| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سلام إبراهيم كبة

 

 

 

الثلاثاء 21/9/ 2010

 

الثقافة العراقية لا زالت محاصرة!

سلام  كبة

اهتراءات الحياة السياسية التي عاشها العراق همشّت الثقافة العراقية والمبدعين الحقيقيين واشترت ضمائر كتاب آخرين واقصت العلماء والأدباء والفنانين الرائعين،وانحدر مستوى الثقافة التي بناها المئات من المثقفين لأجيال الى ادنى مستوياتها في العقود الأربعة الماضية ولحد الآن.وقد ابتدأت محاولات غسل ذاكرة الشعب الوطنية بالجريمة الأساس في حرق المكتبة الوطنية - الذاكرة العلمية للشعب ومصدره في البحث العلمي ومثلها كل مكتبات العراق ومراكزه البحثية المعرفية من مختبرات ومصانع بحوث.كانت ارشيفات معظم الوزارات في ظل الحكم العثماني للعراق(1638-1918)وعهد الانتداب البريطاني(1920-1932)والجمهورية العراقية(1958- 2003)محفوظة في المكتبة الوطنية ودائرة المحفوظات(نفس المبنى).وتواصلت محاولات غسل ذاكرة الشعب مع كنوزنا وأرصدتنا الموجودة في بنوك العراق المركزي والمصارف المهمة الأخرى،ومع المعامل والمصانع ومواقع الانتاج المدنية وركائزنا الكبرى من كهرباء وجسور وغيرهما،ومطابع الكتب المدرسية ودفاتر أطفالنا وقرطاسيتهم وقاعات العرض المسرحية والسينمائية وقاعات الموسيقى والباليه والفنون التشكيلية،وثروة شارع المتنبي،وثروة المتاحف التي ليس لها ثمن يقابلها مطلقا،ثروة الإنسانية وتراثها الأول الحافل بقراءة تاريخنا ونور حضارته،ليباع العراق الإنسان والعراق الوطن في سوق النخاسة المحلي والأجنبي،وليختلط غسيل الاموال بغسيل ذاكرة الشعب العراقي الوطنية.

هكذا تتواصل عمليات سرقة وتهريب الآثار بالتنسيق بين جهات داخلية وشبكات دولية،وتقوم العصابات باستخراج الآثار من المواقع وبيعها الى وسطاء داخل البلاد قبل تهريبها وبيعها بأسعار خيالية،تناغما مع ما يريده المحررون فصولا جديدة في طمس الذاكرة العراقية وتحويل مهد الحضارة الى امة بلا ذاكرة!الى جانب تعرض النصب واللوحات الفنية والموروث العمراني ذات القيمة المعمارية الرفيعة في بغداد والمدن العراقية الى مخاطر الانهيار الذي يهددها،من اضرار وتصدعات وشقوق وصدأ،نتيجة الانفجارات والاعمال التخريبية والاهمال!

قبل التاسع من نيسان 2003 ازدهر التعامل البيروقراطي غير الودي للحكومات العراقية مع الادباء والفنانين وعموم المثقفين،الا ان ثورة 14 تموز 1958 فتحت للادب والفن العراقي آفاقا لم يطوف بها من قبل،ليس على صعيد الاطلاع على الكنوز العالمية فحسب وانما في ما اتاحت من فرص للتعبير الحر والتشكل الجديد.ومنذ انقلاب رمضان الاسود 1963 تسلط المجرمون والقتلة على الثقافة العراقية عندما لم توفر سياسات النظام الدكتاتوري السابق فرصا حقيقية لنمو ثقافة حرة ومنفتحة يعبر من خلالها المثقف عن عالمه الابداعي وينمي فرص تطوير المواهب والعقول الشابة الطامحة الى التعبير عن عالمها الفكري والاخلاقي والاجتماعي.كانت عوالم الادب والفكر والفنون والثقافة بشتى اشكالها فرصة للتشويه والالزام والتسفيه طيلة العقود الماضية مما اورث مجتمعنا تقاليد مريضة وغير صحية طغت على التقاليد الانسانية والاصيلة للثقافة والفنون والفكر والابداع والاصالة في عراقنا.

