| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الأثنين 22/9/ 2008



تحليل المجتمع من أجل تمزيق مقاومته – تجارب يفصلها نصف قرن

صائب خليل

في نيسان الماضي نشرت " مؤسسة العراق للأعلام والعلاقات الدولية" مقالة مترجمة عن النيوزويك (1) تتحدث عن فرق من علماء الإنثروبولوجيا (علم الشعوب) تقوم لحساب الجيش الأمريكي، بدراسة معتقدات الشعب العراقي وعاداته ومفاهيمه الإجتماعية وظروف معيشته، في مشروع وصف بأنه "يهدف إلى مساعدة القوات الأمريكية على تفهم الفروق الاجتماعية الدقيقة للمجتمع العراقي". ويتوصل هؤلاء إلى استنتاجاتهم بطرق مختلفة، فإضافةً إلى دراسة ما هو متوفر من دراسات عن المجتمع العراقي، يلجأون إلى المراقبة والمقابلات الشخصية وحتى البحث في القمامة لمعرفة "أنماط سلوك" المواطنين وأسلوب معيشتهم وتفضيلاتهم وما يؤثر بهم.

البرنامج الذي اعتبرته نيوزويك "مثير للجدل" يعرف باسم "نظام المنطقة البشرية"، وتقوم فكرته على "تجنيد الأكاديميين الذين يساعد مجال خبرتهم ومهاراتهم اللغوية القوات العسكرية الأمريكية على شن "حرب أكثر ذكاءً" لمكافحة التمرد في العراق وأفغانستان. ويهدف هؤلاء المختصون، من بين أشياء أخرى، إلى إعداد خرائط للسكان في مدن وقرى هذين البلدين، وتحديد القبائل المهمة وخطوط الضعف الموجودة فيها، ثم يقومون بتقديم المشورة والنصح للقادة العسكريين الأمريكيين بشأن الرؤية الأفضل لاستغلال التأييد المحلي لمهمتهم."

وكانت مخصصات المشروع حسب الصحيفة 40 مليون دولار، تمت إضافة 120 مليون دولار إليها لاحقاً في الوقت الذي تعاني بقية القطاعات العسكرية من الضغط المالي والتقشف، مما يظهر مدى حماس مخططي البنتاغون للفكرة وتوقعهم أن تلعب دوراً هاماً في مساعدة أمريكا على الانتصار في الحرب في العراق. وتسبب هذا الحماس الشديد للمشروع في انخفاض مستوى العاملين فيه لشدة الإستعجال في إنجازه. ويدفع للعاملين في المشروع مرتبات مجزية نظراً لأهمية وخطورة عملهم، ولكن أيضاً لتعويضهم عن الخسارة المعنوية والمادية التي قد تلحق بهم نتيجة عملهم حيث أعلنت جمعية الأنثروبولوجيين الأمريكية أن المشاركين في البرنامج سينتهكون على الأرجح المبادىء الأخلاقية للمهنة إذا أقدموا على تسجيل أنفسهم في البرنامج لأنهم سيوفرون المعلومات التي ستستعمل في عمليات عسكرية.

المقال ذكرني بقصة حدثت قبل نصف قرن في الفلبين (2) بين نفس النوع من الفرق الأمريكية وسكان البلاد، ولأن علاقة تلك البلاد مع محتليها الأمريكان فيه أكثر من نقطة شبه بحال العراق اليوم، والمقارنة معها أكثر مصداقية بكثير من مقارنة العراق باليابان والمانيا كما يحلو للبعض أن يفعل، اسمحوا لي أن اضيف بضعة أسطر عن خلفية الموضوع قبل الدخول فيه.

