سلام إبراهيم كبة
العراق بين العبث والديماغوجيا السياسية
سلام كبة
ثقافة السلام والمؤسسات والقانون والدستور لا تعني السماح للمواطنين بأمتلاك قطعة سلاح في منازلهم كما جاء ذلك على لسان المتحدث الرسمي للحكومة علي الدباغ،وبالتالي الالتفاف الحرفي او المهني المخادع على قانون الأسلحة الذي اقره مجلس النواب"لم يسمح بحيازة الأسلحة للمدنيين"والتوجهات نحو حصر السلاح بيد الدولة العراقية.وثقافة السلام والمؤسسات والقانون والدستور لا تعني احياء الفصائل الميليشياتية مجددا وقوتها المنفلتة المتمثلة في السلاح وتجار السلاح والسماح لها بالاستعراضات العسكرية ومباركة الحزب الحاكم لها بحضور من يمثله رسميا!"الميليشياتية هي امتداد لميل السلاح وتجار السلاح المتنامي للتدخل في العمليات السياسية الجارية في العراق على طريقة عباس المحمداوي وحزب الله وعصائب اهل الحق.."!وتكديس السلاح وتجنيد المواطنين واحكام القبضة عليهم بغية تطويعهم وسهولة اخضاعهم وصولا الى تحقيق طموحات مريضة!
لابد مجددا وتكرارا للدولة والمؤسساتية المدنية من تحديد المفاهيم والقيم وتأطيرها قبل الشروع بالبحث واتخاذ القرارات والتوصيات!
الميليشياتية في العراق هي من آثار الصدامية والنظم الشمولية عموما لعسكرة المجتمع وتحويله الى ثكنات عسكرية بمعنى الكلمة!والميليشيات المسلحة دولة داخل دولة،لأنها تفرض قراراتها ومراسيمها والمد الرجعي للقوى الدينية غير المتنورة دينيا واجتماعيا،وهي تفرض ارادتها ونفوذها وخيمتها الفكرية على الجميع،وتدعو الى رفض الآخر وفكره واتجاهاته!
- تعكس الميليشياتية النفس الثوري القصير للبورجوازية الصغيرة بهدف تعطيل المشاركة السياسية وتهشيم المؤسساتية المدنية بأسم الاصلاحات الجزئية ومعاداة الاستعمار ومقاومة الاحتلال وتصحيح المسار السياسي!ليتحول ابناء الشعب الى كائنات مغلوبة على امرها تتحرك بدافع الحياة والاستمرار ليس الا!
- الميليشيات وبعيدا عن حجمها واسمائها وتصنيفها ومرجعيتها وأجندتها السياسية،وأساليب العنف التي تستخدمها،ومدى مشروعية وجودها القانوني في الساحة السياسية،او حجم التعاطف الشعبي معها في الشارع،فانها ظاهرة غير صحية بل ظاهرة كارثية لا يمكن ان تستقيم الامور وتسير العملية السياسية وتترسخ الممارسة الديمقراطية بوجودها،اذ ان هذا الوجود يؤشر ايضا الى ضعف الدولة ومؤسساتها العسكرية والامنية!
- تعتمد الميليشيات سيادة الدولة والقانون والديمقراطية في افضل الاحوال لغايات تكتيكية،ولها اسماء والقاب كثيرة!ومهما اختلفت الاسماء وتعددت يبقى مجال عملها واحد،هو مراقبة الناس والحد من حريتهم والانتقاص من اخلاقهم والاعتداء على اعراضهم.
- تعاظم دور الميليشيات يؤدي الى المزيد من التمترس ومفاقمة الأوضاع،فضلا عن خروج مجاميع متطرفة منها على السيطرة،تمتهن الاجرام والقتل والخطف"والعلس"..الخ.
- الميليشيات كذراع عسكري لمنظمات واحزاب سياسية او كأدوات مسلحة لتنفيذ اهداف سياسية محددة،يجري توظيفها في الصراع التنافسي على السلطة،وفي التصفيات واعمال التطهير الطائفي!
- تشيع الميليشيات المسلحة من خلال الاعمال الاستفزازية والارهابية انها تستطيع ان تتحكم في الشارع وتستطيع ان تقتل وتذبح،وانه لايمكن تجاهلها،والهدف من هذه الاعمال تعطيل الحياة وخلق الارتباك والهلع بين المواطنين.
اختارت الامبريالية الامريكية الشعب العراقي ليكون المثل الذي تقدمه لشعوب العالم لقدرتها على تركيع كل من يقف امام طموحاتها في الهيمنة على العالم لاسيما وان الشعب العراقي تجرأ ورفع قامته في حضور السادة وقاوم خططها مع ثورة 14 تموز 1958 المجيدة!
