| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
saieb.khalil@gmail.com

 

 

 

الأحد 10/1/ 2010

 

هل نحن شعب منكسر؟ وما العمل؟
(2-3)

صائب خليل

تحدثت في الجزء الأول من هذه المقالة (1) عن ظاهرة انكسار الشعوب وأتيت بأمثلة عن الشعب العراقي والمصري والفلسطيني، وأيضاً شعوب أوروبا وأميركا مشيراً إلى المقالة المهمة لـ "بروس ليفين": "هل الأمريكيين شعب منكسر؟" (2) وأهم ما جاء فيها أن الشعب المنكسر أو المصاب بعارض "الإضطهاد" يصل مرحلة لا يعود تنبيهه إلى حاله قادراً على دفعه إلى الثورة عليه، بل أن ذلك يزيده إنكساراً واستسلاماً، وأن الدكتاتوريات والإحتلال يتبع نفس الأساليب التي يتبعها القوادون لفرض سيطرتهم على من يتم استغلالهن من النساء من قبل العصابات التي تجبرهن على ممارسة الدعارة. واليوم نكمل بقية المواضيع.

التربية والظروف
المصاب بالاحساس بالدونية يتنازل عن حقوقه بسهولة ويتهرب من مواجهة الحقائق التي تدعوه للدفاع عنها. تعلم العراقي مثل غيره من الشعوب التي طال اضطهادها، ان يتقبل الاهانة بالتربية في البيت, ثم بالمدرسة ثم بالخدمة العسكرية بالنسبة للبنين, ودكتاتورية الذكور في البيت بالنسبة للبنات, ثم في العمل من قبل رئيسه، حتى أصبحت تلك التربية تقليداً ثابتاً معتاداً، دون أن يدرك الأهل أنهم يهيئون بذلك بذرة الإنكسار في نفس إنسان المستقبل، ويجعل مهمات إغتصاب حقوقه أسهل للدكتاتوريات الداخلية والإحتلال الخارجي على السواء. في هولندا ينصح الأهل أن يتحدثوا مع الطفل ويخبروه عن وجهتهم عندما يخرج معهم، وأن لا يقودوه كالخروف، بل يسألونه رأيه أيضاً ليفهم أنه إنسان له أن يقول لا!.
هناك من يستفيد من تربية الإنكسار في الطفل، وهناك من يديم هذا البناء المدمر حتى بعد أن يشب الإنسان عن الطفولة، ويشتد في البلدان التي تتعرض للدكتاتورية والإحتلال مثل مصر والعراق حالياً، فمن أسمى طموحات هذين المتسلطين بناء شعب مكسور، وعندها لن يكون هناك خطر عليهم حتى إن اكتشف الشعب أن سلطتهم تخنقه، فاكتشاف الحقيقة لن يجعله يثور، بل يزيده إنكساراً واستسلاماً. وهكذا تصبح العبودية قادرة على أن تحمي نفسها بنفسها بدون جهد تقريباً. ولإكمال ذلك يتطوع جيش من "المثقفين" للقيام بالمهمة، بأجور أو أملاً في مكانة أو لمجرد تربية خاطئة فيهم، كما يشارك في سلخ المواطن من كرامته ومنعه من ترميمها عدد كبير من الأبرياء من هؤلاء، الذين لا يعلمون أثر ما يكتبون أو يمررون من كتابات جارحة سيئة التأثير على الآخرين. ولشدة الشبه بين الكتابات المهينة والإنتقادات الهادفة، وصعوبة التمييز بينها، يتخفى جميع المكلفين بتلك المهمة بشكل "ناقدين للمجتمع" ويختلطون بينهم ويحتمون بـ "حرية الرأي" و "الصراحة" وغيرها من المفاهيم الحضارية، وينهالون بالتجريح على كل القيم العليا التي تحفز الإنسان، بحجة "الحداثة" و "التطوير"، ولايسهل فرز عملية نقد هذه القيم من عملية تحطيم الكيان النفسي للإنسان، وأصعب من ذلك وضع القوانين التي تميز بين الإثنين فتحترم هذه وتجرم تلك.