قال الرئيس الأمريكي وليام ماكنلي عام 1899: "لقد مشيت ارض البيت الأبيض ليلة بعد أخرى حتى بعد منتصف الليل؛ ولست خجلاً من أن أقول لكم ايها السادة بأني ركعت على ركبتيّ وصليت لله العظيم ليرشدني في اكثر من مرة. وفي إحدى الليالي جاءني الأمر هكذا، لا أدري كيف جاء، لكنه جاء:

(1) أننا لا نستطيع إعادتها (جزر الفلبين) الى إسبانيا، فسيكون ذلك جبناً وخسة؛
(2)
لايمكننا تسليمها إلى فرنسا أو المانيا، منافسينا التجاريين في الشرق، فذلك سيكون فشلاً تجارياً؛
(3) لانستطيع أن نتركهم (الفلبينيين) لوحدهم – فليسوا قادرين على حكم نفسهم بنفسهم، وستعمهم الفوضى بأكثر مما كانوا تحت حكم الإسبان. لذلك فلم يبق لنا سوى أن نأخذها (الجزر) جميعاً، وأن نعلم الفلبينيين ونرفعهم ونحضرهم ونمسحهم، وأن نفعل بهم خير ما نستطيع بإرادة الله، كأخوان لنا اعطى المسيح حياته من أجلهم هم أيضاً"

هكذا بدأت قصة أطول وأكبر مستعمرة أمريكية، بعد سنة واحدة فقط من تعاون الفلبينيين مع الأمريكان بطرد الإستعمار الإسباني للجزر، وهكذا حرم الرئيس الأمريكي وليام ماكنلي الفلبينيين من الإستقلال الذي كانوا يحلمون به. وحين لم يعجب هؤلاء الأمر، قامت قوة من 50 الف عسكري أمريكي بإفهامهم حقيقة الموقف، فقد استبدل الإستعمار القديم بعقودٍ جديدةٍ من الظلام والتعذيب والإرهاب وإحراق القرى والإستغلال الإقتصادي الشرس من خلال حكومات من اللصوص والقتلة تساندها الولايات المتحدة التي صرفت المبالغ الطائلة لمساندة الجيش والشرطة للقضاء على متمردي الشعب مثل "الهاك" (رغم أنهم ساعدوا الأمريكان في حربهم ضد اليابان)، والذين كان هدفهم السياسي الأساسي هو إعادة توزيع الأراضي لدعم الفلاحين المعدمين.

في عام 1946 قرر المتمردون الهاك تجربة قبول الديمقراطية وشاركوا في الإنتخابات، لكن تم حرمان ممثليهم من المقاعد التي فازوا بها في البرلمان بحجة أنهم حصلوا على الأصوات بالتهديد، دون إجراء أي تحقيق في الأمر، فعاد "الهاك" الى حمل السلاح..لكن هذا الإجراء كان ضروري للأمريكان، فقد كفل بالضبط العدد اللازم لتوقيع البرلمان إتفاقية "ستراتيجية طويلة الأمد"، عسكرية - تجارية مع الولايات المتحدة.
إضافة إلى عقد التعاون التجاري، تم توقيع عقد عام 1947 ينص على إيواء الفلبين لـ 23 قاعدة عسكرية أمريكية ولمدة 99 عاماً. وجاء ضمن الإتفاق أن العسكريين الأمريكان الذين يرتكبون جرائم خارج تلك القواعد أثناء أداء الواجب، سيحاسبون فقط من قبل محاكم عسكرية أمريكية في داخل القواعد! وكان على الفلبين أن تحصل على موافقة أميركا عند شراء أية أسلحة من مصدر آخر. وقد لعب هذا الإتفاق، إضافة إلى عقود التدريب دوراً حاسماً في إبقاء الجيش الفلبيني معتمداً تماماً على الولايات المتحدة بعد ذلك.

وبينما كانت نذر الحرب الأهلية تتصاعد في عام 1950، وصل الى البلاد الكولونيل الأمريكي إدوارد لانسديل، والذي كان قد عمل سابقاً كرجل دعاية يقوم بدراسة بحوث السوق بما تتضمنه من دراسة دوافع الناس وعاداتهم. وبعيداً عن منصبه كضابط ارتباط، استلم لانسديل سراً رئاسة قسم العلميات السرية والميليشيات في الـ سي آي أي (CIA) في الفلبين.

قام فريق لانسديل بدراسة تفصيلية للمعتقدات والخرافات التي يؤمن بها الفلاحين الفلبينيين الذين يسكنون المناطق التي يتواجد فيها ثوار "ألهاك"، وعرضت اساطيرهم ومحرماتهم وتراكمات ثقافاتهم للفحص الدقيق بحثاً عن أي طريق ممكن لإبعاد الفلاحين عن الثوار وشق صفوفهم. وكان من محاولاتهم الناجحة، القاء منشورات باللغات المحلية من طائرة صغيرة في يوم غائم يحجبها عن الرؤية، بدت كأنها جاءت من السماء، تهدد بنزول اللعنات الإلهية على كل من يقدم الطعام للثوار. وبالفعل نجحت الفكرة حتى دفع الجوع ببعض وحدات هؤلاء إلى الإستسلام.

