحرب الأخيرة وأثناء قصف بغداد بالصواريخ فلم يكن يشاهد التلفزيون ويتابع الأحداث فقط وانما كنت اشعر إن الحرب دائرة في بيتنا!
اجل كانت الحرب دائرة في بيتنا ... قالتها السيدة الألمانيه الحرب في بيتنا، وكررتُ بعفوية جملتها التي اختصرت كل شيء كنت أود معرفته عن جباوي ، الحرب في بيتنا، رددت عبارتها ولجأت ُ للصمت أمام هذا الأختصار الذي يجسد ارتباط العراقي حسن جباوي بوطنه الذي كان سببا ً لمفارقته السريعة للحياة ، وحينما وقفنا أمام قبره طلبت منا مساعدتها في تحقيق امنيته الأخيرة بجلب شيئا ً من تراب العراق لوضعه على رفاته فوعدناها بتحقيق هذه الأمنية في اقرب فرصة ممكنة.
كان جباوي عراقيا ً حاملا ً للقيم ، وحامل القيم لا يموت .