نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صباح الجزائري

 

 

 

 

الجمعة 14/7/ 2006

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 


ثورة 14 تموز خالدة الى الأبد ....و لكن !!

 

 صباح الجزائري

نعيش الذكرى الـ 48 لثورة 14 تموز 1958 الخالدة. ثورة كل الشعب العراقي ، و العراق اليوم ـ و طناً و شعبا ـً يمر بأخطر مرحلة في تاريخه ، حيث يقف على مفترق الطرق بين أن يؤسس لدولة القانون و الديمقراطية و حقوق الإنسان و بين أن يجري مسخ كل شيء ويفقد كيانه و تأريخه إلى الأبد و يتحول إلى دولة ذات تقسيم طائفي عرقي لا إنساني.

التأريخ ،كما يعرف الكثيرون، تصنعه الشعوب ولكن يكتبه الأقوياء، يكتبوه حسب أهوائهم ورغباتهم، يحاولون إنكار دور شعوبهم وخصومهم والآخرين، لكنهم مهما حاولوا طمس الحقيقة فإنها ستظهر ناصعةً في يوم من الأيام. وهاهو التأريخ ينصف ثورة 14 تموز الخالدة عندما أعتبرت العيد الوطني للشعب العراقي بعد محاولات تغييبها كل هذه السنين.

هذا الحدث التاريخي الذي نحتفل بذكراه اليوم، لا يمثل للناس الخيّرين و محبي الحرية والديمقراطية سوى بداية الطريق نحو الحرية الحقيقية للعراق و السعادة الحقيقية للشعب العراقي. وعلينا أن نثق تماماً بأن كل ظلام العالم مهما كان حالكاً و شديداً لم ولن يقوى على إطفاء شمعة.

هناك سببان يجعلان من ثورة 14 تموز، ثورة وطنية ديمقراطية و شعبية بحق رغم إنكار البعض ذلك :
الأول يتعلق بها كحدث أي أسباب قيامها والقوى التي قادتها ونفذتها والأهداف التي تبنتها والأنجازات التي صنعتها و الجماهير التي التفت حولها، مما أعطاها صفة الثورة حتى وإن بدأت بشكل يمكن أن يوصف بالانقلاب.
الثاني يتعلق بالظروف المحيطة بها أي حجم التآمر الرجعي الداخلي والخارجي ضدها وهي لا تزال في بداية الطريق.

لقد أسقَطَتْ الثورة النظام الملكي الى الأبد وقوضت أحد أهم دعائم الهيمنة البريطانية والأمريكية في المنطقة:
* فحررت العراق من سطوة شركات النفط البريطانية ( أممت أكثر من 99% من أراضي الإستثمار).
* وحررت العراق من حلف بغداد العسكري الإستعماري العدواني.
* وأعتقت العراق من كتلة الإسترليني المالية التي جعلت من العراق تابعاً مالياً ضعيفاً لبريطانيا.
* وأعطت قوة المثل وحرضت الشعوب العربية على النضال ضد الاستعمار و الاستغلال و من أجل التحرر في المنطقة واعتمدت مبدأ عدم الانحياز في السياسة الخارجية و العلاقات الدولية.

هذه الإنجازات الخارجية وغيرها اقترنت بإنجازات داخلية مسّت وتبنّت مصالح الطبقات الفقيرة من الشعب.
* فحررت الأراضي الزراعية من سطوة ألإقطاعيين وشرعت في توزيعها على الفلاحين المعدمين و سنّت قانون الإصلاح الزراعي الذي أنصف الفلاحين في أراضيهم.
* وحررت المرأة وأعطتها حقوقها وأنصفتها من خلال قانون أنساني للأحوال الشخصية .
* وأطلقت الحريات الديمقراطية و سمحت بتشكيل الجمعيات والنقابات وأتحادها والمنظمات الجماهيرية المختلفة حيث جسدت و بحق مؤسسات المجتمع المدني .
* وأطلقت حرية التعبيرعن الرأي وأجازت الصحف والمجلات ذات الإتجاهات الساسية والفكرية المختلفة تعبيراًعن التنوع الرائع للشعب العراقي.

إلا أن الأبرز من تلك الإنجازات كان ترسيخ مبدأ المواطنة كمعيار بين أبناء الشعب بعيداً عن أي تمييز ديني أوطائفي أوقومي أوسياسي، فصار المعيار السائد هو الولاء للوطن بعيداًعن المصالح الفئوية والذاتية والأنانية الضيقة، و ياليتنا نستلهم اليوم هذه العبر من الثورة الخالدة ونتخلى عن المحاصصة الطائفية والقومية البغيضة.