إنتقاء الحقائق
يمكن تقسيم "الحقائق" إلى حقائق إيجابية وأخرى سلبية. ومعرفة الحقيقة بشكل عام أمر إيجابي، وعدم استبعاد الحقائق السلبية ضروري لأخذ صورة سليمة عن الواقع للتعامل معه. وهناك أيضاً أكاذيب الغرض منها رفع الروح المعنوية، وأخرى لخفض تلك الروح. ومادام الناقد ملتزماً بالحقائق فلا يسهل تمييز النقد البناء، كما يسمى، عن ذلك الذي يسبب الأذى. والظاهرة الوحيدة المفيدة للتمييز هنا هي شدة التركيز على الحقائق السلبية، وإهمال الإيجابية أو التقليل من قيمتها. ومن هذه ما يعج به الإيميل ومواقع الإنترنت من مقالات تنتقد كل سلبية في الإسلام ولدى العرب، حتى لو كان أصلها غير العرب والإسلام، وحتى لو كان غيرهم يشارك فيها، مثل ختان النساء أو يزيد عليهم فيها مثل تاريخ العنف.
لكن الحقائق الإنتقائية لايكفي عادة لبناء الإنكسار فيلجأ مفترسوا النفس البشرية إلى الأكاذيب لدعمها، وهنا يعرضون أنفسهم للإنكشاف، فلا توجد كذبة سلبية بريئة، رغم أن ناقلها بريء على الأغلب، فلا بد أن هناك من صممها وأنتجها وصرف وقته وجهده لإخراجها وإطلاقها في الحياة.

خير مثال على هذه "المشاريع" المخصصة لإدامة الإنكسار، ما تناقلته الإيميلات مؤخراً حول خبر نشر في صوت العراق (3) ومواقع اخرى، كتبه من اسمى نفسه "صاحب الحليم" من "صحيفة بريطانية" (لم يذكر اسمها) عن عراقية تحمل جواز سفر دبلوماسي إسمها "جعاز معيطرية " (لاحظ الإسم القبيح)، وهذه المرأة العجيبة لا تتكلم لا الإنكليزية ولا الكردية ولا تفهم حتى العربية إلا بصعوبة! والمقالة مكتوبة بأسلوب واضح التحقير لما هو عراقي، وتقديس لكل ما هو بريطاني، إبتداءاً من الشرطي الإنكليزي "الرائع" في المطار، مروراً بالذوق لموسيقي الجاز، ومقارنته بالإسم القبيح "جعاز" وانتهاءاً بحكمة تم إلصاقها في نهاية المقال بلا مناسبة، ونسبها إلى "الإنساني" تشرشل، والذي هو ليس سوى مجرم حرب وضيع الأخلاق لمن قرأ التاريخ! ولشدة حماس الكاتب ينطلق في وصف المرأة حتى ينسى أنه قد ادعى أنه نقل الخبر من صحيفة!
الهدف من هذه القصة المختلقة هو التحقير ليس للحكومة العراقية والبرلمان وكل النظام السياسي فقط، بل ولكل ماهو عراقي، "فيكون العراقي مطبوخاً جيداً وجاهزاً لتقبل المؤامرة القادمة." كما كتبت في مقالة سابقة عن الموضوع (4)

