| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الجمعة 19/12/ 2008



الإحساس بالدونية وراء الهجوم على منتظر
وليس الحرص على التهذيب

صائب خليل

ركز مهاجموا منتظر الزيدي على ثلاث نقاط:
النقطة الأولى هي أنه عمل "جبان" لأن منتظر لم يكن سيجرؤ على مثل هذا أمام صدام،.
والنقطة الثانية هي أنه ليس من الأصول معاملة شخص بهذه الطريقة، خاصة الضيف وصاحب فضل تحرير البلاد من الدكتاتورية.
والنقطة الثالثة هي أنه كان بإمكانه بدلاً من ذلك أن يلجأ إلى طريقة أكثر حضارية وتأثيراً ويقدم له سؤالاً محرجاً وبطريقة مهذبة، مثلاً أن يسأله عن مصير عدد كبير من المعتقلين لدى القوات الأمريكية.

النقطة الأولى التي يحاجج منتقدي منتظر بها هي أنه لم يكن سيجرؤ على فعل هذا أمام صدام، ولذا فهو "جبان". وفي الوقت الذي نوافق فيه أن قول الحقيقة أمام صدام أكثر خطراً بكثير، لكن الإستنتاج بأن كل من لم يفعلها هو جبان استنتاج مضحك، لأنه ينطبق قبل كل شيء على أصحاب تلك المقولة! فلم لم يفعل هؤلاء ذلك في وقتها إن لم يكونوا جبناء؟

يستطيع من يتجنب "الشجاعة" أمام قطيع من الذئاب أن يبرر ذلك بأن القيام بحركة غير مناسبة ستقضي عليه وعلى أفراد عائلته وأقربائه إلى الدرجة العاشرة كما قال المنتقدون انفسهم، لكن كيف يفسر هؤلاء الإمتناع عن العمل الشجاع حين يجدوا أنفسهم أمام "كلب" محدود الأذى؟ من هو الأجدر بوصف الجبان من يحجم أمام خطر هائل يشمله ويشمل اهله أم من يجبن أمام خطر محدود نسبياً؟ وكيف يمكن وصف الوحيد الذي تصرف بشجاعة أمام الخطر المحدود، بأنه "الجبان"؟
ولكن هل كان عمل منتظر خالياً فعلاً من الخطر؟ الم يكن محتملاً جداً أن يغيب في سجون القوات الأمريكية أو وزارة الداخلية الغاضبة على كرامتها وكرامة أسيادها التي داسها في الوحل؟ ألم يكن محتملاً أن احد أفراد الحماية الأمريكية أو العراقية المدربين، كان سيطلق النار عليه فور امتداد يد منتظر نحو حذائه مثلاً، خوفاً من أن يكون على وشك استعمال سلاح مخفي فيه؟ الم يكن محتملاً أن يتصور أحدهم أن في الأحذية قنابل مخفية فيقتله قبل أن يطلق الثانية على الأقل؟
حتى المواطنين الأمريكان الكارهين لسياسة بوش صاروا يسألون أنفسهم لماذا لم يكن بيينا من جرؤ على مثل هذا العمل؟ كيف إذن يكون من قام بهذه المخاطرة "جباناً" ومن لم يفعل شيء على الإطلاق، ينفخ صدره باعتباره شجاعاً؟

المسألة الثانية هي حول أصول معاملة "الضيف"، ولنبدأ مناقشتها بطرح السؤال: هل أن بوش ضيف؟
يرى ياسين مجيد المستشار الصحفي لنوري المالكي أن "الزيدي ... قام بالاعتداء على شخصية رسمية ضيفة على الحكومة العراقية"، لكن الصحفي الكبير "باتريك كوكبرن" يقول: "في بغداد، تمكن بوش أن يرى ولأول مرة منذ خمسة سنوات، وبشكل زوج من الأحذية المنطلقة نحوه، رأي الكثير من العراقيين فيه".
فأيهما المحق بتقديره لموقف العراقيين، ياسين مجيد أم كوكبرن؟