- لا زال العراق يحتل اليوم مرتبة متقدمة بل المرتبة الثانية في قائمة الدول الاقل استقرارا في العالم،ويأتي بذلك حتى قبل الدول التي خربتها الحروب وضربتها المجاعات مثل الصومال،زيمبابوى،ساحل العاج،الكونغو،أفغانستان،هاييتي،وكوريا الشمالية،وفقا لمؤشر الدول الفاشلة الذي يصدره"صندوق السلام"و"مجلةالسياسة الخارجية".
- تنامي واتساع قوة المعارضة الوطنية المسلحة،كما ونوعا،وبالاخص البيشمركة وحركة الانصار الشيوعية في ثمانينيات القرن العشرين جاءت بسبب عنف وارهاب دكتاتورية الطاغية الارعن،وتحولت حركة الانصار الشيوعية من منظمة حزبية عسكرية الى حركة جماهيرية في المدن الكردستانية،ولولاها لما جرى استخدام الاذاعة لايصال صوت الشعب العراقي يوميا الى الجماهير الواسعة في بلادنا.
- ان تجار ومهربي الاسلحة يستغلون عدم وجود معاهدة دولية لتنظيم تجارة الأسلحة في الشرق الاوسط لانتزاع اقصى الارباح من توريد الاسلحة الى العراق وعرضها في السوق السوداء التي باتت تعج بالاسلحة الخفيفة والثقيلة وتحت مرأى وسمع الحكومة العراقية والدول الاقليمية.وبات العراق البلد الوحيد من بين دول العالم يمتلك الكثير من الاسلحة المتنوعة وغير المرخصة خارج الثكنات العسكرية،واكثرها بيد الذين تقل اعمارهم عن 18 سنة وبعض البالغين مما هدد وتهدد هذه الاسلحة امن المواطنين بسبب عدم شرعيتها وقانونيتها معا!
- لا هيبة للدولة واجهزتها ايضا مع تحول العشائر المسلحة ومجاميع"الصحوة"الى ميليشيات واعادة تأجيج الاحتقانات الطائفية!ان من أهم واشد المصائب التي تهدد الأمن الداخلي هي كثرة وانتشار السلاح بيد خارجة عن سلطة الدولة!
- تسليح الاهالي والشارع بأنواع الأسلحة وبشكل مقنون ورسمي خطوة ذات ابعاد خطرة قد تقلب الطاولة على الجميع بمن فيهم الحزب الحاكم!
- بعض الأسلحة التي يجهز بها الجيش العراقي،وهو جهة نظامية،يتسرب الكثير منها الى جهات مجهولة وغير نظامية او غير مركزية،وحتى الى فلول البعث المرتبط بعناصره المضادة للعملية السياسية والى تنظيمات القاعدة.
- الحكومة العراقية تعلن ليل نهار انها ضد الميليشيات،وتعتبر"الصولات"من انجازاتها،ويوجه القائد العام للقوات المسلحة قوات الجيش والشرطة بمنع التجمعات ذات الطابع العسكري وعدم السماح بإستغلال المناسبات الدينية والقيام بممارسات لا تتعلق بالزيارات في جميع انحاء البلاد،هذا من جهة.وتبارك الحكومة الاستعراضات العسكرية الصديقة المحظورة وغير الرسمية واللا نظامية من جهة اخرى،وبالتالي تسهم في تصعيد التناقضات الخطيرة القاتلة وزعزعة الاستقرار والأمن في البلاد.
- لا هيبة للدولة واجهزتها مع انفلات واتساع نشاط الميليشيات،بل ان قوة السلطة وتمكنها من توفير الأمن يمر عبر اجراءات فعالة لحل الميليشيات سواء بتفعيل الأمر(91)لسنة 2004 وبتطويره وفق القانون رقم 13 لسنة 2005 او بغير ذلك من الاجراءات التي تؤدي،في النهاية،الى حصر السلاح والعمليات المسلحة بيد الدولة واجهزتها المخولة وفقا للقانون والدستور واحكامهما!
- الى جانب الميليشيات السائبة تتواجد الميليشيات المسلحة المنضبطة شكلا وبهتانا المتمثلة بالشركات الأمنية والحمايات الجرارة للمسؤولين!