وإذا كان "صاحب الحليم" شخصية خيالية من أبتكار الموساد، فلا يعدم جيش محطمي النفسيات العراقية شخصيات حقيقية كتبت عنها كثيراً في الماضي، تهدف إلى إقناع العراقيين بقصورهم ولا جدواهم وبضرورة بقاء الأمريكان لحمايتهم من أنفسهم وشرورهم الموروثة، ولا يتورع البعض من هؤلاء عن قلب الحقائق والمنطق واستجلاب اللحظات المريرة في تاريخ الإنسان العراقي، مثل تقبيل بعض الجنود العراقيين الذين حطمتهم عاصفة الصحراء لأيدي الجنود الأمريكيين من أجل سلامتهم، وتذكيرهم بها، وهي اللقطة التي حرص الأمريكان على بثها في قنوات التلفزيون لكي تثبت في ذاكرة العراقيين وغيرهم.
وعلى مستوى العرب، تنتشر فرق من هؤلاء الكتاب الذين يحرصون على إقناع العرب والمسلمين بدونيتهم الأزلية، وبأنهم يكرهون الغرب لأنهم "حسودون" بطبيعتهم وأنهم عنيفون بالوراثة وبأن دينهم سيء في أساسه وبأن الشعب المصري لم ينجب سوى مبارك وعائلته من الأسوياء، وأن الشعب العراقي "بحاجة إلى رجل قوي" (دكتاتور) ليحكمه لأنه مريض في جيناته ويختلف عن بقية البشر....الخ. يمكنك ان تميز هؤلاء عن النقاد الحقيقيين ليس فقط من اختلال توازن الحقائق فقط، وإنما بأوضح من ذلك من خلال السعادة التي تتسرب من بين سطورهم وهم يجلدون ضحاياهم، وغضبهم الشديد من أي شخص يحاول تخريب تلك السعادة بأن يقدم لهم حقائق تصحح أحكامهم، حتى لو كانت حقائق تأريخية لا جدال حولها.
وكما يتم "تمليح" المسلسلات الكوميدية الأمريكية بزرقها بضحكات مشاهدين خياليين بعد كل نكته، لتقوية تأثيرها ولتشجيع المشاهدين على الضحك، فأن هذا الفريق الذي يكتب، يسند بجيش من المؤيدين والمطبلين لعظمة وروعة المقالة، سواء كانت جيدة فعلاً أو تافهة لا تستحق وقت قراءتها. وهناك مواقع ضخمة شبه متخصصة بذلك النوع من الإعلام، أكثرها تدعي العلمية والعلمانية والثقافة واليسارية كأهداف لها.
إضافة إلى هذا الشكل العنيف والمباشر في تحطيم النفس في هذه المنطقة من العالم، هناك شكل آخر مساعد، رقيق وسلس وغير مباشر لإنجاز نفس العمل او للتحضير له. فتنتشر في الإنترنت إيميلات تحتوي مقارنات بشكل أخبار او أرقام او صور، تبين أن وضع العرب والمسلمين ميؤوس منه بشكل تام، مثل مجموعة صور لأحدث أنظمة في العالم، تنتهي بصورة ساخرة لـ "المترو العراقي" ومواقف الباصات الجميلة في العالم المتقدم لتنتهي بمقارنة صادمة مع المقابل العربي، وأيضاً مقارنة بين المعلم العربي مقابل المعلمات الجميلات وهناك موظفات (BMW) المغريات مقابل الموظف العربي العابس والمذيع العربي المثير للضجر للنشرة الجوية مقابل مقدمات أوروبيات يلبسن الملابس المثيرة وإحصاءات عن القراءة بين العالم العربي والدول المتقدمة. كل هذه "حقائق" وليست أكاذيب، حتى إن تمت المبالغة فيها أحياناً، لكنها حقائق في غير مكانها، فليس من المفيد أن تقول للأرنب كم أن الفيل أقوى منه، وكأنهما سوف يدخلان سباق جر الحبل بعد قليل. أن من يفعل ذلك لا تفسير لعمله سوى محاولة إخافة الأرنب لدفعه إلى الإنكسار واليأس، فلا يمكن لمثل تلك المقارنات المتطرفة أن تدفع بأي إنسان نحو حركة إيجابية.
قد تبدو هذه الصور والنكت غير مؤذية، لكن تأثيرها يغور في النفس فور انتهاء الضحك، لتلعب فيما بعد دوراً في قرار الفرد في اللحظات الحاسمة. مثلاً يسهل على المنكسر في أعماقه أن ينتخب سافلاً لأنه أقتنع أنه ينتمي لشعب ميئوس منه جينياً، ويكتفي بتحقيق الأمن كطموح، وحين يقرر أن يلتجئ إلى حماية العشيرة او الطائفة في اختياره السياسي بدلاً من رأيه السياسي العقلاني، وحين يتجاهل تجاوزات الحكومة على دستور بلاده أو على حقوقه الإنسانية الأساسية، أو يسمح بتوقيع معاهدة يعتبرها خطرة على بلاده ومستقبل أولاده.. كل هذه المواقف تتأثر بمدى إحساس الإنسان بقيمته وكرامته، وبالتالي يؤثر عليها كل ما مر به في الماضي، مما يرفع كرامته أو يخفضها في نظره، حتى النكات البريئة المسلية وصور المقارنة الجميلة والمقالات العابرة والأخبار الموجهة.