صحيح أن بوش كان في بلادنا، لكن هل هو ضيف أم هو محتل؟ هل يبقي فيها جيشه باختيار الناس أم بالتخويف والتهديد والإرهاب والدسائس وكمية هائلة من الأكاذيب وربما بعض القتل؟ ربما يختلف اللائمون لمنتظر معه على هذا التقييم، لكن من أجل تقييم أخلاقية عمل الرجل، لابد من أخذ وجهة نظره في هذا الأمر، فلا تستطيع أن تلوم من يعتبر بوش محتلاً ومجرماً، على أنه لم يعامله كضيف.
إن كان السيد ياسين يرى أنه مادام رئيس الوزراء العراق قد اعتبره ضيفاً فهو كذلك، فله بعض الحق في هذه النقطة، لكن يجب أن نذكر هنا أن قوات بوش سبق واعتقلت ضيوف رسميين آخرين للعراق، ولم تنفع توسلات مضيفيهم من رئيس الوزراء إلى رئيس الجمهورية، في إطلاق سراحهم! فأي ضيوف هؤلاء الذين يخطفون ضيوف مضيفيهم؟

على أية حال، مما لاشك فيه أن لمنتظر كل الحق أن يختلف مع من يعتبر بوش ضيفاً، على الأقل لأنه رأى صور أبو غريب وسمع بقصة عبير ورأى في التلفزيون ضحايا الرمادي والقصف على الفلوجة وربما قرأ فضائع ما كان يجري في السجون الأمريكية، هذا إن لم يكن قد عرف بعض ضحايا هذا الضيف شخصياً، خاصة وأنه من مدينة حصلت على حصة "أسد" من "أفضال" الأمريكان أكثر من غيرها. هذه تجربة العراقيين مع بوش وجيشه، وأن محاولة إنكارها ومحوها من الذاكرة لا تستحق حتى المناقشة، لبؤسها، بل هي تسعدنا لأنها تفضح اصحابها. فلا يعتبر المغتصبين الذين يفرضون نفسهم وجرائمهم على البلاد ضيوفاً إلا من فقد الإتصال بالواقع، ولا يقلل من قيمة جرائمهم على أبناء بلده سوى شخص يحس بدونية شديدة لشخصه لتشمل كل ما يتعلق به من أهله وبلده.

أما مسألة تحرير بوش للعراق من الدكتاتورية فهي كلمة حق إن أخذت لوحدها، رغم أن والد بوش نفسه هو من حافظ على صدام من الإنتفاضة, ورغم أن هذا وفريقه ومن سبقه من جماعته هم من دعموا صدام في كل جرائمه على الشعب العراقي بعربه وأكراده ودعمه في حروبه التي يتفق الجميع بأنها كانت إجرامية، بل أنهم حرضوه عليها وأوقعوه في الفخ ليرتكبها وليحصد الشعب العراقي منها الويلات والآلام والفقر والموت...
ومع ذلك كان الشعب العراقي كريم النفس وفرح حين دخل الجيش الأمريكي، وقال "عفا الله عما سلف" شكراً لكم، أخرجوا الآن....لكنهم كانوا مصرين على "صداقتنا" إلى الأبد، ومن يعترض كان يتعرض للرشوة والتهديد وفي إحدى المرات طال القتل حتى البرلمانيين. أما الجماعات التي ترفض بقاء بوش وجيشه فتعرضت لكل أنواع الأهوال التي يمكن تخيلها. كان مصراً على إعادة البعث إلى الحكم ليحكم من خلاله الشعب الذي "حرره" تواً. كان يريد استبدال المستبد الذي استهلك بعد أن قدم له الخدمات الجليلة، بمستبد آخر.
لكن جهود رئيس الوزراء الذي انتخبه الأمريكان "علاوي"، أقرب الشخصيات إلى صدام وطبيعته، ورفيقه القديم الذي اختلف معه، لإعادة "البعثيين الذين لم تتم إدانتهم" إلى الأجهزة الأمنية، لم تحقق النجاح المطلوب، وجرى طرده هو الآخر بالأحذية.

