| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الثلاثاء 13/1/ 2009

 

إيميلات من غزة

صائب خليل

جاءني إيميل يشكرني على مقالاتي من السيدة "أماني أبو رحمه"، موقعاً: من غزة!
وحين سألتها غير مصدق عن مكانها، جاءني الرد:

"انا في غزة فعلا تصور!!!!!
اذا بتذكر مقال "هل يوجد يسار حقيقي في اسرائيل" اللي انا ترجمته وانت اخدت جزء منه في نشرتك
هاي انا...
كتييير انبسطت بردك"

قلت لها أن العالم مهتم كثيراً بغزة وأن لا تيأس وطلبت منها ان تكتب إن استطاعت. ما وصلني من بعد ذلك في بضعة إيميلات من "أماني" انقله لكم، ويبدو أن بعضه كانت قد كتبته يوم 6 – 1 وأرسلته مرفقاً...وآخرها وصل اليوم. أترككم مع أماني تصف لكم ما يحدث الآن في غزة:

في البيت وحدي وأطفالي الثلاثة...احضن محمد الصغير الجميل , انتقل من مكان لآخرز سماعة راديو الجوال في أذني.... اقلب المؤشر بين المحطات المحلية :كأني انتظر خبرا , ماذا انتظر ؟؟ موت شخص اعرفه أم هدم منزله. افتح نافذة البيت , ترى أي هدف لإسرائيل هنا؟ المشفى ربما؟ مستشفى الأمراض العقلية؟ لا .لا يمكن أن تطلق المرضى في الشوارع , أعود بذاكرتي آه... لكنها فعلت ذلك في بيت لحم , ربما لا تريد تكرار ذلك... وربما تكرره !
الجامع إذا؟ المخبز؟ , روضة طفلي, كلها أهداف محتملة , عرفتنا هذه الحرب حقيقة الأهداف الصهيونية , كلنا أهداف.... يا الله
المذيع في إذاعة محلية يتحدث عن قصف فتى عَبَر الشارع بصاروخ !
يا الهي....البرابرة يحاصرون الوقت والمكان...الدبابات تحاصر الأنفاس اللاهثة في الأزقة المتفرعة من خيبة الرحلة الطويلة...
محمد : ماما مش قلتيلي انو الاسرائليين اخدو بلدنا الحلوة طب ليش جايين هنا؟؟؟؟ فش أبلاد تاني يروحو عليها؟؟
محمد متى ستفهم سكان غزة يا صغيري لاجئون ثم نازحون ثم تحت الاحتلال ثم محاصرون والآن يقصفون بالقنابل والمدافع . يسقطون أرقاما على حواف الطرقات , اه , اصمت يا صغيري سأشرح لك عندما تكبر.
الانفجارات تتلاحق ....يهرب الناس إلى المجهول يبحثون عن فرصة للنجاة
اراهم في الطرقات يتراكضون ساهمين واشباح الموت تتراقص حولهم
عربات الاسعاف تملأ المكان....اخرسي, ايتها المجنونة , كي نسمع أصوات الموت قبل وصوله فنهرب منه
يحضنني الخوف... يخنقني.

طرقات عنيفة على الباب ! جارتي تصرخ : أماني بدي تلفون ارضي قصفوا مدرسة بجباليا جنب اهلي وشبكة الجوال معطلة!!
لم اجب.... هي تعرف انه لا هاتف ارضي عندي وربما في كل البناية.
انظر اليها وقد هرب الدم من وجهها الناحل أصلا...أطفالها في الزاوية وأطفالي حولي..محمد يتشبث بساقي ودون ان انبس بكلمة غيرت محطة الراديو وصوت المراسل الأجش يصرخ مدرسة يا عبد الناصر(المذيع). مدرسة .أغارت الطائرات على مدرسة في جباليا... المدرسة تابعة لوكالة الغوث نحن في الطريق الى هناك
لحظات :: طالع لك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع .....انقطاع ... موسيقى جنائزية..
نعم يا عماد( المراسل) : (عماد يجهش بالبكاء يعتذر عن مواصلة الحديث.....)

