| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الأحد 13/4/ 2008

 

كيف تتخذ قراراً في الضوضاء؟ البحث عن الرهان الأفضل

صائب خليل

واقصد بالضوضاء هنا كل ما يعرقل ويشوش التفكير، ويندرج تحت الضوضاء في هذه الحالة كل اكوام المعلومات غير المرتبة وكمية المعلومات غير المتعلقة بالموضوع وايضاً النقص في المعلومات المفيدة وكذلك محدودية الوقت اللازم للتفكير، اي باختصار كل ما يمنع التفكير من الوصول الى استنتاج على اساس تحليل علمي متسلسل يصل الى نهايته المنطقية.

لا انوي هنا الدخول في عوامل التفكير المنطقي واساليبه، انما تتجه نيتي الى وعي تأثير البيئة المعرقلة، على التفكير والإستنتاج، مؤملاً في تسهيل الوصول الى قرار "علمي" في هذه الظروف غير المثالية، ودافعي المباشر بالطبع هو الضوضاء المتزايدة في حياتنا وكثرة المزعجات الموضوعية والنفسية وتفاقم الحاجة إلى اتخاذ قرارات ومواقف من امور مختلفة، لم نتعلم ما يكفي عنها ولم نتدرب على التعامل معها، مثل اتخاذ موقف من حدث سياسي محلي او عالمي. إتخاذ موقف في هذا امر لاغنى عنه في احساسنا بتفهمنا لما يجري حولنا وشعورنا ببعض الإطمئنان، او ربما الخوف السليم ومحاولة ايجاد حل، خاصة والعالم يسير نحو اخطار لم يعرفها من قبل.

لو اخذنا الحالة البسيطة المتمثلة في الإضطرار لإتخاذ القرار مع نقص معلومة هامة، وتساءلنا ماذا نفعل عندها؟ الجواب سهل ويستعمله الجميع: ليس لنا سوى القيام باختيار ما ضمن المعلومات التي لدينا، ونأمل، او"نراهن" على انه سيكون القرار الصحيح. قد يكون امراً مؤسفاً ان لانستطيع الوصول الى قرار محسوب بدقة لكن ما باليد حيلة.

الحقيقة المزعجة هي ان هذا "الحال المؤسف" هو الحالة العامة. ذلك ان اي "ضوضاء" او نقص في مثالية البيئة اللازمة للتفكير تدفعنا في النهاية الى اللجوء الى "المراهنة"، فالضوضاء هي القاعدة وليست الإستثناء! ليست هناك حالة واحدة في الحياة العملية تخلو من نقص معرقل لعملية التفكير، فحتى لو جلسنا لوحدنا في غرفة هادئة وكنا في حالة نفسية ممتازة وجمع لنا احد ما كل المعلومات المتعلقة بموضوع تفكيرنا وابعد كل ما عداها، فهناك على الأقل محدودية طاقة أذهاننا ومحدودية الوقت الذي يجب اتخاذ قرار ضمنه، فلا يمكنك ان تفكر الى الأبد. لذلك فاننا في كل قرار او موقف، نقوم في الواقع بعملية رهان او مقامرة.

صحيح ان الحياة ليست لعبة بوكر غامضة دائماً، لكنها ايضاً ليست لعبة شطرنج ترى امامك كل قطعها. وما دمنا في الحديث عن الشطرنج, اللعبة التي نستطيع ان ندعي بأمكانية ان "نحسب فيها كل شيء" اكثر من اية لعبة اخرى، اقول ان كل لاعب شطرنج جيد يعلم ان حساباته تتوقف في مكان ما بعيداً عن الوصول الى نتائج اكيدة. ففي نهاية كل عملية حساب شطرنجية يقف اللاعب امام موقف لا يستطيع بعده ان يحسب وانما عليه ان يقدر ان قطعه وبيادقه تقف في حال افضل او أسوأ، وعليه ان يقدر الفرص والأخطار المتضمنة في الموقف تقديراً، ثم يراهن على حسن تقديره.