لقد نجحت الثورة بجهود أبناءها الخيرين ، وكانت ــ بسبب نهجها وأهدافها الإنسانية النبيلة ــ مستَهْدَفَة من قبل الأعداء الداخليين ممن تضررت مصالحهم ــ تماماُ كما يحدث اليوم ــ وكذلك الخارجيّين بمختلف تلاوينهم ــ أحد أهم أسباب عدم الاستقرار اليوم و تدهور الوضع الأمني هو التدخل الخارجي ــ أولئك اللذين فقدوا العراق أو طمعوا به كقاعدة إستراتيجية اقتصادية / النفط ، و عسكرية/ الموقع الجغرافي الأستراتيجي.

ولم يكتب للثورة أن تستكمل مسيرتها عبر تشكيل برلمان ديمقراطي يسن و يشرّع دستور ديمقراطي دائم يرسي الأساس لدولة القانون و مجتمع العدالة الإجتماعية و الحريات السياسية و السلام و الديمقراطية .إلا إن ثورة تموز أقرت دستوراً مؤقتاً يعتبر من أفضل الدساتير قبل الثورة و بعدها في تاريخ العراق إذ أنه أقر و للمرة الأولى بمبدأ المواطنة وبأن العراقيين متساوين أمام القانون دون تمييز سياسي، ديني ، قومي، طائفي ، عرقي أو أي تمييز آخر، و كما أقر الدستور بأن العراق شراكة بين الكرد والعرب، وما أحوجنا اليوم لمثل هذا المبدأ حقيقةً و ليس إدعاءً.

من أبرز دروس ثورة تموز الخالدة ــ باعتقادي ــ نستخلص ما يلي:

1 ــ كلما كانت قوى الشعب الديمقراطية موحدة ، كلما ضعفت أمكانية مصادرة حقوقه و حرياته، و كلما كانت هذه القوى مفتتة و متفرقة تسودها نزعات الهيمنة والإستئثاروإقصاء الآخر كلما سهل أنكسارها وهزيمتها وفقد الشعب كل منجزاته و تراجعت حياته.وعلى النخب السياسية والثقافية أن تدرك اليوم ذلك.

2 ــ كلما غابت الديمقراطية كلما سهل قتل الثورة مهما كانت سلطتها عظيمة.

و قد أثبتت تجربة ثورة تموزأيضاً، بأنه لا القوة العسكرية ولا الأجهزة الأمنية مهما تجبرت تستطيع حماية الديمقراطية، وإنما بالإعتماد على الجماهير الشعبية ذاتها وبواسطتها فقط تستطيع أن تحافظ على هذا المكسب. و هذا ما يجب العمل به اليوم و بقوة ، لأن أعداء العراق اليوم كثيرون جداً و يتبرقعون بأغطية مختلفة، حتى إن البعض منهم يدعي حرصه على البلاد، و يستغل الديمقراطية ليمرر مآربه الخفية.

لقد أدى التناقض بين أهداف الثورة و ممارساتها التي أبعَدَت القوى الديمقراطية الحقيقية وأضعفت مواقعها إلى سهولة اختراقها و من ثم أسقاطها بإنقلاب 8 شباط الأسوّد والفاشي عام 1963. حيث تضافرت قوى أعداء الثورة في الداخل والخارج للإجهاز عليها. وقد جَرّ ذلك على شعبنا الويلات والكوارث الاجتماعية والسياسية منذ ذلك اليوم حتى يومنا الحالي و يبتعد عن الموضوعية كثيراً من لا يربط بين انتكاسة ثورة 14 تموز1958 و بين معانات شعبنا الحالية، فما الحاضر إلا امتدادا للماضي..

يحتم هذا الأمر علينا اليوم استلهام العبر و الدروس و أهمها كما قلنا وحدة قوى الشعب الديمقراطية ذات المصلحة الحقيقية في بناء مجتمع ديمقراطي حر، بعيداً عن كل أشكال الاستئثار القومي والديني والطائفي المقيت، باعتماد مبادئ المواطنة والكفاءة بدلاً من الولاءات الطائفية والقومية اللامبدئية. فضلاً عن إشراك جميع الحريصين على العراق و مستقبله في العملية السياسية، بشكل جدي و ليس هامشي، إن عراق اليوم كما يؤكد الجميع هو للجميع.