صمت وفراغ ابيض كالموت يخيم على الغرفة حيث نجلس
بناتي, طفلتان والروح بيضاء, تحملقان والمرأة تنتحب وتضرب رأسها بالجدار:" أهلي قريبون جدا من المدرسة!"
عماد من جديد: عبد الناصر... مشهد لا يصدق !!! لوحة لساحة حرب همجية.....جثث فوق بعضها البعض , أشلاء متناثرة , اجساد بلا رؤوس ,رؤوس محروقة ., بطون مبقورة , وأناس يركضون في كل اتجاه , يتعثرون , يسقطون ثم ينهضون يتدافعون , يصرخون , يستغيثون : يا الله . المشهد لا تنقصه الخيول الغازية لأنها اليوم غربان تحلق في السماء!!
عماد أصابته الهستريا اخذ يصرخ...:" مدرسة تابعة لوكالة الغوث!!" , "مدرسة احتمى بها الأبرياء بعدما هدمت الدبابات بيوتهم , ما كادوا يصلون حتى عاجلهم القصف!!"
مدرسة!!! مدرسة !!! .......أناديكم , اشد على اياديكم وابوس الارض تحت نعالكم واقول افديكم .......

صمت مطبق خيم على غزة كلها سكتت الضحية والجلاد معا في وقت واحد، فقد اسدل الستار وغادر الابطال الحلبة.
بقذيفة يبدأ الخبر العاجل وينتهي بمجزرة...
تخرج جارتي بصمت مهيب , أهلها , لا مجال للسؤال عنهم.... إن لم يكونوا ضحايا اليوم فهم ضحايا مؤجلون لوقت آخر.
أنا , وحدي مجددا وتفاصيل تتجه نحو جحيم لاهب...., أهم بالصراخ فيرتد صوتي صمتا أمام فظاعة الموقف
انكمشت في مقعدي انتظر الليل والخوف الذي سيعود حتما الى غرفتي..
اه,يا الله, يا صادق الوعد اغفر لي وحشتي وأرسل ملائكتك لتحرس بقاءنا وأحلامنا وامنح جذورنا خلاصة الثبات

أماني أبو رحمه،
غزة
6/1/2009

مرحبا...
امبارح اجتني الكهربا بعد قطع 6 ايام متواصلة صلحو الخط بالاتفاق مع الصليب الاحمر , كان النور بالبيت مفاجأة ضحكنا بشكل هستيري وصرنا نركض ايش بدنا نعمل...
عبينا البراميل مي وسخنا وتحممنا....
اليوم اجت شوي.. كملنا اشغالنا..
انا عجنت اليوم لاول مرة بحياتي اخدت طحين من جارتي وما زبط الخبز احبطت فوق ما انا محبطة
هلا ولا بنطبخ ولا اشي فش غاز بالمرة...على المعلبات والاشياء الفلسطينية الخاصة زيت وزعتر وزيتون وهيك

انا تعبت كتير اليوم بكيت من قلة النوم ومن ضجة الصغار ومن الخوف والرعب..
اهلي بالسعودية وانا بغزة وحيدة مع 3 اطفال ولا بقدر اتركهم واروح اجيب اشي واذا بوصي على اشي بكون بطلوع الروح...
غلبتك بالحكي بس بدي انفجر المي الحلوة قصة والمالحة قصتين والضجر والخوف
قصف كتير هلا وانا بكتب ؤومش شايفة الحروف من الدموع...
سيارات اسعاف... موت بكل مكان... وجنازات مؤجلة
بدي انام من غير خوف بس بدي انام واصحا الاقي غاز او كهرب اعمل قهوة
احكي معي لحتى تخلص الازمة يمكن اتونس شوي

