| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سلام إبراهيم

 

 

 

الأربعاء 8/2/ 2012



بمناسبة يوم الشهيد الشيوعي العراقي

ثلاثة أقمار ستبقي تضيء ليل العراق الطويل

سلام إبراهيم


الشهداء كفاح عبد إبراهيم، صلاح مهدي الصياح، وعلي عبد الباقي 1980

-1-
عثرتُ على هذه الصورة النادرة في زيارتي الأخيرة إلى العراق قبل شهر. الصورة تجمع ثلاث شهداء شيوعيين، يظهر في وسط الصورة أخي وصديقي الرسام والمثقف – كفاح عبد إبراهيم – 1957 – 1983 كان طالباً في الجامعة التكنولوجية حينما أضطر إلى الاختفاء عن أنظار السلطة زمن الحملة الشرسة على القوى الديمقراطية. ظل يجوب بين أمكنة سرية في بغداد والمحافظات، يعمل بتفانٍ ودون كلل في التنظيم السري، وكان يبعث لي بالمواعيد فنلتقي في بغداد. كان غيابه مراً عليّ فقد نشأنا في غرفة واحدة وكنا نختلف في المواقف والأفكار، إذ كان شديد التفاؤل، صلب الموقف، شديد الإيمان، وكنت مهتز القناعة، لي مسافة من العمل الحزبي، أرى بالأفق كارثة. لم ينقطع الحوار بيننا حتى وهو مختفٍ. وفي حوارٍ حادٍ حول المستقبل وجدوى اختفائه قال لي:
- أسمع، سلام لو بقيت الشيوعي الوحيد في العراق سوف لا أتنازل!.
رددت:
- هذا كلام صوفي لا كلام شيوعي يفكر بشكل عملي!.
كنا وقتها ندور في أزقة الفضل الضيقة. وقف ونظر لي بعمق وشرد بعيدا قبل أن يضيف وكأنه لم يسمع ما قلت:
- مثل الحسين في كربلاء!.

كففت بعدها عن الحوار معهُ. وحاولت مساعدتهم قدر استطاعتي وفعلت ذلك. انقطعت أخباره تماما في منتصف عام 1980 ليبلغ أمن الديوانية عن إعدامه في الشهر العاشر – 1983 دون تسليم جثته. في هذه الأثناء كنت وسط الثوار في الجبل. وهنالك أخبرني – أبو ماجد (كريم عرب) – بأنه هرب من الديوانية إلى – بغداد – فأخفاه - كفاح - ودبر أمر التحاقه إلى الجبل. وروى لي قصة طريفة، ملخصها بأنه والرفيق الكردي المكلف بإيصاله كانوا في طريقهم إلى – السليمانية – وفي استراحة وسط الطريق في – طوز خرماتو – نزل الركاب لتناول الغداء. ففوجئ – كريم – بوجود مفرزة خاصة من أمن الديوانية منتشرة في المطعم. فسارع إلى العودة إلى – بغداد – دون أخبار الرفيق. وعند منتصف الليل قُرِعَ باب المكان الذي كان مختفيا فيه، وبعد تردد فتحوه فكان ذلك الرفيق الكردي. فرتب – كفاح – الأمر ثانية ونجح بتأمين وصوله إلى صفوف الثوار. سألتُ كريم:
- ليش ما التحق؟
- كانت مهمته تأمين وصول الرفاق المختفين إلى الجبل!.