والآن، ما فائدة هذا الكلام كله؟ هل القول بإستحالة حساب كل شيء يهدف الى اراحتنا؟ كيف سيساعدنا مثل هذا على اتخاذ قرار في ظروف "الضوضاء"؟
يعلم الجميع بلا شك بحدود طاقة أذهانهم وظروفهم، لكنه وعي مشوش تماماً، فالوعي السليم بحدود الطاقة وامكاناتها وفرصها يختلف عن الإقرار بها بشكل غامض كما يفعل الجميع. أن لاعب الشطرنج المبتدئ يتصور ان بالإمكان حساب كل شيء، ويتصور ان اللاعب الممتاز يفعل ذلك فعلاً، وان عجزه هو عن القيام بذلك انما يعود لقصوره هو دون الممتازين، ويستنتج تبعاً لذلك انه ان تطور بما يكفي في اللعبة فسوف يصل الى القدرة على حساب كل شيء، وهو خطأ سيجعله يركض وراء ما لاطائل وراءه.
أما اللاعب الخبير الذي يعي ان تحليل اي تفريع لن يصل به الى نتيجة محددة محسوبة بدقة وانما (يأمل ان) يصل به الى موقف "يستطيع المراهنة عليه" بدرجة ما من الإطمئنان، فانه يعرف اين يتوقف ويراهن لينتقل بلا تلكؤ الى تحليل التفريع التالي وهكذا. إنه يدرك ان عملية التفكير لاتصل في النهاية إلا الى سلسلة من المراهنات المحسوبة جزئياً فقط. هذا ما يفسر الجهود التي يبذلها اللاعبون الناضجون في زيادة مهارتهم في تقدير المواقف وحساب عواملها العامة، بينما يركز المبتدئون فقط على كيفية تطوير قدرتهم على الحسابات المحددة لعدد اكبر من النقلات. يمكننا ان نجزئ جهود لاعب الشطرنج الجيد الى قسمين، الأول يختص بزيادة قدرته على اصدار الأحكام العامة على الموقف، اي المراهنة عليه، والثاني يختص بالجهد اللازم للوصول الى تلك المواقف من خلال التحليل الحسابي الدقيق، بينما يكتفي اللاعب السيء بالجزء الثاني ليصل الى المواقف دون ان تكون له قدرة على تقديرها.

لوعدنا الى السياسة، لوجدنا الحال ينطبق عليها بمثل ما ينطبق على مثالنا الشطرنجي واكثر، ففي السياسة لا تتميز قطعك عن قطع خصمك بهذا الوضوح كما انك لاتستطيع حتى ان ترى جميع القطع دع عنك امكانية حساب كل حركاتها. كل هذا يزيد من حضور حقيقة ان التفكير والتحليل لايجب ان يطمح الى الوصول الى نتيجة حتمية محسوبة بل الى موقف يمكن المراهنة عليه بدرجة ما من الإطمئنان، الموقف الذي يحتوي اكبر كمية من الفرص واقل كمية من ا لأخطار. في نهاية خطك التحليلي تهدف الى ان تقول بثقة: ان هذا القرار، ضمن المعطيات التي توفرت لدي، سوف يعطي افضل فرصة للكسب، وعليه اتخذته. من افضليات هذا التوجه الشعور بالثقة حين اتخاذ قرارات احتمالية، باعتبارها كل ما يمكن في مثل هذا الظرف، كما انه بإعترافه بدور الصدفة، يحمي صاحبه من الغرور الخاطئ، فيحتفظ برصيد من التواضع اللازم لإدامة الحذر الضروري للبقاء. ومن فضائل طريقة "البحث عن المراهنة الأفضل" هي ان صاحبها، إدراكاً منه لقصور تحليله، يبقى يراقب ما يجري من احداث، ويبقى قادراً على تصحيح قراره نحو "الرهان الأفضل" الجديد متى ما كشفت عنه معلومات جديدة، وبسهولة وسرعة اكبر ممن اتخذ قراره على اساس اعتقاده بأنه حلل الأمر حتى النهاية.

هل يعني "التفكير بحثاً عن الرهان الأفضل" ان صاحبه سيكون اكثر كسلاً في التحليل والحساب ما دام الأمر متعلق بالصدفة؟ بتقديري لا. فمن اجل الوصول الى اكتشاف الرهان الأفضل، فانت مدعو للقيام بكل ما يمكن القيام به لتصفية واستبعاد الرهانات الأقل حظاً. البحث عن الرهان الأفضل عملية مفتوحة يمكنك ان تضع فيها ما تشاء من الجهد لزيادة تأكيد قراراك، وانت تعلم ان كل جهد تبذله، كل معلومة اضافية تحصل عليها ستحسب في النهاية، على العكس من الباحث عن "الحل الصحيح" والذي يريد ان يكسب كل شيء او لاشيء، وكثيراً ما يدرك في منتصف الطريق ان مهمته مستحيلة فيتوقف ليبتعد عن الموضوع، او يراهن بشكل عاطفي.