الليلة الفائتة... ليلة أخرى من ليالي الحرب الكونية بين الدولتين العظميين , غزة وإسرائيل.
أؤكد بانفعال بالغ لكل من يحدثني من الخارج أنها حرب , حرب حقيقية!! الكل يستغرب انفعالي .
قال لي أخي : مين قال إنها مزحة؟ نعلم أنها حرب. قلت لا ليس الأمر كما تتصور...حرب كالتي نراها في الأفلام! أفلام الجنون الامريكي!! كقصص الرعب!! تنطلق عشرات الطائرات العملاقة في وقت واحد!. أزيزها كالرعد القاصف, ترتج المدينة القلقة البائسة من البحر إلى( السلك). حيث الحدود الدولية بين الدولتين. ترتج المباني والمآذن ويرتج الفضاء. تهرب العصافير والحمامات, (رأيت بنفسي ديكا مذعورا وحوله دجاجاته يتصايحن ويركضن على سطح منزل مجاور) .
تغير الطائرات المعادية على أهداف عسكرية دقيقة لا تخطئها ( مسجد , مدرسة , جمعية خيرية , ورشة , منجرة, والاهم الأهم أي تجمع سكاني , أي أطفال يلعبون , امرأة , آه, النساء هم أهداف هذه الحرب لأنهن ينتجن أسلحة الدمار الشامل في غزة. ينجبن أطفال كثيرين ليسوا كالأطفال , أطفال لا يخافون ولا يبكون ولا يصرخون , أطفال يتابعون الطائرات وهي تقصفهم.. أطفال يؤجلون طفولتهم لحين ربما يدركونه في العاجلة وأن لم يكن فالآجلة في انتظارهم .
أريتم, أسلحة الدمار الشامل كانت محددة في غزة , ليست مخفية , لذلك لم نحتج لمفتشين دوليين قبل الحرب ولم يطل حصارنا....فقط 3 سنوات, وحملة علاقات عامة هينة ولطيفة, قالت ليفني إننا نهدد الأمن والسلام الدوليين وأننا نهدد أمن الدول المجاورة ( ليفني تتحدث بالنيابة عن هذه الدول) وأننا فقط يجب أن نموت . قالت ليفني إنها لن تسمح لنا بالبقاء على حدود دولتها العظمى, وجودنا يؤرق أحلامها وأحلام المغتصبين . ويضايق الغزالة السمراء في واشنطون , هم يتحسبون للمستقبل , من يدري ربما حدثت المعجزة وطالت صواريخنا البيت الأبيض, إذا لماذا لا يضربوننا ألان. وافق العالم ليفني وطوع قراراته لأجل عيونها وسمح لها بالقتل. بالقتل البحت ولا شي آخر .

ليلة جاءت بعد نهار شبه هادي في وسط المدينة, ضحكنا قليلا في الصباح, ماء وكهرباء, وتلفزيون يا الله . يتحدثون عن قرب انتهاء العملية وعن ضغوط دولية أقول لنفسي :ربما أجدت نفعا, ربما,. هذه هي البداية

لا يوجد خبز في البيت. انظر من النافذة. رجال, وفتيان, أطفال ونساء يعبرون وفي يد كل منهم كيس خبز صغير. أقول لنفسي : ولكنهم بطيئون....بين الواحد والآخر فترة.....إذن الأمر ليس سهلا..
انظر إلى أطفالي النائمين ماذا سيأكلون اليوم أيضا؟
أبدا رحلة الخيارات القلقة إن ذهبت لأحضر الخبز ثم حدث عدوان في منطقتهم أو في منطقة المخبز لن أكون إلى جوارهم. لن اذهب سنتدبر الأمر اليوم أيضا , لا, ٍاذهب! ساعات الصباح الأولى هادئة. إذن سأسرع .
ارتدي ملابسي على عجل واخرج , أسرع في خطوتي, اركض قليلا , لا اصدق ما أرى طوابير الخبز امتدت لشارعين أو ثلاثة قبل المخبز. أقف يائسة . الحيرة من جديد,إذا وقفت في الطابور لن أعود قبل الظهر إذن ٍارجع الآن وإن بلا خبز.
سأتدبر الأمر , زلابيا ( عجين مقلي بالزيت), محمد يحبها...
- ولكن يا ماما هادي مش أكل .
- معلش يا محمد بناكل هلأ وبنشوف يمكن نلاقي حل .
- ماشي, ماشي , طولت هادي الحرب يا الله يا االله.