- 2 -
الذي إلى يساره، الواضع ذراعه الأيمن على كتف – كفاح والمحدق نحو عين الكاميرا باسماً هو الشهيد – علي عبد الباقي البناء ( 1960 – 1983 ) كان طالباً في الصف السادس بإعدادية الديوانية المركزية حينما اختفى وقت الحملة – 1978 – لاجئاً إلى بغداد، انقطعت أخباره في منتصف عام 1980 وبلغت عائلته بإعدامه في الشهر العاشر 1983 دون تسليم جثته التي لم يعثر على رفاتها في المقابر الجماعية حتى الآن. كان شاباً يشبه الطيف مسالم، شديد الرقة، وكان أباه شديد التعلق به. وكنت ألتقي به أيضا في اختفائه، وقدمت ما أستطيع له من المساعدة، فهو ابن عمتي – نعيمة – التي تصغر أبي بعام. في هذا المقام بودي رواية حدث أفضاه لي ونحن نتسكع بأزقة بغداد القديمة في إحدى لقاءاتنا يكشف عن رقة وصلابة هذا النمط من البشر في نفس الوقت، حكى قائلا:
- سلام خلي أسلوف لك أش صار بيّ، كان عندي موعد وكنت مستعجلاً وبالضبط عند جدار جامع الحيدر خانه بشارع الرشيد، وفجأة وجدت نفسي بحضن رجل كبير شبگني وراح يبچي. لمن انتبهت من المفاجأة شفته أبوي. ظل يهذي؛
- ليش يابوية تبهذل حياتك ومستقبلك، مدرستك يا بوية والعائلة!.
هدأته وطلبتُ منه أن يخفض صوته وعبرت به إلى مقهى – حسن عجمي – أخبرني أنه يغبش فجر كل يوم، يدور في أماكن بغداد العامة عله يشوفني وما يرجع للديوانية حتى تظّلم الدنيا. طمأنته وگلت: بوية راجع وياك بس عندي شغله أخلصه وأجي، نظر بعينين شكاكتين وگال: يعني أبقه أنتظر!. عانقته ثانية وگلت: بوية أنتظر. وفلتت بسلام. لما نزل الظلام رجعت ومن على الرصيف المقابل شفته گاعد بنفس المكان وعيونه على باب المقهى. فبچيت وشردت من الشارع!.
علقتُ قائلاً:
- موقف قاسي يا علي.. ليش ما گتله ما أرجع!.
- سلام يفضحني.. يبچي ويلّمْ عليّ الناس.. ما تعرف شگد حريص علينه!.

- 3 -
الذي إلى يساره، المبتسم ملأ فمه الناظر بعينين باسمتين جهة شمال الصورة هو الشهيد – صلاح مهدي الصياح – ( 1958 – 1983 ) كان طالباً في المرحلة الأولى بكلية الآداب – قسم اللغة الإنكليزية – عندما أضطر إلى الاختفاء وقت الحملة. انقطعت أخباره منتصف 1980 وأبلغ عن إعدامه في العاشر من 1983 دون تسليم جثته التي لم يُعثر عليها أيضا في المقابر الجماعية حتى الآن. نشأ يتيم الأب فما كاد يبلغ الثانية من العمر حتى توفى والده زوج عمتي الصغيرة – سهام – التي رفضت كل عروض الزواج مكرسةَ نفسها لتربية أطفالها الثلاثة، وكان بيتها ملجأ لي منذ الطفولة حينما أشاكس وأهرب من عصا أبي فأبات عندهم، ومن هنالك نشأت علاقة صداقة عميقة بالشهيد – صلاح – حتى صرنا في السبعينيات نكاد لا نفترق متعلقين بالصبايا وننهل من الكتب الماركسية وكتب الأدب ونتحاور ونختلف ونتصالح إلى أن اختفى مخلفاً فراغا كبيرا في نفسي ما زلت أعاني منه، لم يتسن لي اللقاء به في اختفائه سوى مرة وحيدة طلبتها من أخي – كفاح – وفي موعدٍ قرب گراج – النهضة – وقادني من هناك مشياً حتى الشارع المقابل لساحة النصر، ودخل مقهى مدمني سباق الخيول ليخرج بعد ثوانٍ وبصحبته – صلاح -، ما أسعد تلك اللحظة فكفاح لم يخبرني بأننا سنلتقي بـه في هذا اللقاء. ليلتها طلبت أن لا نتكلم بالسياسة. بركن منزو في حانة هادئة بزقاق من أزقة الكرادة نهلنا من ذكرياتنا الصغيرة، وأراني كفاح رسومٍ جديدة ثم قرأ لنا أشعارَ حبٍ كان يكتبها في دفترٍ عثرت عليه لاحقا. خرجنا ليلتها مخدرين بالنشوة نعب من هواء آذار 1980 وودعتهما في ساحة الأندلس . صلاح ركب من الجهة المقابلة، و كفاح ركب من الجهة التي كنا فيها. لم أرهم منذ ذلك اليوم!.

- 4 -

الصورة المنشورة التقطت في اعتقادي قبل أشهر من إلقاء القبض عليهم، بمعنى أنهم كانوا بهذه الهيئة وقت غيابهم ومواجهتهم الجلاد في أقبية الجحيم الباطني الذي اجتازوه ببطولة نادرة إذ لولا صلابة موقفهم وثباتهم حتى الموت لكنتُ أنا والعشرات من أبناء الديوانية وممن لا أعرفهم من المدن الأخرى في عالم الغيب.

طوبى لهم
طوبى لمن يفني ذاته من أجل خلاص الآخرين.
طوبي لثلاثة أقمار ستبقى تضيء ليل العراق الطويل.


8 – 2 - 2012-
الدنمرك












 

free web counter