لكن البعض يرى غير ذلك. فارس حامد الزبيدي، نائب رئيس هيئة النزاهة يقول: " ولا ينكر احد هول الجرائم التي ارتكبت في ظل النظام البائد، والفاعل ابن مدينة الصدر ويعرف جيداً كم عانت مدينته عهد الطاغية المقبور وكم قدمت من كواكب الشهداء ، وكم اعتدي في ظل ذلك النظام على أعراض الناس ، وكيف سيقت الآلاف من العراقيات الى سراديب الامن العامة بناءاً على اخبارات مفتعلة ، ليكن بيد وحوش وذئاب جائعة ، ليعذبن حتى تتعرى ملابسهن وسط جلسات السكر والعربدة ، والكل يعرف كم فتاة اختطفت على يد ابن المقبور وزبانيته ، وكم اعدم من خيرة شباب العراق حتى أصبح لبعض العوائل أكثر من خمس شهداء معدومين ."
صحيح ولكن اولاً ما علاقة وحشية النظام السابقة بهذا؟ هل نحن بصدد ضرب بوش لأنه أزال النظام السابق أم لجرائمه في العراق؟ أن محاولة تصوير الأمر وكأنه يعني دفاع عن صدام ليس سوى حيلة دنيئة تبتغي الإساءة إلى هذا العمل الإحتجاجي....اليس رائعاً أن تكون ذاكرة هذا النائب حادة بهذا الشكل البديع لأحداث مرت عليها بضعة سنوات وتتمكن في نفس الوقت من نسيان تام لأحداث قصف وقتل مازالت طرية في ذاكرة كل عراقي؟ ليس لكل شخص هذه القدرة النفاقية الفائقة يا فارس، فهي موهبة نادرة! هنيئاً لـ "النزاهة" بك. إن موهبتك تصلح أكثر لوظيفة "ناطق رسمي"، أما بالنسبة لنا فجريمة مجرم لاتبرر جرائم آخر, والشعب يرفض كل المجرمين بحقه.

يقول عبد الخالق حسين عن الحدث انه : يعكس الأخلاق المنحطة التي غرسها نظام البعث في العراق خلال حكمه لأكثر من ثلاثة عقود. وهو ليس فردياً بل مرض شامل في البلاد العربية، بدليل ما نال هذا الحدث الشنيع من تأييد واسع في الشارع العربي."
وفي هذا أيضاً, وللمرة الألف يمارس الدكتور عبد الخالق هوايته المفضلة في "قلب الحقائق" كما أشرت في جميع مقالاتي التي ترد على ما يكتب. فمتى "غرس نظام البعث في العراق" عادة رمي المسؤولين بالأحذية؟ الأحق هو أنه غرس في أنفسهم اعتبار تلك الحركة أمر "شنيع" وجريمة كبرى يجب عدم التفكير بها، كما يفعل عبد الخالق بالضبط!

اعتراف عبد الخالق بأن "الحدث الشنيع" لقي تأييداً واسعاً في الشارع العربي، والحقيقة أنه لقي تأييداً واسعاً في الشارع العراقي والعالمي أيضاً. فلم يستطع بوش، الذي اعترف مؤخراً "بأخطائه" واعترف بسوء شعبيته ان يقنع الشعب العراقي ولا العربي بالصورة الرائعة التي نجح في غرسها في رأس الدكتور عبد الخالق وأيضاً عزيز الحاج: " يخطئ من يتوهم أن صحافة الحذاء تنال قيد شعرة من مكانة رجل عظيم"....ولا أعلق على هذا سوى أن لكل إنسان تقييمه لمن هو عظيم ومن هو حقير، ويذكرني قول الشاعر: فتعظم في عين الـ...

اما النقطة الثالثة، فكانت أن منتظر كان يمكنه أن يتفضل "بتقديم أسئلته إلى "الضيف" بشكل "مهذب" ليتكرم الأخير بتقديم الإجابة عليها بدلاً من هذه الطريقة "الوحشية".
تبنى هذا النقد العديد من الكتاب والمسؤولين مثل مستشار الأمن القومي موفق الربيعي الذي قال:التعبير عن الرأي يجب ألا يكون بهذه الطريقة الهمجية كان يمكن أن يستعمل القلم والصوت والكثير من الوسائل الأخرى ليعبر عن وجهة نظره بطريقة حضارية لكنه فضل اختيار هذه الطريقة الهمجية التي يتبرأ منها الشعب العراقي".
كلام الربيعي صحيح من الناحية النظرية، لكنه ليس دقيق على الإطلاق من الناحية العملية، وهو يعلم جيداً أن الشعب العراقي لم يتبرأ من طريقة منتظر، وهذا بالضبط هو ما يزعج السيد الربيعي. ففي كل البلاد الديمقراطية، حتى أشدها ديمقراطية، لم يبرهن "توجيه الأسئلة" عن كونه كافياً، وهم يضطرون إلى استخدام اساليب أقل "حضارية" لجذب انتباه الساسة الذين يتجاهلون آراء الشعب. في كل ديمقراطية في العالم يمارسون أحياناً ضرب السياسي بالكيك وغيره على وجهه، حين يشعرون أنه بالغ في تجاهل أسئلتهم ومطالبهم.

