| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الأثنين 28/4/ 2008



نحو علاقة حميمة وعهد شرف مع أسئلة رؤوسنا

صائب خليل

لا تخبئ أفكارك وإلا نسيت أين وضعتها رسول حمزاتوف

بينما كنت أقضي فرصة الغداء متمشياً في حدائق مركز بحوث فيليبس الشاسع في مدينة ايندهوفن في هولندا، رأيت ما يشبه المقبرة! اقتربت منها مندهشاً حتى وصلت الى أول "شاهدة قبر" فقرأت وأنا لا أصدق عيني: "هنا يرقد.... نظام بيتا ماكس لتسجيل الفيديو"...مشيت الى "القبر" الثاني وقرأت : "هنا يرقد...الـ iCD"...وانتقلت الى اخر واخر، حتى لمحت لوحة تشرح الأمر: "مقبرة الأفكار الجيدة"..."هنا ترقد اختراعات ممتازة من فيليبس، لم يتح لها البقاء تجارياً فتوفيت!" ...ما أجملهم هؤلاء العلماء...إنهم على الأقل لم ينسوا أن يدفنوها، افكارهم التي أحبوها بلا شك حباً كبيراً وتفانوا في إيصالها الى الحياة التي لم تستطع الصمود فيها!

العلاقة بين الإنسان وافكاره علاقة "إنسانية" حية، او هي يجب ان تكون كذلك. فهذه الأفكار التي استأنست بك ووجدت في رأسك عشاً مناسباً لها، تأمل منك حمايتها والدفاع عنها ومساعدتها في إكمالها دورة حياتها: نشرها او إيصالها الى المكان المناسب لتفقس في عالم التطبيق العملي، وتغير العالم بشكل ما، لتبيض أفكاراً جديدة في رؤوس جديدة وتحمل أحلامها في إكمال دورة حياتها....إنها علاقة حب، ولكنها أيضاً علاقة فائدة متبادلة، كما هو الحب ايضاً. وعندما أقول "أفكارك" فليس من الضروري ان تكون انت من "اخترعها"، فالمهم في الأمر هو "التبني". نحن ننتج مئات الأفكار كل ساعة لكننا "نتبنى" واحدة او اثنتين او لانتبنى شيئاً..وتمر بالقرب من رأسنا عشرات ومئات الأفكار لنختار منها ما نحس بارتعاشة التلاؤم والتقدير. نتحدث قليلاً ثم يكون الحب، أو يكون الوداع..المهم إذن هو "التبني" من ناحيتك، اما من ناحية الفكرة فأهم ما تأمل به ان يكون من تعلق بها محباً مخلصاً, وقويا ً ايضاً، قادراً على تذكرها والدفاع عنها في زحمة التنافس والضوضاء والضغوط الوحشية.

أرى في هذه اللحظة امامي وعبر زجاج النافذة، حمامة صنعت عشها في زهرية فارغة في بالكونتي. أعلم انها ستعني بالنسبة لي حملة تنظيف من الريش والفضلات لاحقاً، لكني خجلت ان أطردها فتركتها تبقى.
ليست الأفكار إلا طيوراً تبحث عن عش مناسب لإكمال دورتها، ولك ان تختار ان ترحّب بها او تدير رأسك بعيداً!

الأفكار تعيد جميلنا عليها مضاعفاً إذ تجعلنا أغنى أو أقوى أو أسعد، إن هي وصلت مقصدها. ومن بين "الأفكار الجيدة" الأكثر قرباً منا "الأسئلة الجيدة". يخطر ببالك سؤال، او يطرحه امامك صديق فتقول في نفسك: إنه سؤال جيد! وتقصد حينها أن الجواب على هذا السؤال يكشف لي مخفياً هاماً، يقرر موقفي من مسألة ما...وحينها "تتبناه" وتبدأ البحث له عن جواب موقناً أنك ستحتاج إلى وقت تخصصه له، و أن أمامك صعوبات ومعارك احياناً، فمن يمتلك الجواب قد يرفض إعطاءه ما لم يكن مجبراً على ذلك. لهذا السبب بالذات تبحث الأفكار والأسئلة عن "عاشق" مجالد.

إن كانت الأفكار التي تعيش في رأسنا تحدد حركتنا ومواقفنا، فلربما كان أكثر أنواع هذه الأفكار تأثيراً ومباشرة فيما نقوم به من نشاط ومانهتم به، أي بعبارة اخرى، ما يكون شخصيتنا، هي تلك الأفكار غير المكتملة، والتي تأخذ شكل سؤال. ما يقلقنا من الأسئلة يحدد ما سنختار من كتب وما سنشاهد من برامج وما سنرافق من اصدقاء وما سنطرح معهم للمناقشة.