الإنكسار الإيديولوجي، اليسار
إضافة إلى الإنكسار على المستوى القومي والديني، فهناك أيضاً إنكسار على المستوى الإيديولوجي، فنحن نرى اليوم أن اليسار يتصرف تماماً كمنكسر، خاصة بعد سقوط الإتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وتظهر عليه كل أعراض ذلك المرض. وإذا كان ذلك يمكن ملاحظته في أوروبا فأنه في الشرق مستفحل إلى درجة أن هذا اليسار يتصرف وكأنه ضيف غريب وليس إبن البلد، وأنه يجب أن يكون مؤدباً ويرضي الجميع، وهو يفعل ذلك حتى أمام المحتلين لبلاده، كما في حالة العراق, وهذا بحاجة لمساحة أوسع للكتابة.
وإذا كان هناك انكسار يساري عام، فهو موجود أيضاً بشكل حاد في بعض الشخصيات اليسارية. هناك ظاهرة معروفة لدى السياسيين القدامى وهي أن كثير من السياسيين الذين يسقطون تحت التعذيب، لا يكتفون بالإعترافات والتراجعات، بل يقفون أيضاً في صف خصومهم الفكريين وبتطرف كبير، وهناك أمثلة عديدة من شخصيات يسارية عراقية، تحولت إلى دعاة متطرفة الحماس إلى السياسة الأمريكية، بل أن حماسها يتجه بأقوى أشكاله نحو الأطراف الأكثر عدائية من السياسيين الأمريكان! وليس لدي تفسير لهذا الإنقلاب سوى أنه محاولة يائسه لإقناع ذاتها بأن تحولها كان عن قناعة وليس بسبب "إنكساره" أمام التعذيب أو السجن. وكلما كان الشخص في الماضي أكثر احتراماً لنفسه وتأريخه كان تحمل فكرة الإنكسار أصعب عليه، وازداد احتمال ظهور هذه الحالة فيه. ويعرف العراقيون شيوعياً سابقاً كان أسطورة في الثورية والشجاعة، صار اليوم وبعد قصة مأساوية، بوقاً مقززاً لشدة تطرف حماسه لكل ما هو أمريكي عدائي، وهو ليس حالة مفردة، بكل تأكيد، إنما المثال الأكثر نصوعاً لحالة إنكسار اليسار.

رد الفعل:الهرب من العار
يقول ليفين أن من يواجه بحقيقة تسبب له الشعور بالعار، فأنه يلجأ عادة إلى الهرب بعيداً عن المواجهة، من خلال الكآبة والإدمان، ولكن لعل هناك طريقاً أكثر شيوعاً للهرب من الحقائق المرة، وهو التظاهر بعدم وجودها وتبرير الأحداث بشكل يلغي تلك الحقائق وما تسببه من ألم.

يحدثنا محمد عبد المجيد عن رد فعل زميل له على حقيقة مرة، قائلاً: "الاعلامي المصري الكبير المتزوج أيضا من اعلامية أكبر قال لي ونحن في لوبي فندق بعاصمة خليجية تعقيبا على مقال لي: أنا أعمل منذ ثلاثين عاما في الصحافة ولم اكتشف خطأ واحدا للرئيس حسني مبارك. ثم نظر إلى وجهي فلم يميز فيه الحماقة من البلاهة, وأكمل قائلا: إنني أتذكر أن الرئيس حسني مبارك اتصل بنا في السابعة صباحا طالبا من ادارة التحرير الاهتمام بالطفل الذي نشرنا تحقيقا عن مشكلته. بعدها تفحص وجهي مرة أخرى ليقذف فيه بسؤال لو اجتمع الحمقى كلهم في مكان واحد لما تمكنوا من الاتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. قال صاحبنا: أليس هذا دليلا حيا على أن السيد الرئيس حسني مبارك يعرف كل ما يدور في مصر ويهتم بكل صغيرة وكبيرة ولا يمكن لرجل كهذا أن يخطيء."

ورغم أني اتفهم غضب الأستاذ محمد، إلا أني اختلف معه في تفسير هذه الظاهرة على أنها حماقة لا مثيل لها، بل إنها أقرب إلى العبقرية النفسية التي تميز النفس الإنسانية في مقاييسها للألم وفي قدرتها على مراوغة المنطق والهرب منه إن تطلب الأمر ذلك. فنفس هذا "الصحفي الكبير" المسكينة كانت مخيرة بين الإعتراف بما لا يمكن الحياة معه من حقائق مؤلمة، وأن تجد طريقة للهرب، فاختارت الثانية. الدكتاتوريين من أمثال مبارك وصدام يعلمون جيداً بحاجات تلك النفوس، لذا فلا تجد دكتاتوراً إلا وقام ببعض الحسنات التافهة، كعلاج بعض المرضى "على حسابه" أو زيارة منكوبي الحوادث أوالتربيت على كتف طفل، أو بناء مسجد، ونشرها على الناس لتوفر طرقاً للهرب من الحقائق لأمثال هذا الإعلامي المنكسر، لكي يستطيع البقاء على قيد الحياة وهو منكسر، سعيد بتوصله إلى إسكات تساؤلات ضميره عن خطايا رئيسه، بقوله له أنه "لا يمكن لرجل كهذا أن يخطيء"!

