| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

السبت 30/8/ 2008

 

سيشيل – قصة صراع دولة صغيرة مع القواعد الأمريكية

صائب خليل

تنتشر جزر الأرخبيل الـ 115 الساحرة على ألاف الكيلومترات في المحيط الهندي بين قارتي آسيا وأفريقيا، وتبعد اقربها الى افريقيا حوالي 1000 ميل عن سواحل كينيا، ويسكنها 62 الف نسمة فقط، وتشتهر بمناظرها الخيالية الجمال. وقد ذكرت الجزر لأول مرة في وثائق البحارة البرتغاليين في أوائل القرن السادس عشر، لكن مصادر غربية تشير إلى أن العرب كانوا قد وصلوا تلك الجزر قبل ذلك بفترة طويلة. (1)

ككثير غيرها، تعاقب على استعمار تلك البلاد مستعمرون مختلفون. فالفرنسيون كانوا دائماً في صراع مع الإنكليزعلى الجزر حتى اوائل القرن التاسع عشر حين سلمت إلى البريطانيين في معاهدة باريس، ثم لعبت حقائق تحول سلطة الدولة العظمى من بريطانيا إلى أميركا دورها في مستقبل البلاد، مع تجاهل خطير لإرادة سكان البلاد الأصليين، ككثير غيرها أيضاً، وبالتعاون مع عملاء هذه الدول العظمى في أفريقيا المجاورة وخاصة حكومة جنوب أفريقيا العنصرية في ذلك الوقت.

إذهبوا إلى كوكل واكتبوا (Seychelles) او (Diego Garcia ) وانظروا ما تجدون من الصور، بل أنظروا الى صور الأقمار الصناعية وحدها، ففيها ما يكفي لتقدير روعة هذه الجزر. إنها ممارسة تستحق تعودها، أن نعود إلى الأقمار الصناعية لنرى شكل البلدان التي نقرأ أو نسمع عنها، ما دامت مثل تلك الصور قد توفرت، فهي عادة تسهم في الإحساس بقيمة كوكبنا وجماله الهش المهدد. لجزر الأرخبيل حصة الأسد من هذا الجمال، لكن وراء هذا الجمال الرائع، قصص لاتتناسب للأسف مع طبيعته الخلابة!

إن الإنسان ليعجب أن هناك "بشراً" يمتنع على هذا الجمال الآلهي أن يصيبهم بسحره، فلا يجدون في هذه الجزر خيراً من ارض تصلح لنصب معسكرات وقواعد جيوشهم وأجهزة تجسسهم الهائلة!
"بفضل" مثل هؤلاء، تحتضن اليوم جزر دييغو غارسيا من هذه المستعمرة البريطانية السابقة، قواعد للقوات الجوية الأمريكية، ذات أهمية إستراتيجية عالية حسبما قال المسؤولين الأمريكان، خاصة لمتابعة الأقمار الصناعية والتجسس على السوفيت (حينها) وغيرهم.

لنقفز إلى عام 1977، حين جاءت الى "سيشيل" (2) حكومة إشتراكية بواسطة عملية إنقلابية على حكومة "صديقة جداً" للأمريكان، فألغت الحكومة الجديدة الإمتيازات التي كانت حكومة جنوب أفريقيا قد حصلت عليها بواسطة عميل دموي مشترك لدربن وللـ (سي آي أي) اجتاح البلاد عسكرياً في الماضي القريب.
كذلك لم تتمكن أميركا من الحفاظ على قواعدها بوجه إرادة الحكومة الجديدة إلا بعد استعمال كل اسلحة الضغط التي تتوفر لديها. لكن من المحتمل أن اكثر ما اقنع الحاكم الإشتراكي الجديد، فرانس البرت رينيه، بإبقاء تلك القواعد المتواجدة في جزر "دييغو غارسيا" هو أن عقدها كان سينتهي عام 1990 ثم تخرج ذاتياً، كما كان يأمـل على الأقل.

لم يكن عداء رينيه لقواعد أميركا في بلاده خفياً، فقد كان يدعو صراحة إلى تحويل المحيط الهندي إلى منطقة خالية من الأسلحة والقواعد العسكرية، ومن الطبيعي أن لا يخشى الأمريكان رفضه لتمديد عقود قواعدهم إن بقي في السلطة، أو تركها لمن له مثل توجهاته. لقد كان مستقبل القواعد في خطر، وهنا دق جرس الإنذار الأمريكي، وابتدأت المؤامرات للسيطرة على الوضع والمجيء بحكومة "مناسبة" (للقواعد).

لكن الرياح لا تجري دائماً كما تشتهي أميركا، فأحبطت أول مؤامرة ضد حكومة سيشيل دبرت خلال سنتين، أي عام 1979، بعد اكتشافها المبكر، وقبل تحرك قوات المرتزقة من جنوب أفريقيا. التحقيق الحكومي توصل إلى ضلوع كل من أميركا وفرنسا في المؤامرة، وأن السفير الأمريكي في كينيا كان على اتصال بالمتآمرين، وكان الملحق الأمريكي في سيشيل حلقة الوصل فيها، وتم على إثر ذلك طرد العديد من الأمريكان من البلاد.