نحن نعيش مع الأسئلة علاقة بيولوجية متبادلة المنفعة، كما تتعايش العصافير والفيلة. فـ"الأسئلة الجيدة" تحمينا من الخطأ، وتتوقع منا أن نحميها من الضياع. إنها تقدم لنا بذاتها نصف الجواب كما اكتشف البعض.
لا نستطيع أن نتصور شخصاً يخترق أيا ً من غابات الحياة الشائكة الخطرة دون ان يكون قادراً على اكتشاف "الأسئلة الجيدة" وأن يكون جـَلِـداً ملحاً في العمل للحصول على أجوبتها.
لكن الأمر لايكون بهذه البساطة دائماً. فكم اكتشفنا أننا اهملنا ونسينا سؤالاً كان مهماً ومازال، لأن من يمتلك جوابه رفض الإفصاح عنه، او لأن البحث عن الجواب تطلب وقتاً طويلاً أو تضحيات أكبر مما كنا مستعدين له؟ لكننا أيضاً وفي أغلب الأحيان، نتخلى عن السؤال ببساطة لأننا ننساه في زحمة الحياة اليومية. نخبئه فننسى اين وضعناه، كما يقول رسول!

تختلف "القابلية" للحفاظ على الأسئلة التي تبنيناها واحببناها، في رؤوسنا من شخص الى اخر، وأيضاً من شعب الى آخر وهي تتناسب عكسياً مع الإضطهاد الذي تعرض له الشخص او الشعب، وتربى عليه، وقبله. الشخص الذي تعود أن يُظلم، سوف لن يلح طويلاً بالسؤال: لماذا يؤخذ حقي؟ مثلاً. يمكننا ان نلاحظ ان أبطال الدفاع عن الحق في اي مجتمع لايتميزون بالذكاء الأكبر او النشاط الأكبر، بقدرما يتميزون بعنادهم على إيصال الأسئلة التي تبنوها إلى حيث يمكنها إتمام دورة حياتها. إن احترامهم لأنفسهم يمنعهم من القائها بعيداً بسبب النسيان أو التعرض للمصاعب.

أطلعنا ناجي حسين على كتاب جديد كتبته سندي شيهان الناشطة الأمريكية التي فقدت ابنها في حرب بوش في العراق، توجه فيه السيدة شيهان اسئلة الى الرئيس بوش ووالدته فتسأل الرئيس: "ما القضية النبيلة التي مات ابني كايسي من أجلها: أهي الحرية أم الديمقراطية ؟"
ليس لأن شيهان لا تعرف الجواب، إنما تريد أن يعرفه العالم، وهي تحمل السؤال في رأسها حتى يصل الى غايته تلك، إنها تجيب: "هذا هراء..لقد مات ابني في سبيل النفط.. مات ليزيد من ثراء أصدقاء بوش... مات كايسي لينشر الإمبريالية في الشرق الأوسط".

لقد مات أكثر من 4000 شاب أمريكي بنفس الطريقة، ولاشك أن نفس السؤال ثار في رؤوس معظم امهاتهم، لكنهم لم يمتلكوا إخلاص شيهان لإسئلتها. لقد بقيَت هذه المرأة مع اسئلتها لتسكن معها في برد الخيمة والمطر أسابيعَ ولتتظاهر معها وتدخل السجن معها. واختلفت باقي الأمهات، فمنهن من تركن السؤال واكتفين بالحزن، واخريات تخلين عنه بعد تظاهرة او اثنتنين، وهكذا.

من السهل أن نفهم لماذا يستطيع الناس في الدول الديمقراطية ان يحتفظوا بأسئلتهم اكثر من نظائرهم في الدول الدكتاتورية، فالإخلاص للأسئلة يكلف صاحبه الذي يعيش في الدكتاتوريات اكثر كثيراً. لكن المقارنة لا تنتهي عند هذا الحد. فكما رأينا فإن شيهان قد تحملت من أجل اسئلتها في بلد يعتبر عريقاً في الديمقراطية أكثر مما يتحمله الكثيرين حتى في الدول الدكتاتورية! فالديمقراطية لا تتميز فقط بقلة كلفتها النسبية لتحمل الإنسان لأسئلته، وإنما تغير شخصيته فتربيه على كرامة تجعله يتحمل اكثر من أجل أسئلته، وتركز في رأسه حقه في مطالبة السلطة بتقديم أجوبة مقنعة عليها، ولاتسمح له ان ينسى أنّ هؤلاء ليسوا سادة عليه يجب أن يكلمهم بـ "سعادة" و "فخامة" و "سيادة" بل مجرد وكلاء اختارهم ليمثلوه في تمشية أمور بلاده وله ان يزيحهم متى شاء، إن اتفق مع شركائه في البلاد على ضرورة ذلك.