لقد أورد الزميل خالد صبيح في مقال له أمس على الحوار المتمدن امثلة عديدة على ذلك: "ففي أوربا وقعت العديد من الحوادث المشابهة لرؤساء حكومات ووزراء مثل ساركوزي وبلير ضربوا فيها بأطباق حلوى وغيرها .... وقد وجه احد المواطنين الألمان في الشارع ركلة إلى رئيس الوزراء الألماني في التسعينات هلموت كول أثناء لقاءه بحشد من المواطنين..... رشق بعض الطلبة اليابانيين رئيس وزراء بلادهم بالحذاء وذلك أثناء احتجاجات اليابانيين على سياسة بلادهم المؤيدة لامريكا في أثناء حومة أزمة حرب الخليج والتحشيد الأمريكي ضد العراق في عام1991، وقد كان رئيس الوزراء الياباني حينها يلقي كلمة في البرلمان حينما رموه بالحذاء فسقط أمامه على المنصة."
وأضيف إلى تلك الأمثلة المزيد من الأمثلة من هولندا في السنوات الأخيرة، الأول حدث أثناء نقل تلفزيوني للوضع البائس في مخيمات اللاجئين السياسيين في هولندا حيث وضعوا حينها في خيم تحت المطر، فوجه أحد الناشطين صفعة قوية إلى وجه "ديهوب شخيفر" (الأمين العام لحلف الناتو حالياً) وكان حينها يشغل منصباً كبيراً في الحكومة الهولندية، أثناء زيارته لذلك المخيم، وهو من أكثر الشخصيات السياسية قرباً للأمريكان والتي يمقتها الهولنديين.
وضربت ناشطة من منظمة يسارية، وجه السياسية العنصرية المسؤولة عن اللاجئين "ريتا فردونك" بقطعة كيك كبيرة، وكذلك رمي السياسي الشعبوي الكاره للأجانب "بيم فورتان" بكيكة محشوة بـ "الخراء" في حفل تقديم كتابه.

هذا في هولندا وفي بلدان ديمقراطية أخرى, وليس في بلدان "العربان" كما يحلو لبعض المثقفين تسميتها، ولم تقم الدنيا على من فعل مثل ذلك كما قامت في العراق، فالكل يعلم جيداً أن للسياسيين اساليبهم الملتوية لتجاهل أراء الناس، وأن الناس لا يجب ان تكتفي "بتقديم الأسئلة" بل باللجوء إلى الضغط بأشكاله المختلفة, وحتى المؤذي أحياناً. ويعلم السياسيون في هذه البلدان أنهم يجب أن يكونوا مستعدين أحياناً لمثل هذه الإزعاجات، ويردون عليها عادة بالمزاح قدر الإمكان. وبالفعل ترددت حركة منتظر بشكل مزحات سياسية في العالم ولم يمض عليها سوى أيام قليلة فقد انتزع الرئيس البرازيلي لويس ايناسيو لولا دا سيلفا ضحكات الصحفيين والسياسيين على حد سواء في بداية مؤتمر صحفي يوم الاربعاء الماضي عندما قال "في هذا الجو الحار .. اذا خلع أحد حذاءه سنعلم على الفور بسبب الرائحة."

الديمقراطية لم تكن في أي من بلدان العالم عبارة عن "تقديم أسئلة" والحصول على "اجوبة" فقط ومن منكم لم ير التظاهرات العنيفة في أشد بلدان العالم ديمقراطية؟ إننا لم نتفوق بعد ديمقراطية على هذه البلدان، علماً انها لم تكن تحت الإحتلال. أظن أنه ليس من العدل مطالبة شاب من مدينة الثورة ورأى ما رأى من اهوال أن يكون أكثر ديمقراطية من الشباب في هولندا أو كوريا الجنوبية.