- يحاول البعض المغفل تصوير الشركات الأمنية كميليشيات عصرية وتقليدها في الهيكلة والاعداد والجاهزية!وقد ازداد الطلب على خدمات الشركات الأمنية رغم المحاذير العديدة على نشاطها وخصوصا تلك المتعلقة بغياب القوانين التي تلزم منتسبيها،وغياب القواعد التي تحدد شروط تعيين افراد هذه الشركات.في العراق زاولت هذه الشركات مهام امنية،وجميع العاملين فيها هم من الجنسيات غير العراقية ويملكون المعلومات الرسمية الدقيقة عن بنى الدولة العراقية بجميع هياكلها ومفاصلها نتيجة عملهم في بناء المفصل الاستخباراتي للدولة.وهم مرتزقة بمعنى الكلمة،ولهم قدرة الاطلاع على تحركات المسؤولين في الدولة العراقية ورسم اكثر التحركات لهم والتجاوز اللامحدود على الأنظمة والقوانين العراقية!ان بقاء هذه الشركات وبتلك الصلاحيات يعد اساءة واضحة للدولة العراقية والاستقلال الوطني.
ثقافة السلام في العراق تعني التعددية وتداول السلطات بالطرق السلمية!المؤسساتية المدنية والحذر من السقوط في شرك الكلانية،وهي نقيض ثقافة الخوف والشك بالمواطن!الامر الذي وجب فيه مضاعفة الجهد لايقاف كل اشكال الاختطاف والاختفاء القسري والاعدامات التعسفية والقتل الكيفي والحرمان العشوائي من الحياة والاعتقالات غير القانونية ودعم الارهاب والتفجيرات الانتحارية والتهديد وتدمير البيوت والاسواق واشاعة الرعب وقتل الانفس البريئة!
تعني ثقافة السلام ان يتاح للجميع التعبير عن رأيه في امور السياسة والمجتمع،واتساع الصدور لسماع آراء الآخرين واحترامها!فالحوار الموضوعي اصل الحياة وليس برنامجا قدريا يهبط من السماء،وهو نقيض حلقات دبكة وتراقص الألسن والتراشق بالكلمات!
ثقافة السلام في العراق تعني فصل الدين عن الدولة،وادانة الفتاوي البليدة وفضح فرسانها وهالاتهم المقدسة،وتقديمهم الى المحاكم!
ثقافة السلام هي الحل الديمقراطي للقضايا العقدية الوطنية،وتحديث الوعي الاجتماعي بالوعي العقلاني العلمي القادر على مجابهة التحديات،ومضاعفة الوسائل العصرية التي تسهم في تحريك القناعات والقيم والمثل والمشاعر لدى المواطنين في اتجاهات التطور الديمقراطي،والربط السليم بين الديمقراطية السياسية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
تتسبب العسكرة وتجارة الموت بالضرورة بتوتر المزاج العام للمجتمع وسرعة الاستثارة بسبب الحالة العسكرية وثقافة العنف التي تشبع بها الشباب والحروب والتنازع واسلوب استخدام القوة واستعراضها،تزاوج التوتر والمزاج العام القلق مع المفاهيم والقيم القبلية والطائفية ذات الجذور الاجتماعية المتفاوتة الدرجات،فرص التعليم الضائعة لكثير من الشباب حيث حاجة التوترات العسكرية الى الوقود البشري،تدني الذوق العام،اتساع جيوش العاطلين عن العمل!بينما يتسبب الافتقار لضوابط دولية على تجارة الذخيرة في تصاعد وتيرة العنف وصيت اسواق الاسلحة السوداء وتوسع التخندق اللاوطني وارتفاع معدلات العسكرة!وينتزع مهربو الاسلحة اقصى الارباح من توريد الاسلحة وعرضها في الاسواق السوداء.
لا يمكن الحديث عن استكمال السيادة العراقية الكاملة غير المنقوصة دون قوات مسلحة وطنية تسمو فوق كل الانتماءات،مرتبطة مصيريا بحركة الشعب الوطنية التحررية والدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية!لا تتحكم فيها النوازع الطائفية والقومية والعرقية والحزبية والدينية،وتستطيع أن تكون ندا قويا لكل من تسول نفسه على الحاق الأذى بالاستقلال الوطني او الشعب العراقي!
تهبط القيمة السياسية والمعنوية للطائفية السياسية مع الاجراءات الحكومية لتفعيل القرار السياسي الوطني المستقل وتأكيد الهوية الوطنية المستندة على فكرة المواطنة المتساوية وعبر بناء مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والمدنية على اسس مهنية والولاء للوطن وللدستور والنظام الديمقراطي الاتحادي،وعبر بناء دولة القانون والمؤسسات الدستورية.وبقدر ما تنطوي عليه التطورات الاخيرة من رعاية للاستعراضات الميليشياتية والسماح بعسكرة المجتمع ونشر السلاح العلني،وبمبادرات فردية من الائتلاف الحاكم والحكومة العراقية نفسها دون الرجوع الى ممثلي الشعب- مجلس النواب،فانه يسهم في اشاعة الفوضى السياسية وتأجيج الاستقطابات السياسية القائمة على المصالح الفئوية الضيقة!
بغداد
12/6/2012