أسئلتك تدل عليك وعلى ما تعتبره حقك وعلى ما ترى انه يمثل قيمتك. قبل أيام وجهت عِبر مقالة لي سؤالاً الى وزير خارجيتنا الذي كان يشكو رفض الأمريكان "التنازل" عن "حقهم" في قتل العراقيين بلا تعرض للمحاسبة. سألته هل خطر ببالك ان تسأل مفاوضك ان يضع نصاً يتيح للعراقيين ايضاً حق قتل الأمريكان بلا محاسبة، بالمقابل؟ واجبته وأنا متأكد، بأنه لم يخطر مثل هذا السؤال بباله، لأني اعلم انه يحس بدونية شديدة امام الأمريكان، ولا يمكن ان يلجأ مثل هذا السؤال الى رأسه! إن كان الوزير يحس بهذا الشكل فهل من لوم على المواطن الذي يتعرض بشكل دائم للقصف الإعلامي المحبط الذي يطالبه بـ "تطبيع" احساسه بالدونية امام الغرب والأمريكان بالذات؟ لقد تعرضنا جميعاً ولمدة طويلة لمثل هذا القصف، ولا مناص من ان قد اصابت تقييمنا لأنفسنا الكثير من الشضايا. وأنت يا صاحبي، إن وقعت صدفة على سؤال ممتاز لم يخطر ببالك ان تسأله بنفسك، فلا تتركه يمر هكذا، لأن في ذلك دلالة هامة تخبرك معلومة قد تهمك عن نفسك، وخير من أثار الأسئلة المعلِمة عندي كان بلا شك، نعوم جومسكي.

وأسئلتك يجب ان تكون جزأً اساسياً من علاقتك الصحية بالمؤسسات خاصة. يجب ان يكون لكل منا مجموعة اسئلة يطالب حزبه، او الحزب الذي ينوي انتخابه، ان يجيب عنها، لأن له على هذا الحزب حق. وأسئلة يجب ان تجيب حكومته عنها واسئلة يجب ان تجيب نقابته عنها وهكذا. إن من لايملك أسئلة محددة لسلطة بلاده، لايؤمن بأنه هو، المواطن، صاحب السلطة الشرعية فيها. أسئلتك حراس حقك حيثما يوجد، وعلى قدر حرصك وإصرارك على أسئلتك، وعلى قدر استعدادك لمضايقة من يحتفظ بحقك، بطرحها بوضوح وإلحاح، يكون حقك مضموناً. لذلك تكره السلطة الأسئلة حتى في الديمقراطية، ولذلك يحبها المواطنون ويكثرون منها خاصة في الديمقراطية. ليس هناك أي شك في أن حزمة الأسئلة التي يواجه المواطن بها حكومته، ودرجة اصراره عليها، هي ما يحدد طريقة تصرّف تلك الحكومة في تعاملها معه ومع مصالحه، وكذلك الأمر مع النقابة والحزب وغيرها. يمكننا ان نقول بثقة بأن سلامة العلاقة بين المواطن وأية مؤسسة، حكومة كانت ام حزباً أم نقابة، تعتمد على سلامة الأسئلة التي تقف بينهما. إن كانت تلك الأسئلة مجاملة، كانت العلاقة فاسدة مجاملة، وإن كانت غير محددة، كانت العلاقة مشوشة غير محددة، أما ان لم تكن لديك اية أسئلة تفرضها على المؤسسة، دل ذلك على تبعيتك لتلك المؤسسة وقبولك قراراتها بلا مراجعة.

ألإخلاص للأسئلة التي تبنيناها يتفاعل مع الديمقراطية فيرفع كل منهما الآخر. بعض الديمقراطية وبعض الفرصة للكلام تتيح الحاحاً أكبر للأسئلة، وهذا الألحاح يغير الجو ويفهم كلا ً من السلطة والناس أن من حق الناس أن تدافع عن حقها في السؤال، وهذا التغيير في الجو نحو الديمقراطية يتيح المزيد من الإخلاص للأسئلة والإصرار عليها، وهكذا في لولب متصاعد....إن لم تقطعه يد ما!

يجب ان نتذكر دائماً أن هناك خاسرا ً مقابل كل رابح، فمن هو الخاسر من تصاعد لولب الديمقراطية وحق الشعب في إستلام قيادة حياته؟ السلطة طبعاً، حتى حين تكون ملتزمة بالديمقراطية، او تدعي ذلك. هناك دائماً صراع بين الطيور التي تريد أن تضع بيوضها في عش رأسك، لذا لا يجب أن تستغرب إن وجدت يوماً أن تلك التي تبنيتها يوماً، وحتى تلك التي مازلت تحبها منها، قد غادرت وتركت المكان لأسئلة اخرى فرضت نفسها بطريقة ما.

في زاوية ما من رأس كلٍ منا مساحة خضراء تبرز من ارضها علامات استفهام حزينة، وبينها لوحة كتب عليها: "هنا مقبرة الأسئلة الجيدة". أسئلة جميلة ذكية، تُرك للنسيان أو الإهمال أو الخوف ان يقضي عليها وهي في شبابها. هل لنا، إن لم نستطع الدفاع عن اسئلتنا، ان نفيها حق الزيارة والتذكر لعلنا نكون أكثر إخلاصاً في المرة القادمة، للحمامات التي التجأت إلينا وتبنيناها يوماً؟ تلك الطيور ستشكرك حتى على زيارتها، فحتى من خلال قبورها تستطيع الأسئلة الجيدة أن تنير لنا زاوية من انفسنا قد تكون مظلمة!

عن صراع الأسئلة ومحطمي أعشاشها وأمثلة من العراق، سنتحدث في الجزء الثاني من هذه المقالة.


28 نيسان 2008
 



 


 

Counters