الثقافة الانسانية بوجه عام في العراق تراجعت بفعل الكارثة السياسية والاجتمااقتصادية التي اتسمت بأسوأ ما في القاموس الظلامي والاستبدادي والتكفيري والقمعي من ممارسات فعلية بسبب التمادي في الاستهتار واللاابالية والازمات السياسية المتتالية،وتردي الخدمات العامة ونمو التضخم الاقتصادي وانتشار البطالة والولاءات العصبوية الى جانب حروب النظام الصدامي البائد وعسكرة المجتمع.وتلقى الرواج عند الحثالات الطبقية دعوات بعض المراجع الدينية الى عدم الوقوع في فخ الرياضة واقامة الاحتفالات حول مباريات كرة القدم وعدم الوقوع في فخ الانترنيت ايضا،وقبلها عدم الوقوع في حبائل الفن والموسيقى والباليه والمسرح والسينما والنحت والرسم التشكيلي فكلها من وحي الشيطان والزندقة.ولم يستطع الخطاب السياسي من عقر الفوضى والانفلات بل نجح في قمع الخطاب الثقافي الذي لم يستطع بدوره الابتعاد عن الشبهات في انطوائه على اختصاصه،وقد اطلقت التناحرات والمحاصصات والامعان بسياسة التهميش والمصادرة واشاعة ظلمة التخلف..اطلقت النار على الحرية الشخصية للمواطن العراقي،بقصد ارهابه وحرمانه من الحصول على الحاجات الروحية الثقافية مما تبقى من خطابات الجمال والابداع التي تعالج همومه وتداوي جراحاته،ويبقيه اسير الاستلاب والقمع الروحي النفسي والفكري الثقافي،فيضعه خارج دائرة عصرنا وتطوراته الانسانية!

لا يمكن فهم الادب والفن بشكل صحيح اذا انطلق المرء من قوانين تطورهما الداخلية وحدها،والخوف من المجهول هو ما يشغل ويربك الادباء الشباب والفنانون الناشئون،والمتفائلون والمتشائمون يتفقون على مجهولية الغد بعد ان باتت الوعود في مهب الريح وهواء في شبك.الحركة الأدبية والعمل الثقافي غير الحكومي يواجهان ضعف الدعم الحكومي،والتعامل السلطوي البيروقراطي والفظ مع الادباء ايام انعقاد مهرجانات المربد والمتنبي والواسطي والجواهري،وتعرض المسؤولين لها،بالسباب والشتائم ضد الأدباء واتحادهم بمناسبة او بدونها،الى جانب تجاهل وزارة الثقافة الفعاليات الثقافية الفنية الاحتفالية المهرجانية لجمعية البيت العراقي ومؤسسات أكد للثقافة والفنون وحميد البصري الموسيقية والمقام العراقية والجمعيات الثقافية العراقية الأخرى في العالم،حتى مهرجانات الأطفال العراقيين.اما الشرطة فهي تداهم معارض فنانينا،كما حصل لرسام الكاريكاتير سلمان عبد في كربلاء،ما الذي تريده السلطات المحلية،هل تريد اعادة انتاج المشهد الثقافي والاجتماعي لتغذية وجودها وسد ثغراتها،وان تسجل حضورها في جميع الافعال والممارسات والسلوكيات؟

يتآكل المشهد الثقافي اليوم بالرضوض السايكولوجية والاجتماعية والثقافية التي ولدت عند المثقف العراقي الصدمة الكبيرة والخوف من المجهول ومن التوتر النفسي والامني والاجتمااقتصادي.اختفت دور العرض السينمائية والمسرح وقاعات عزف الموسيقى الكلاسيكية ورقص الباليه ومعارض الفن التشكيلي والرسم والنحت التي كانت تملأ بغداد والمحافظات،ويعد ذلك خللا بل شللا في المشهد الثقافي عامة.

دور العرض السينمائي في بغداد،التي كانت حتى وقت قريب تتجاوز الاربعين دارا،والشغال منها اليوم لا يتجاوز الخمس دور،تتحول الى ورشات لصناعة الاثاث ومخازن حبوب بعد ان تهالكت وتقادمت!وزارة الثقافة لم تلتفت للعناية بدور العرض السينمائي التي تشكل جزءا من ذاكرة بغداد الحضارية ومعلما للحياة المدنية في العراق وجزءا من اماكن الترفيه الأساسية لدى العائلة العراقية،كما تقلصت عملية شراء الأفلام من الخارج،وانسحب الجمهور التقليدي من الدخول الى قاعات العرض السينمائي،وقضت الحروب الكارثية للدكتاتورية البائدة والاقتتال الطائفي بشكل نهائي على تقاليد العرض السينمائي،واقفلت اغلب الدور السينمائية ابوابها.لا يمكن فهم عراقا جديدا دون دور للعرض السينمائي التي تربي لدى المواطن السلوك الحضاري.
جليا للقاصي والداني قصور العمل وتخلفه في السينما والمسرح وفي الفنون التشكيلية وفي دار الشؤون الثقافية ودار ثقافة الأطفال.وقد طرد منتسبي دائرة السينما والمسرح في مدينة البصرة قبل اشهر معدودة،وتم حجرهم في غرفتين بائستين،في امعان بسياسة التهميش والمصادرة ومزيد من اشاعة ظلمة التخلف،وبقصد ارهاب الناس وحرمانهم من الحصول على الحاجات الروحية الثقافية مما تبقى من خطابات الجمال والابداع التي تعالج همومهم وتداوي جراحاتهم بلسما يمنحهم قدرات استعادة الحيوية في اجواء العنف والجهل والظلام،ويبقيهم اسرى الاستلاب والقمع الروحي النفسي والفكري الثقافي،فيضعهم خارج دائرة عصرنا وتطوراته الانسانية.