ومما لا شك فيه إطلاقاً أن الساكتين على ظلم صدام كانوا يتحججون له بنفس الحجج التافهة في العراق، بل وحتى خارج العراق، دفعت الشهوة العارمة إلى "البطل"، بالشعب العربي المكسور إلى تجاهل كل فضائع صدام بحق شعبه، والتركيز على بضعة "حسنات" مثل بعض التبرع للفلسطينيين، وإطلاقه بضعة صواريخ حيث لايوجد أحد، لوصفه بالشجاعة والعروبة، ومنعه الخمر آواخر أيامه وبناء الجوامع الفخمة لوصفه بالإيمان، وفتحه ثلاجات الناس في زيارات مفاجئة لوصفه بالشعبية والطيبة.

ولا يختلف الأمر اليوم كثيراً في مواجهة الإذلال الأمريكي، فلا يوجد لدي تفسير لتجاهل المئات من الأدلة والمؤشرات على ضلوع الأمريكان في الإرهاب في العراق، إلا أن الغالبية العظمى تفضل أن تولي وجهها نحو تفسير لا يتسبب في التخلي عن أمل عزيز في أن تكون القوة العظمى طيبة وأنها تحمل مستقبلاً جميلاً للبلاد والعالم، بالرغم من أن كل شواهد الحاضر والماضي والمنطق تقول أن هذه الدولة رأت مصلحتها دائماً في تنصيب الحثالات على البلاد التي تحتلها، وكل الشواهد التي تقول بأنها ماضية في تنصيب بقايا الصداميين في العراق، وكل المنطق الذي يقول بأن الإرهاب في العراق لا ينفع أية جهة سواها وسوى مشاريعها هذه، إضافة إلى الأخبار التي وردت مؤخراً عن ان بعض المتهمين بتدبير الإنفجارات كانوا قد أخرجوا من سجن بوكا الأمريكي قبل أسابيع من الإنفجار.
هذا الأمل العزيز ضروري لصمود النفس ومنعها من الإنهيار، لذا لا بد من أن يكون "الرئيس مبارك مهتماً بكل صغيرة وكبيرة فيما يخص شعبه" وتكون أميركا طيبة أو يمكن التعاون معها، وأن تكون "القاعدة" موجودة وتقوم بالإرهاب فعلاً دون مصدر دعم أو تمويل أو أية أهداف محددة، وأن يكون للزرقاوي آلاف المساعدين، وتسقط بنايات نيويورك سقوطاً حراً حتى تلك التي لم تصبها طائرة نتيجة حريق، ولأول مرة في التاريخ، وتدخل أخرى في ثقب أصغر من حجمها في البنتاغون ويختفي كل أثر لها، وينجو جواز سفر أحد الإرهابيين من النار التي أحرقت حتى الصناديق السود، وهو ما يحدث لأول مرة في تاريخ الطيران.. و..و....كل هذا وأكثر منه، مقبول ومفهوم وصحيح، مادام ضرورياً من أجل حفظ النفس من الإنهيار!