كان دافعي لكتابة المقال هو الحال السياسية الشديدة الضبابية التي تغلف العراق اضافة الى خطورة تلك التي تحيق بالعالم كله. لقد صار كل منا بحاجة الى ان يتخذ العديد من المواقف من العديد من الأشياء، دون ان تتوفر له المعلومات اللازمة لإتخاذ قرار يثق بدقته وصارت الحيرة هي الحالة العادية الملازمة للجميع. وبرأيي ان الحالة التأريخية المميزة للإحتلال الأمريكي عن غيره من الإحتلالات في التأريخ، هو نجاحه غير المسبوق في تعكير المياه وخلط الأشياء على المواطن العراقي بشكل استحال معه تمييز الأشياء المختلفة بل والمتناقضة، من بعضها. ايهم المقاومة وايهم الإرهاب؟ من الذي يرفض الإحتلال من اجل بلاد ديمقراطية كريمة، ومن يطمح الى اعادة البعث؟ هل ان الذي يفجر نفسه في الإحتلال موجه من نفس القيادة التي توجه من يفجر نفسه في الناس؟ هل تقف ايران معنا، سواء بدافع ديني او بدافع المصلحة ضد العدو المشترك، ام انها ليست سوى احتلال اخر؟ هل تشارك في الإرهاب ام انها مجرد دعايات الإحتلال لإبعادنا عن من قد يكون افضل سند في المعركة؟ هل التيار الصدري تيار وطني لم يجرؤ اي تيار اخر على اتخاذ مواقفه بشأن القضايا الأساسية ام هو تيار يقوده منتفعون ويعتمد على الخارجين عن القانون فدائيي صدام وان تلك المواقف كذبة لتمشية الحال؟ وهكذا من هذه الأسئلة التي تستحيل الأجابة عن اي منها بثقة، وتكون عملية البحث عن الحقيقة الأكيدة فيها اشبه بطلب المستحيل، ولذلك يعمد الناس اما الى التخلي عن اتخاذ موقف وترك الأمور تجري كما تشاء، او يتخذون موقفاً اقرب الى النزعة العاطفية شبه العشوائية. وهنا يأتي دور اسلوب "البحث عن الرهان الأفضل": جمع كل المعلومات الممكنة، عدم استبعاد الغش، ولكن عدم التسرع بافتراضه، البحث عن طرق لفحص المعلومات لزيادة احتمال الرهان الصحيح، الضغط من اجل جو اكثر شفافية ومعلوماتية تتيح المعرفة وتقلل احتمال الخطأ، التحليل الهادئ لما هو معقول من غيره, فصل الأخبار المبنية جيداً عن تلك المبنية على المصدر المجهول، واخيراً وليس آخراً فصل المخاطر الحقيقية من تلك الوهمية او الصغرى.

لاحظ ايضاً انه مثلما يهمك ان تصفو المياه لترى فهناك من يهمه ان تبقى الحالة مشوشة، وهو من يهمه ان يترك المواطنون حقهم في تقرير مصير بلدهم ليأسهم من فهم تلك الألغاز. سيعمل هذا على دفع الناس الى استعجال القرارات العاطفية, واهم وسيلة الى ذلك هي اثارت المخاوف وتضخيمها، بالأخبار الملفقة والمبالغة وبالإرهاب, وايضاً باخفاء المعلومات. سيسعى الى تقليل الشفافية واختراع امور مثل "التصويت السري في البرلمان". سيدفع ايضاً بالمقاومة الى ارتكاب جرائم وسرقات وربما يحول مجرمين الى "صحوات" ولا مانع من ان تختلط هذه الصحوات بأناس شرفاء، وكل هذا لايصعب تحقيقه ان تم اختراق المقاومة والتيارات السياسية, وهو امر لايشك اي عراقي بانه متحقق.
المهم ان تختلط الأمور على الإنسان فلا يتشجع على اتخاذ اي قرار، خاصة القرارات التي تتطلب التضحية, فتلك تتطلب الوضوح كشرط لها، فلا احد يريد ان يضحي من اجل شيء غامض. لكن التضحية تخص الوطنيين والإنسانيين المخلصين دون غيرهم، وهكذا يتم شل هؤلاء دون غيرهم، في سلاح تدمير شامل للإرادة، لكنه قادر على تمييز وانتقاء ضحاياه: ابناء الوطن المخلصين دون غيرهم!

ملخص الموضوع إننا نجد انفسنا اليوم امام مهمة مستحيلة ان وجهنا هدفنا الى ايجاد الحقيقة الأكيدة، ولا مفر لنا من اليأس عاجلاً ام آجلاً وترك الميدان لمن يريدنا ان نترك الميدان. لكن البحث عن "الرهان الأفضل" يبقى ممكناً دائماً ويبقى الطريق اليه واضحاً نسبياً ومفهوم نسبياً، واول خطواته ربما تكون الدفاع المستميت عن الشفافية والضغط على الحكومة للإجابة عن الأسئلة الكثيرة الصعبة عن إساءتها استعمال سلطتها وعن علاقتها بالمحتل والرفض الشديد لهذه المفاوضات التي تجري في الغرف الخلفية. "البحث عن الرهان الأفضل" ممكن دائماً وهذا من شأنه ان يديم الإرادة للإستمرار وعدم اليأس، فحتى عند اليأس من التأكد من ايجاد الحل الصحيحي فليس هناك جهد يضيع في محاولة اكتشاف الرهان الأفضل لهذا الحل. اننا في العراق نواجه خطراً سيحدد مصير البلاد وشعبها، وفي العالم نواجه حالة خطرة جداً تصل الى تهديد مستقبل البشرية نفسها بل ووجودها. فكما قيل "ان ابتعادك عن السياسة لايعني انها ستبتعد عنك"، وما داموا قد استطاعوا تعكير المياه لحرماننا من الوصول الى حلول اكيدة فلا مفر من ان نبحث عن رهاناتنا الأفضل.
 

13 نيسان 2008

 



 



 


 

Counters