ويمكننا أن نعود إلى العراق لنرى فعالية "الأسئلة المهذبة" مع بوش، فما الذي فعلته مئات الشكاوى "المهذبة" مع بوش وقادة جيشه, وما الذي اعادته من حق لأصحابه؟ هل منعت اختطاف المجرمين المدانين من ايدي الشرطة العراقية؟ هل منعتهم من تهريبهم الى الخارج؟ هل تمكنت من الضغط عليهم لتسليم المجرمين العراقيين الكبار الذين لايمتلكون أية حجة للإحتفاظ بهم، لا جنسية أمريكية ولا أي مبرر آخر؟ ولعلنا نذكر ما دمنا هنا، تصرف هؤلاء "الضيوف" مع ضيوف دبلوماسيين جاءوا إلى العراق بدعوة من رئيس الجمهورية فاختطفهم هؤلاء "الضيوف" ورفضوا تسليمهم للدولة المضيفة لهم، رغم كل الإحراج والإهانة لتلك الحكومة التي بدت غير قادرة على حماية ضيوفها في بلادها، فأي ضيوف هم هؤلاء "خاطفي الضيوف"؟
ونسأل أيضاً: ما كانت نتيجة "الطلب المهذب" الذي قدمه المالكي بنفسه إلى الرئيس بوش حين شكى له أنه لايستطيع التعامل مع "بترايوس"؟ قال له بوش أن عليه أن يهدأ!!
عندما تكون هذه هي الأجوبة المنتظرة من "السؤال المهذب"، فليس من الغريب أن يلجأ الناس في العراق كما في كل أنحاء العالم إلى طرق أخرى لإرغام الساسة على سماع أصواتهم وتقديم إجابات مقنعة.
لا نظن أن هذه الأمثلة قد انمحت من ذاكرة من يطالب بالإكتفاء بـ "الأسئلة المهذبة" فلماذا تم تجاهلها؟

من الذين لم يتجاهلوا حقائق الإحتلال وقدروا أن هناك دوافع كافية لحركة منتظر، ومع ذلك دعوا إلى عدم الإندفاع في هذا الإتجاه، الأستاذ عبد العالي الحراك، الذي كتب: "ارجو من مثقفينا ان لا يعتبروا الحذاء ثقافة العراقيين .....صحيح انه تعبير عاطفي عن رفض العراقيين للاحتلال ولكنه لا يتحمل كل هذا التمجيد والاطراء والثناء كما لا يستحق التهجم والازدراء..يفترض ان يجير الرفض العاطفي الى رفض علمي مدروس وعملي وليس انفعالي يعم معظم الناس ويقال عنا اننا نرفض الاحتلال بالحذاء ولا نرفضه في البرلمان ولا في الشارع العام.. ايها الكتاب المحترمين لا تعطوا اهتماما اكبر للموضوع بل ركزوا على اهتماماتكم الوطنية الملحة التي يحتاجها المواطن العراقي.. ان لا نضيع وقتنا بالعواطف والانفعالات يحركنا حذاء ويدمرنا احتلال يجب مواجهته بما يستوجب من تنظيم ووحدة وطنية وسلامة موقف......ليكن الاستخدام الاخير للحذاء حتى لا يقال عن ان ثقافتنا ثقافة حذاء."

وفي هذا أود أن أشير أن تعبير "إنها ثقافة حذاء" غير دقيقة، مثلما يكون وصف الديمقراطية الغربية بأنها ثقافة رمي الكيك والطماطة. بل هي "ثقافة احتجاج" ولها أن تستعمل الحذاء والكيك والطماطه إن هي وجدت ضرورة لذلك، وفي ثقافة الإحتجاج هذه ارتفاع حضاري وليس هبوط.

وهنا قد يسأل سائل: أين الحدود في ذلك؟ كيف نعرف أن مثل هذه الإحتجاجات لا تذهب إلى أبعد من اللازم فتمارس حتى حين لايكون لها داع؟
وهناك جواب سهل على ذلك، فأهمية حذاء منتظر وكذلك الكيكة المحشوة بالخراء التي ضربت بيم فورتان، ليس في الكيكة أو الحذاء وأذاهما وإنما في رد فعل الناس عليهما وعلى أفعال الإحتجاج هذه. فإن كانت ردود الفعل الشعبية مؤيدة وقوية كان ذلك يعني أن الشعب يشعر أن الحكومة تتجاهل مطالبه وأسئلته. والخطر على الحكومة أيضاً ليس في الحذاء وإنما في التأييد الشعبي الذي يحصل عليه هذا الفعل. فواحدة من أقوى أسلحة الحكومة على مستوى القطر, وأسلحة الأمريكان على مستوى العالم، هو إعطاء الإحساس بأن الكلام والكتابة والصحف لامعنى لها ولا تأثير، وهي تدفع بالناس في النهاية إلى هجر القراءة والسخرية منها, والإستسلام إلى إرادة القوة السياسية والعسكرية للقوة المتسلطة. لقد كتبت قبل أيام مقالة (أو قصيدة...سمها ما شئت) عن الموضوع تحت عنوان : وهي تعبر بالضبط عن هذه المشكلة, وكان الإحتجاج الحذائي لمنتظر هو بالضبط البلسم الشافي للموقف، كما انتبهت إحدى القارئات (التي لا تريد أن أكتب اسمها) فكتبت لي: كأن منتظر الزيدي سوة هالشي مخصوص لان استاذ صائب جان مقهور ومزعوج من اصحاب الارادة الامريكية وانهزام العقل فقرر يتضامن معه ويجبر بخاطره صرخة مقاتلين بمقاتل واحد الاول ياقباحة النشاز، والاخر قبلة الوداع يا كلب"!

