| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صباح كنجي

 

 

 

الجمعة 15/1/ 2010



شجاعة مجهول  *

صباح كنجي

انطلقنا نتوجه إلى قرية (بانيا تعل) الصغيرة التي يسكنها عدد قليل العوائل بينهم عائلة المدعو (محو قشولي) (1)وهو من الشخصيات الظريفة في المنطقة وعرف عنه رغم إصابته بمرض جلدي مزمن في وجههِ حبه الشديد للحديث المتواصل بلا انقطاع، إذ كانت لديه الإمكانية للانتقال من حديث لآخر لساعاتٍ طويلة دون فسح المجال لأحدٍ بالمشاركة في الحوار.. لم يكن باستطاعة احد انتزاع الفرصة منه للحديث إلاّ بيبو الخورزاني (2) الذي كان يضغط على يد محو بين الحين والآخر ويقول له بحزم:
ـ قف انتهت فترة حديثك.. الآن عليكَ أن تسمعني.. فقط بهذه الطريقة كان يمكن للمرء أن يتحدث في حضرة محو القشولي الذي ذاع صيته بين القرى الممتدة بين اتروش و مصيف سواره توكة..
الآن نقتربُ من الدخول إلى القرية المبعثرة بيوتها حول المدرسة.. كنا نسير على شكل رتل يفصل بين الواحد والآخر أكثر من ثلاثين متراً تحسباً لأية حالة طارئة قد نواجهها بحكم وقوع البيوت في أطراف الشارع العسكري الذي كان ذات يوم موقعاً للواءٍ يُعسكر في قرية بلمباص القريبة.. كنتُ قد سمعتُ الكثير من القصص والحكايات عن محو قشولي لكنني لم التقي به.. شاهدته ذات مرة يراجع طبيبنا إذ مَرَّ بنا وتجاوزنا دون توقف كأنه واحد من الأنصار..
بالقرب من المدرسة شاهدنا مجموعة من الرجال على شكل حلقة يتوسطها محو قشولي.. تقدمنا نحوهم.. حييناهم.. كان الجميع منهمكين في سماع ما يرويهِ محو لهم بانتباهٍ وعلامات الجدية والحزن بادية عليهم... استنتجتُ من خلال ردهم السريع على تحيتنا وهم يواصلون الإصغاء غير مكترثين بوجودنا إنهم يواجهون موقفاً خاصاً قد يكون في الأمر ما لا نعرفهُ لذلكَ طلبتُ من الأنصار الانتشار والانتظار لحين استكمال محو لحديثه المهم مع المجموعة التي تحيط به... وانضممت إليهم استمعُ بجدية لما كان يروى..
قال محو مواصلا ً حديثه:
ـ شجاعتهُ لا تقارن.. دائماً كان يسير في المقدمةِ.. في الليل لا نطمأن إلاّ إذا كان معنا.. أما في النهار فتراهُ ينتقلُ من زاوية لأخرى، لا يتعبُ ولا يكلُ من الحراسة.. كان بإمكاننا أن نطمأن لحراسته وننام بهدوءٍ.. وعند حدوث أي طارئ يوقظنا بأسرع ما يكون.. هكذا كان دائماً، في أصعب الظروف لا يبارحنا، لا يهتمُ لقصف المدفعية أو صوت الرصاص..
استمر محو في حديثة يعددُ مناقبهُ وصفاتهُ وهو يرددُ بألمٍ وحزنٍ لقد فارقنا للأسف من ذلك الوقت للأبد.. كان يوما ًحزينا ً بل في غاية الحزن حينما افتقدناهُ وخسرناهُ.. لقد ودعته كابن من أبنائي.. حزني عليه لا يوصف.. وهم يثنون على ما يقوله ويزيدون في القول والوصف بالتأكيد على جرأته وشجاعته وإقدامه على مهاجمة الأعداء والخصوم بلا ترددٍ كأنه لا يعرف الخوف.. لا بل أن الخوف مشطوب من قاموسه..
تيقنتُ أن محو قشولي ومن معه، يتحدثون بهذه الأوصاف، عن احد الأنصار من البيشمركة، واستنتجتُ، لربما يكون قد أستشهد حديثاً، ونحن لا ندري، مما حفزني للاستفسار، بعد أن طال الحديث، دون أن أدرك عمَن يتحدثون.
كنتُ انوي أن استفسر منهم عن الفقيد واسمه واتهيأ لتقديم التعازي لهم.. لكنّ احدهم حدسَ ما ينتابني من حيرةٍ .. هَمَسَ لي بهدوءٍ ليكشف لي عن المصاب الجلل.. محو يتحدثُ عن كلبه الأسود الذي مات قبل يومين!!..
 

(1) محو اسم التصغير في اللغة الكردية لمحمد
(2)
بيبو الخورزاني هو النصير الفقيد خورشيد (أبو حازم) من خوزان غيب في مرحلة الأنفال


* مقتطف من كتاب يعده الكاتب بعنوان حكايا الأنصار والجبل


 

 

free web counter