لقد أنجز الشعب العراقي اليوم مستلزمات تأسيس نظام ديمقراطي عندما أستكمل كل الخطوات الرئيسيّة : انجاز الدستور و التصويت الشعبي عليه و هو في طريق إجراء التعديلات عليه؛ انتخاب مجلس الأمة الدائم بدورة 4 سنوات و انتخاب الهيئات السيادية رئاسة الجمهورية و مجلس الأمة و رئاسة الوزراء؛ وهي خطوات أساسية من أجل الانطلاق كعراقيين لإعادة استقلال و سيادة و بناء الوطن المحطم بسبب سياسات النظام الدكتاتوري البائد و الاحتلال و الإرهاب والطائفية، هذه الأسباب التي تفعل فعلها في الإجهاز على ما تبقى من العراق، الأمر الذي يتطلب منا جميعاً التكاتف لإنقاذه. وذلك عبر وحدة وطنية صادقة النوايا، أساسها الثقة المتبادلة والنزاهة و تعميق روح المواطنة و التخلي عن المنافع الضيقة، إن ذلك سيكون الطريق الوحيد و الأوحد لإنقاذ العراق ، و لنتذكر إن الإجهاز على ثورة 14 تموز ما كان بإمكانه أن ينجح إلا بسبب عدم تحقيقها لهذه الوحدة.

هناك من يعتقد إن هذه الإجراءات والخطوات تمت تحت خيمة الاحتلال و مباركته، وهناك من يرى أن أغلبية القوى التي تتصدى للعملية السياسية اليوم قد وصلت الى السلطة بفعل و فضل الاحتلال ومساعدته حتى و إن اعتمدت طريق الانتخابات التي لم تكن سوى آلية اعتمدت تحت ظل الإحتلال للتعرف فقط على حجم القوى الفعلي على الأرض وكان هذا دافعاً كبيراً الى اللجوء لكافة انواع الاحتيال و التزييف و التلاعب في العملية الإنتخابية.

إلا إن كل هذه الأسباب أو غيرها ربما لا تلغي الحقائق التالية :

1 ــ ان النظام السابق لا مثيل له في ممارسة البطش و التنكيل و التقتيل ، وما كان بالإمكان إسقاطه من قبل أبناء الشعب او القوى العراقية المعارضة آنذاك ، طالما لم يكن بمستطاع هذه القوى على إختلاف معتقداتها وأهدافها وقدراتها وحجم الدعم الخارجي الذي تحضى به من قبل دول الجوار او العالم الخارجي ان توحد كلمتها و جهودها لإسقاطه. و هذا أحد أسباب عدم الثقة فيما بينها الآن رغم اختلاف الظروف.

2 ــ أن عمليتي إسقاط النظام و الإحتلال قد اقترنتا مع بعضهما، حتى ليصعب الحديث عن الفصل بينهما او تغليب احدهما على الآخر. و لكن ما هو أكيد هنا أن كلا العمليتين كانتا بدافع المصالح الإستراتيجية لأميركا وبريطانيا و ليس بدافع الدفاع عن العراق ولا عن شعبه ولا عن الديمقراطية ولا في سبيلها. فالجميع يعلم ان الديمقراطية الوحيدة التي تؤمن بها هذه الدول ومثيلاتها هي الديمقراطية التي تؤمن مصالحها الإستراتيجية وليس أي شيء آخر.

3 ــ إن عملية الإنتخابات و الإنجازات المتحققة حتى الآن، حتى وإن تمت تحت خيمة الاحتلال و رغم كل ما شابها من تلاعب فإنها ساهمت بتعريف الشعب العراقي عما تعنيه الإنتخابات و بفعل الاعتراضات والكشف عن الأخطاء و الممارسات الخاطئة التي رافقتها أستطاع أبناء الشعب التعرف والى حدود لا بأس بها على ما هو صحيح وما هو غير صحيح، رغم تدني الوعي الإنتخابي كثيراً او إنعدامه لدى غالبية أبناء الشعب. إن مجرد ممارسة الإنتخاب بحد ذاتها تعتبر عملية توعوية رغم ما رافقها من أخلال ، ويشكل هذا الأمر خطوة فاعلة نحو الديمقراطية حتى لو سعى الآخرين تشويهها و تشويه محتواها .