انقطعت الكهرباء ثم الماء وعادت دوامة المشاكل من جديد .
ابنتي الكبري :ماما اطفي راديو الجوال هلا بخلص شحنه وين بدك تشحنية مولد السوبر ماركت لا يعمل خلص السولار عنده .
- لا استطيع قد يحدث شيئ أريد أن اعرف
- ماما أنت بتدوري على القلق فوق القلق الموجود
بناتي يمارسن هوايتهن بالرسم .يرسمون ويرسمون ويرسمون . طوال النهار. اسمعهن :
- انتبهي اذا خلص هادا اللون فش غيره
- وأنت كمان انتبهي بكفي تقصقصي ورق

ضجر ضجر ضجر بماذا أفكر, بأي مشكلة , من أين أبدأ.
المذيع :إسرائيل تحرق البيوت بعد تفتيشها,. الدخان يملا سماء غزة ويسد الأفق من الشرق.
المذيع: إسرائيل ترمي بقنابل فسفورية في عبسان و شهداء تحت الأنقاض. جرحى وحروق بالغة.
المذيع: نناشد طواقم الإسعاف التوجه إلى منطقة الزيتون. قصف مكثف وجرحى وشهداء تحت الأنقاض
المذيع: معي على الخط الهاتفي مكالمة. عائلة تستغيث, نحن محاصرون, النيران تشتعل بالمنزل, نحن عائلة كبيرة ومعنا نساء وأطفال وشيوخ ومعاقون. أرسلوا الصليب الأحمر, الجيش منع سيارات الإسعاف من الوصول , افعلوا شيئا أرجوكم, أرجوكم .

امرأة تصرخ , طفلتي بحاجة لقطرة ماء ودواء حرارتها مرتفعة لا استطيع الخروج الدبابات تحاصر المكان .
والمذيع لم ينم طوال الليل وربما طوال ليال. يوجه مناشداته.... التي لا تصل!
سألعن الظلام الآن . لماذا لا اخبز بنفسي . سأعجن العجين وانتظر قد تأتي الكهرباء بعد قليل .
أنفذ مشروعي الصغير بقلق . انتهي وانتظر...
الرابعة عصرا, الكهرباء!! يلا بسرعة بدي اخبز قبل ما تقطع , لم ينتفخ الخبز! فشل مشروعي!!!
لا بأس, سأطبخ برغل للغداء ,والعشاء بشوف بركي لقيت حد يجيبلي خبز .
الظلام من جديد. لا نوم ولا صحو... لا حياة ولا موت.

أكتب:
جحيم بدون مطر
عيون الأطفال فجوات في صحن الليل .
من أطلق الشر يعدو بين الليل والنهار؟
من أمر بذبح الأطفال , من انطق أجنة الموتى,
من أراق الدم على الطرقات,
من أطال الوحشة فوق تخوم المدينة ,
من رفع رايات الخراب ؟.
من أثقل الجثث بالحجارة , من؟ من؟ من ؟

دوي انفجارات متتالية , انفجارات ضخمة , نسمع صرير الحديد حين يصطك بعضه ببعض, نستنشق غبارا لمبان تهدمت , الصوت اقرب من أي وقت مضى.
أبراج الكرامة , جسر الشيخ رضوان. غرب غزة. مدفعيات وبارجات وطائرات..
لبرهه, تخيلت غزة وهي تضحك من هذا الجنون. أغمضت عيني. ليلة ساخنة أخرى وإسرائيل التي تحتل المدينة منذ أربعين عاما بلا انقطاع وتحاصر منافذها منذ 3 سنوات وبلا انقطاع ايضاً تقول أنها دخلت إلى قلب المدينة. وانتصر جنودها..... ربما على أنفسهم!

أماني أبو رحمه
غزة
13/1/2009

ليلة مجنونة بصعوبة طبعت لك هاي القطعة
بليز نسقها ورتبها
خايفة كل شوي بهرب من الغرفة
قصف رهيب قريب منا كتير...



13 كانون الثاني 2009
 

free web counter