أن ثقافة الإحتجاج هذه سلاح لا مناص من استخدامه مقابل سلاح السياسيين المتمثل في قدرتهم على التهرب من أسئلة الناس واحتجاجاتهم المهذبة، والفاصل الذي يحدد الحدود في استعمال هذه الأسلحة هو تأثيرها، فلو لم يكن هناك مبرر لدى الناس لضربة الزيدي، لأثارت استهجانهم بدلاً من سعادتهم، ولما أدت غرضها بل لكانت في صالح الحكومة وبوش بدلاً من أن ترعبهم كما فعلت ومعهم كل مضطهدي شعوبهم في العالم. ليس عندي شك أن حذاء منتظر سيكون له دور في تردد الحكام الكريهين في العالم في ارتكاب المزيد من الإضطهاد وتجاهل أصوات شعبهم، لأنه سلاح يكاد يستحيل منعه. أعن كل هذا يقال أنه ليس مهم وأنه يجب أن لايكرر؟ بالعكس يجب أن تكون مودة ضد كل حكومة بعيدة عن شعبها فهي لا تخشى الكلمات كما تخشى القنادر! وبالفعل كانت هناك آراء تنادي بأن يصبح ضرب الأحذية ضد من يتجاهل إرادة شعبه وضد المحتلين اكثر، عادة شعبية! أما الحارس الأمين لعدم إساءة استعمال هذا السلاح فكما قلت: هو رد الفعل الجماهيري على استعماله: إن كان سعيداً به، حقق هدفه وكان الحاكم مستحقاً للضربة, وإن لم يكن كذلك فلا يضير الحاكم مثل تلك الحركات.

لماذا توضع "شروط "حضارية" اقسى بكثيراً في العراق لحماية الساسة من غضب الناس؟ " ما هذا التحضر الذي نزل فجأة"؟ كما تقول السيدة سرى الصراف؟ يبدو أنه "ينزل" دائماً عند التصرف أمام "الملوك"، فقد اعتاد الناس أن "الجميع يبدوا مهذباً أمام الملوك" فلماذا يا ترى؟ هل يزداد الأدب هناك؟ هل ترتفع الأخلاق؟ هو هو "تحضر" فعلاً؟

لا ينتظر من العراقيين أن يتصرفوا وهم تحت الإحتلال، "بحضارية" أكبر من تلك التي يتصرف بها الهولنديون والفرنسيون واليابانيون أمام حكوماتهم المنتخبة بحرية، لذا فليس من المعقول أن يكون الحرص على التهذيب وراء هذا الإحتجاج على تصرف منتظر، فما هو الدافع إذن؟
أنا لا أجد له مبرراً سوى استسهال التنازل عن حقوقهم للآخرين و"تسامحهم" معهم حتى في أذيتهم وإهانتهم وارتكاب الجرائم بحقهم. أن الدافع وراء تهذيب هؤلاء لا يختلف عن دافع الكثرة من "المهذبين" أمام الملوك. إنه وبصراحة ليس سوى :الإحساس بالدونية! وليس ادعاء "الشجاعة" و "الحضارة" و "التهذيب" إلا أغطية تهدف إلى أخفاء هذه الحقيقة المخجلة. فـ "الفرق كبير بين من احب التهذيب ومن جبن عن الإتيان بالوقاحة" *، وهذا الفرق هو الفرق بين التصرف المنطلق من الإحساس بالكرامة وبين ذاك المنطلق من الإحساس بالدونية، والذي لا ينتفخ إلا أمام "الملوك"!


19 كانون الأول 2008

*
تحوير بسيط لمقولة لنيتشة

 


 

free web counter