وفي مرة ثانية تم التركيز على شخصية خرافية يؤمن بها الريفيون الفلبينيون ويرهبونها، لمصاص دماء يسمى "اسوانج". بدأت العملية بدخول فريق خاص بالحرب النفسية إلى مدينة قريبة من تلال يتحصن بها الثوار وأشاعوا فيها أن "الأسوانج" يسكنون تلك التلال. بعد يومين، أي بعد أن اتيح للإشاعة أن تدور في المدينة وتصل إلى الثوار، قامت دورية من قوات خاصة بنصب كمين لمجموعة من الثوار عند خروجهم من مخابئهم، وعند مرور هؤلاء تم القبض على آخر رجل في المجموعة دون أن يحس الباقون به. بعد ذلك تم تعليق الرجل من قدميه واحداث ثقبين رقبته، وترك معلقاً حتى نزف كل دمه، ثم تركت جثته على طريق عودة رفاقه.
حينما عاد الثوار وجدوا جثة صاحبهم صفراء وقد امتصت كل دمائها وآثار "أسنان" مصاص الدماء على رقبتها، فاصيبوا بالهلع وسرعان ما تركوا المنطقة المحصنة!

عودة إلى عمل فرق "المناطق البشرية" في العراق، نلاحظ أن االفارق الزمني بين الموضوعين يزيد عن نصف قرن لذا فأن ما يحدث في العراق مازال حديثاً ولم تكشف أسراره وقصصه بعد، لكننا لن نبتعد عن الموضوعية إن توقعنا مفاجآة وقصص مدهشة مثل قصة "مصاص الدماء" الفلبيني وأكثر، باعتبار التطور الهائل الذي حصل للأجهزة الأمريكية سواء في قدرة الـ ( CIA) للوصول إلى المعلومات أو قدرة فريق البحث على تحليلها وتطبيق الخبرة المتجمعة لديه في التعامل مع شعوب كثيرة رزحت تحت نير حكومات شرسة دعمتها أميركا خلال الحرب الباردة. لكننا لن نتمكن من معرفة ما جرى ويجري في العراق فعلاً، إلا قبل مرور وقت طويل، إن عرفنا فعلاً.

لكن مع ذلك يمكننا لمس بعض مظاهر هذا النجاح، فيشير مقال نيوزويك إلى أن "تومبكنز، كابتن سابق في الجيش يترأس "فريق منطقة بشرية"، قال إن زملاءه في الفريق ساعدوا القوات الأمريكية في المنطقة على وضع استراتيجية لجعل قائد شيعي للشرطة يشن حملة ضد رجال شرطة تابعين له، ويتعاملون مع متمردين شيعة. فقد اقترح أعضاء فريق تومبكنز أن يقوم الجنود الأمريكيون باستثارة شعور الكرامة والكبرياء لدى الرجل بالإشارة إلى أن أفراد الشرطة الفاسدين العاملين تحت إمرته يتندرون على سلطته. وبعد أسابيع أبلغ تومبكنز أنه لاحظ أن قائد الشرطة استشاط غضبا فعلا حين ذكرت له بعض الأمثلة." ونفذ المخطط.

لعل هذه القصة الصغيرة تمثل رأس جبل الثلج الذي يمثل دور مثل هذه الفرق في تأجيج التوترات في العراق، والذي لا يحق لنا اليوم إلا أن نتوقع حجمه، لكننا أن نراه بكليته يوماً ما.

هوامش:

(1) ملايين الدولارات ينفقها الجيش الاميركي لتحليل مكونات المجتمع العراقي
http://iraqmc.com/modules.php?name=News&file=article&sid=1653

(2) William Blum: “Killing Hope”
لتفاصيل مراجع المعلومات يمكن مراجعة الفصل الرابع من الكتاب والمعنون: "الفلبين في الأربعينات والخمسينات": اقدم المستعمرات الأمريكية؛
 

free web counter