4 ــ يعيش المواطن العراقي الآن خيبة أمل رغم كل الإنجازات المتحققة، إلا أن أبرزها غائب حتى الآن بل و يكاد يضيع الى الأبد. فبعد إنقضاء ثلاثة سنوات على سقوط الصنم أو الإحتلال ـ سمها ما شئت ـ لم يجد المواطن العراقي نفسه إلا مضطراً للهجرة مرة أخرى داخل او خارج الوطن للهروب من مسلسل الرعب اليومي من جهة ومن التدهور الاجتماعي و الخدماتي على كافة الصعد من جهة أخرى، وذاك الذي أنغلق أمامه طريق الهروب ، َسلَّمَََ أمرة لقدره. و هذا يعني فشل مسعى القائمين على مشروع بناء دولة العدالة و السلام و الأمان حتى الآن . طبعاً لذلك أسباب منها مبرر و الكثير غيرها غير مبرر حيث لا يتسع المجال للحديث عنها الآن . إلا أن أبرزها ــ باعتقادي ــ هو غياب وحدة الشعب بالدفاع عن قضاياه بنفسه وأخذه زمام المبادرة سواء بالتصدي للإرهاب او بالضغط على الحكومة من أجل تحقيق الأهداف الديمقراطية المنشودة أو النضال ضد الإحتلال. لكن كيف السبيل و المواطن العراقي لا يستطيع حتى مغادرة مسكنه لقضاء حاجاته الضرورية فما بالك بالضغط لتحقيق مطالبه المشروعة و هو ( المواطن) يرى حتى أولتك اللذين يرافقهم مجموعة من المسلحين لحمايتهم لا يستطيعون إنقاذ أنفسهم فعلا !! ترى هل يحتاج الأمر الى صبر أم الى فداء؟؟ ترى هل هناك من يسعى لتعجيز المواطن العراقي ليصل الى مستوى القبول بأي شيء و أي الحلول من أجل الخلاص من مسلسل الرعب هذا؟ هذا ما على الجميع البحث فيه .

5 ــ ان عملية التصدي للإرهاب عملية مركبة سياسية و اقتصادية و اجتماعية و عسكرية و إستخباراتيّة و ... و لكن جانبها العسكري هو العامل الحاسم في هذه المرحلة ، و يشكل الأساس لتفعيل العوامل الأخرى. و من الواضح الفشل فيه حتى الآن. هذا الفشل يضعف من جهة أخرى مساهمة الجماهير الشعبية بالتصدي للإرهاب خشية الانتقام اللاحق.

6 ــ أن النضال ضد الإحتلال قد يتخذ أشكال و أساليب عديدة و متنوعة ، ولازال الأمر حتى الآن خارج أيادي و قدرات وإرادة أبناء الشعب و قواه الفاعلة والصادقة في هذه العملية. لكن ذلك يصطدم بأهم المعوقات و أخطرها و أقصد بذلك شيوع التمزق الطائفي و القومي و تدني الشعور الوطني و تغليب الولاءات الأخرى على الولاء للوطن ، لا بل أخطر من ذلك بكثير إذ أن خطر الحرب الأهلية يتصاعد وهناك أكثر من جهة محلية وإقليمية ودولية تتمنى ذلك للعراق، وإن لم يكن كذلك فعلى الأقل لا يريدون الاستقرار له.

7 ــ أن صدام حسين و ابرز رجالاته لا زالوا حتى الآن بعيداً عن ساعة القصاص ، إذ يتولد شعور لدى غالبية أبناء الشعب انه ربما يكون هناك تواطؤ بهدف تخليصه من العقاب العادل الذي يستحقه، تماماً مثلما تم تخليص دكتاتور شيلي السابق بينوشيه من العقاب الذي يستحقه. هذا الأمر يعطي أغلب القوى الإرهابية دعماً لمواصلتها ولمعنوياتها.

لا زال الأمر غير ميئوساً منه ، فحكومة الوحدة الوطنية تشكل أساساًً جيداً و متينا إذا ما اقترنت بالابتعاد عن المنافع و المصالح الفئوية الضيقة. هذا الأمر ليس سهلاً لكنه الدرس الأهم من دروس ثورة 14 تموز. و لكن الحذر كل الحذر من محاولات زرع الفتنة وتفريق الصفوف، عبر الاستفادة من إمكانية استغلال السلطة أو الاختراق التي تتيحها آلية حكومة الوحدة الوطنية أو مبادرة المصالحة الوطنية التي أطلقها السيد رئيس الوزراء مؤخراً بالتشاور مع القادة السياسيين للبلاد والهادفة لتوسيع المشاركة في العملية السياسية لتضييق النطاق على الإرهاب والتخلص منه.

أن الشعب الحي هو الذي يستطيع الاستفادة من تجاربه وتاريخه، و ما أمام شعبنا العراقي غير هذا الطريق. و ثورة 14 تموز 1958 هي خالدة أبداً وهي إحدى أهم المحطات في تاريخ العراق ... ولكن بغض النظر عن الأحكام التي تطلق عليها، ما علينا إلا أن ننهض جميعاً ، مستلهمين العبر من دروسها وتجربتها متحدين و متصدين لإنقاذ العراق الحبيب و لقطع الطريق على كل المحاولات والسياسات التي تهدف و تريد تمزيقه طائفياً ومذهبياً وقومياً وجره الى الحرب الأهلية التي سوف لن يكون فيها أي رابح، بل الخاسر الوحيد فيها هو الشعب العراقي نفسه.

مجدا ًلتلك الثورة الخالدة و لذكراها الأبدية و لكل أولئك الأبطال الذين ساهموا بصنعها.


السويد مالمو 14 تموز 2006