المسرح الموسيقي الغنائي الراقص من جهته،رغم المبادرات التي لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة،يتطلب اليوم مجهودا متواصلا،يتبارى بتكافؤ مع الريادة.وهذا ما لم تبلغه النتاجات التي تسبح في تيارات هذا اللون الفني الجميل.
دكتاتورية صدام حسين شجعت المطربين واغدقت عليهم بالمال والتسهيلات من اجل الغناء العاطفي والسياسي والتجاري،بينما تقوم القوى السياسية المتنفذة اليوم بتكميم اصوات المطربين على اعتبارهم رجسا من عمل الشيطان،وفوضى التحريم في العراق لازالت تمنع الآلات الوترية وآلات الايقاع!وبعض المطربين يبيعون اصواتهم بـسوق النفاق لضمان سلامتهم،ليتحولوا من الغناء الى الندب والرثاء واللطم على الصدور في المواكب الحسينية،بينما تقدم السلطات المحلية في المدن العراقية على حل فروع نقابة الفنانين.
كان واضحا التدخل اللا قانوني لوزارة الدولة لشؤون منظمات المجتمع المدني في شؤون نقابة الفنانين من خلال فرض لجنة تحضيرية معينة للاشراف على شؤون الانتخابات متحدية بذلك الارادة المستقلة لفناني العراق،وتصرفها بأموال النقابة دون اي سند قانوني وتعطيل اعمال ومصالح الفنانين ودور النقابة الرائد في بناء المجتمع العراقي الجديد.

ان المنظومة الفكرية والثقافية للدكتاتورية البائدة والطائفية السياسية لوثتا الشارع العراقي وسممت اجواءه الثقافية معتمدة على ثقافة العنف والتصفية والتهميش والتجهيل والتنسيق مع حلفائهما من الظلاميين والمجرمين الذين يعتبرون النور والثقافة المتنورة كفر وضلالة ويعملون على عودة الناس الى الكهوف والظلام!والعراقيون بتاريخهم الزاخر بالثقافة والفن والادب نبراس لكل حضارات العالم رغم كل حقبات الموت والدمار،والفن والادب مدعوان اليوم لأستئناف كل عناصر قوتهما واستكمال مسيرتهما.وتبعث مبادرات الفنانين بعرض ابداعاتهم وطاقاتهم الفنية المتميزة على الموانع الكونكريتية على ارصفة الشوارع العامة الارتياح لدى المواطن العراقي،بينما يتأس الشعراء وتختلط مشاعرهم عندما يرون بلدانهم تتعرض للهجمات السوداء والظلام الدامس.لا تتوقف الثقافة عند جدار او سياج،والثقافة العراقية لازالت محاصرة!

ثقافة السلام وحقوق الانسان تتناقض مع ثقافات سوق مريدي والارهاب والفساد والتطرف والعنف وانهاء الآخر وتهديد الادباء بحجة عدم مساهماتهم في المناسبات الدينية والثقافة الطائفية.تبدو الأهمية الفائقة للثقافة الوطنية والديمقراطية - الحاضنة لكل التيارات القادرة على بلورة الهوية العراقية الوطنية الامر الذي يستلزم:
• تولي الهيئات الوطنية المتخصصة ووزارة الثقافة مسؤولية كبح جماح محاولات تهميش دور المثقفين والمبدعين في تثبيت التوجهات والخيارات الوطنية الكبرى،والرهان المستمر على المرجعيات الطائفية والقمع الطائفي والجهل والامية والولاءات الرجعية وتدني الوعي الوطني،لا على قدرات النخب الثقافية الوطنية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية في مجال صياغة الأفكار وإنتاج التصورات لإثراء الحوار حول كبريات القضايا التي تواجه بلادنا،والمساهمة النشيطة في استشراف المستقبل.
• الكشف عن حملات التصفية والاغتيالات والابتزاز والخطف ضد حملة الثقافة من مفكرين وعلماء وكتاب وشعراء وفنانين ومبدعين آخرين،ومحاولات تصفية النشاط الإبداعي وتأمين متطلبات نمائه وتعميق طابعه الديمقراطي واغناء جوهره الإنساني.
• الاحتجاج بشدة ومعارضة كل المحاولات الرامية الى تركيع الثقافة العراقية والفكر العلمي والحر من خلال تشغيل اسطوانة الافكار الهدامة!
• بلورة الصيغ والتشريعات القانونية التي تكفل حرية الثقافة والإبداع،وتستبعد كل ما يمكن أن يقيدهما،وتهدف إلى وضع ثمارهما في متناول سائر فئات المجتمع،وتعتمد ميثاقا ينظم نشاط مهنة الاعلام ويلزم العاملين فيه باحترام قيم ومعايير الحوار والمصداقية والدقة والابتعاد عن التحريض وإثارة النعرات وكل ما يلحق الضرر بالوحدة الوطنية.

 

 
بغداد
22/9/2010

 

 



 

 

free web counter