لكن "القواعد الأمريكية" خسرت معركة ولم تخسر الحرب، فكررت المحاولة بعد سنتين، فدخلت مطار الدولة الصغيرة قوة تتكون من 40 رجلاً مدرباً على السلاح، جاءوا إلى سيشيل على طائرة تجارية إعتيادية متظاهرين بأنهم فريق لكرة الركبي يحمل الهدايا للأطفال بمناسبة الأعياد. لكن بعض الأسلحة المخفية في حقائبهم اكتشفت صدفة عند هبوطهم في سيشيل، فاضطروا إلى الدخول في مواجهة غير مخططة ودارت معركة في المطار، تمكنت سلطات سيشيل خلالها من اعتقال سبعة منهم بينما تمكن الباقون من اختطاف طائرة لتعود بهم الى جنوب أفريقيا. بعد أيام نشرت السانداي تريبيون التي تطبع في دربان تقريراً يؤكد بأن الـ (سي آي أي) قد مولت الحملة وجهزتها بالأسلحة.

وبعد سنة في عام 1982 واجهت الحكومة تمرداً عسكريا، تم القضاء عليه بعد يومين من قبل القوات الموالية للحكومة وبمساعدة قوات من تنزانيا. (3)

في اوائل التسعينات أعاد فرانس رينيه البرت الديمقراطية إلى البلاد بكتابة دستور جديد حصل على تصويت شعبي عال، وترك السلطة ليعود اليها بتأييد شعبي كبير في الإنتخابات التالية، وكانت الإجراءات في كل المناسبات ديمقراطية بشكل ممتاز، كما اتفقت المعارضة مع الحكومة.

أما صراع رينيه مع القواعد الأمريكية فقد انتهى بحالة أقرب إلى التعادل، فلم ينجح أي منهما بإزالة الآخر ومثلما بقي فرانس بالرغم من أنف القواعد، بقيت القواعد بالرغم منه ومن شعبه المؤيد له، فقد تم التمديد لبقاء القواعد حتى عام 2016 وتسعى الولايات المتحدة اليوم بقوة إلى تمديدها ثانية.

رغم فشلها في انجاز هدفها الأساسي في استعادة السيادة على جزر بلادها من القواعد الأمريكية، يمكن اعتبار أن حظ حكومة فرانس رينيه البرت كان جيداً نسبياً في الحصول على شبه "التعادل" في صراع البقاء مع تلك القواعد وإفلاتها من المؤامرات المتتالية عليها، وهو ما لم تستطع العديد من الحكومات الأخرى التي تجرأت على التحرش بالقواعد في بلادها تحقيقه، فأزيحت من الوجود قبل أن تزيح القواعد التي غرست جذورها عميقا في أرضها وصار لها من السلطة على البلاد ما يزيد عن سلطة الحكومة والشعب. ولم يقتصر ذلك على "دول الموز" الصغيرة في الأمريكتين وأفريقيا، بل واجهت نفس المصير حكومات بلدان غربية مثل حكومة غوف ويتلام (Gough Whitlam) المنتخبة ديمقراطياً والمزاحة غصباً في استراليا عام 1975 قبل ان تكمل فترة حكمها الدستورية، فلم تنتظر "القواعد" نهاية الفترة وتكتف ِ بالتآمر المعتاد لتوجيه الإنتخابات التالية لتحصل على "حكومتها المناسبة" في البلاد، بل فرضت تغيير الحكومة التي لم تعجبها فرضاً. (4)

لاشك أن جميع الساسة، وخاصة أولئك الذين يسعون إلى التغيير في بلدانهم، يدركون حجم الأخطار وتوزيع القوى في بلادهم، فلماذا تخاطر حكومات مثل حكومة ويتلام بسلطتها بل ويغامر فرانس رينيه حتى بحياته وحياة رفاقه في النزاع مع القواعد التي يعرفون قوتها وسطوتها؟ لاشك ان حس الكرامة والحق الإنساني مازال سليماً لدى هؤلاء ليطلبوا استعادة حق شعبهم وحقهم في تقرير سياسة بلادهم وسيادتها. و فرانس رينيه كان بلا شك من هؤلاء، فهو "لم يكن قابلاً للإرتشاء" حسبما جاء ذكره في مكان آخر على لسان جون بيركنز، الذي كان يتحدث عن قصة عمله كمستشار اقتصادي يؤجر من قبل رجال السلطة الأمريكية ليفرض مع زملائه على البلدان النامية سياسة مناسبة للحكومة الأمريكية والشركات الأمريكية. (5)

لكن لفرانس رينيه أسباب إضافية. فقصة القواعد الأمريكية في جزر بلاده المسماة "دييغو غارسيا" قصة فاقت القصص الأخرى في مأساويتها في صراع الشعوب مع قواعد أميركا على بلادها، لكن هذه تستحق بلاشك مقالة منفصلة. سنعود اليها قريباً.


هوامش:
إضافة إلى الروابط المرفقة، استندت في هذه المقالة بشكل رئيسي إلى الفصل 44 من كتاب:
Killing hope, by William Blum.
http://www.amazon.com/Killing-Hope-Military-Interventions-II-Updated/sim/1567512526/1?ie=UTF8&pf=book

(1) http://www.state.gov/r/pa/ei/bgn/6268.htm
(2) كعادة المستعمرين في إطلاق اسمائهم اوأسماء رؤسائهم على البلاد التي يكتشفونها، فأن "سيليش" سميت على اسم وزير المال الفرنسي الخاص بالملك لويس الخامس عشر.
(3) http://en.wikipedia.org/wiki/History_of_Seychelles
(4) لنتعلم الحكمة من الذين وقعوا معاهدات قبلنا
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/30usa2.htm
(5) انظر مقالتي التالية لملخص حول الموضوع
رجال الضربة الإقتصادية
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=100627 
أو انظر المقابلة التي يذكر فيها جون بيركنز قضية أمانة فرانس رينيه (بالإنكليزية)
http://www.democracynow.org/2007/6/5/john_perkins_on_the_secret_history
 


30 آب 2008

 



 


 

free web counter