الذاكرة الإنتقائية
ثم يأتي دور "الذاكرة"، حيث أشار الأستاذ محمد عبد المجيد أيضاً بغضب إلى أن تلك الفضائع "تسقط من الذاكرة" خلال دقائق لكن يبقى فيها كل ما هو سخيف. ليس ذلك غريباً، فمن الطبيعي أن "تسقط" الذاكرة، ذلك "الجهاز السياسي" كل ما هو مؤذ للنفس. فمن يطالب الناس بأن يتذكروا ما يحطمهم، كمن يطالب شخصاً بالإنتحار.
لذلك توجب على الفلسطينيين الذين جلدوا ستين عاماً، أن ينسوا بسرعة كل ما يقال لهم عن فضائع صدام، حتى ما كان مثبت منها بالأفلام والوثائق، ولذا توجب على العراقيين الباحثين عن المخلص من الإرهاب، ولو كان من الحثالات أو من الإحتلال نفسه، أن ينسوا أن البريطانيين أمسكوا متلبسين وهم يهندسون عملية "إنتحارية" في البصرة. وإن كان علاوي يمكن أن يمثل المخلص من الإرهاب، فيجب أن ينسوا دوره في تثبيت الفصل السابع على العراق، وأن ينسوا ليس فقط تأريخه الأسود في أقذر منظمة لأكثر الأحزاب وحشية في تاريخ العراق، بل ايضاً دوره الحاضر في إعادة ألاف الضباط البعثيين إلى مراكزهم الأمنية، وحملته لقصف المدن العراقية، وأن ينسوا قبوله رشوة لا شك فيها مقابل أن يعطي القيادة الكردية مرة ونصف بقدر ما تستحق من ميزانية البلاد، وغيرها كثير. وعلى الكرد في العراق أيضاً أن ينسوا الكثير من الحقائق المؤلمة عن قادتهم إن أرادوا لأنفسهم أن لا يتحطموا بتحطم الأمل العزيز القديم بدولة مستقلة تحترمهم. وعلى الكويتيين أن ينسوا قصة السفيرة أبريل كلاسبي لأنها تذكرهم بأن أبطالهم ومحرريهم الأمريكان، هم من تآمر لكي يحتل صدام بلادهم، وأن ينسوا أنهم كانوا شديدي الحماس لصدام قبل أن يفعل ذلك، لأن ذلك يعني أنهم خدعوا وأنهم كانوا بعيدين عن المبادئ، وأنهم بمعنى ما كانوا مستحقين لما حدث لهم وليس لهم حق في أي تعويض.
إنها جميعاً أعراض أولية للإنكسار حتى إن لم يكن هذا الإنكسار متفشياً بعد، كما في الحالتين المستفحلتين: العراقية في فترة حكم صدام، والمصرية الحالية في حكم مبارك.

مهاجمة بديل اضعف
وأخيراً وليس آخراً هناك الهرب عن طريق مهاجمة شيء آخر لتفريغ غضب الإنكسار به. وهنا تفيدنا أيضاً ثروة ملاحظات الأستاذ محمد عبد المجيد في هذا الشأن حيث يصف كيف يتجه الصحفيون لنقد الوزراء بدلاً من الوحش المخيف، فيقول أنهم "يدخلون معركة الوطن ضد العبيد, أعني كل من حول السيد الرئيس, ويستجدون السيد أن يستبدل بهؤلاء العبيد عبيدا آخرين لعل تغييرا آخر قد يطرأ على مستقبل الوطن المسكين". (5)

إنها أيضاً حرية تنفيس يوفرها الطغاة أيضاً دائماً وفي كل مكان لمنكسري شعوبهم ليتمكنوا من البقاء "على قيد الإنكسار".
بعد كل حادث إرهابي في العراق، يتسابق الشيعة والسنة في إلقاء اللوم على بعضهم البعض، أو "بقايا البعث" أو "القاعدة" أو "إيران" او "السعودية"....أي شيء...المهم هو تجنب اتهام الوحش الكبير، خوفاً منه أو حرصاً على عدم تحطيم الآمال العزيزة المرتبطة بحسن نيته, وحين لم تنفع تلك المحاولات في تفسير إحدى العمليات الإرهابية، حين لا يكون إتهام أي من تلك الأطراف البديلة معقولاً، كما حدث في جريمة اغتيال الضابط الكبير مبدر الدليمي، فأن الصحافة تكتب: "أنها جريمة غريبة وغامضة!" .
ولقد وجد المصريون والجزائريون الذين يقعون تحت ضغط اضطهاد شديد بديلاُ لتفريغ توترهم في مهاجمة بعضهم بعد أن وفرت لهم كرة القدم فرصة، وإن كانت سخيفة، للقيام بذلك.

في الحلقة الثالثة والأخيرة سنحاول مناقشة السؤال: ما العمل؟



(1) هل نحن شعب منكسر؟ وما العمل؟ (1 من 2):  http://www.yanabeealiraq.com/articles_10/s_kalil080110.htm
(2)"هل الأمريكيين شعب منكسر؟" http://www.informationclearinghouse.info/article24184.htm
(3) صوت العراق http://www.sotaliraq.com/articlesiraq.php?id=52417  
(4) http://www.yanabeealiraq.com/articles/saib-khalil291109.htm
(5) محمد عبد المجيد - نعلن هزيمتنا أمام الرئيس حسني مبارك وابنه
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=29441
 

 

10 كانون الثاني 2010
 

¤ هل نحن شعب منكسر؟ وما العمل؟ (1-2)
 

 

free web counter