د. صدام فهد الأسدي

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأثنين 6/10/ 2008

 

دراسة نقدية في قرابين العش الذهبي ، للشاعر منذر عبد الحر
 

افتراضات تسبح في لجج الرمل

د. صدام فهد الاسدي  *

لن أتحدث عن غيبيات مفتعلة بل ارسم أشجارا نمت من معطيات القرابين وكأني أضع نفسي في قفص الاتهام أمام أحبة الشاعر ,ولا أقول أعداءه بل أقول من أين تفتح المجموعة الشعرية لتقرا؟ واقف واثقا من ان الشعر موهبة تخلق لاحذق يكسب بالمران وأظن قول عنترة يظلم الشاعر(هل غادر الشعراء من متردم) لا ينطبق القول على شعرية منذر بل أتفاءل فمازال الشعر في صحوة وسوف تمطر سماء الإبداع بالقادم الكثير خاصة وأنا التهم هذه المجموعة التهاما لأسباب فنية تتعلق بالشاعر الوسيم:

ولدك الوسيم الهاديء
الذي يطربك سؤال الصبايا عنه

وكما تشرب الشجرة الماء ويطلق العندليب صوته الجريح تسربت تلك الشظايا الحزينة إلى مرا فيء النقد وكأني أجده يحرض نفسه على حرق بقايا دمه بل يفجر جسده العليل بقنبلة الشعر:

لم ارتكب الشعر إلا عزلة

ومازال الشاعر متوقفا عند نقطة يأس :

كل شيء على حاله

يرتد بين جدران الحلم :

فلوى عنق أحلامه
غارقا في عتمة ارض يباب

وقد اسمع أصوات قرابينه تئن بل تخرج صوتا ازليا اسمه الصوت اللغة التي تفقد معناها حينما تنطق وكم يزدري ذلك الزمن الخرف الذي لا يميز بين الدر والفحم فيخلط اليابس والأخضر وتكثر الألقاب وتقسم التيجان ويعتم على الشعر وكأني أرى منذرا مغامرا باحثا عن معطيات حضارية ضائعة ليست بعقيمة ولكن الأبناء الأفذاذ قد اطفأوا مكارم الأخلاق لذا عاد متأبطا ذاته مقلدا (تأبط شرا)وهو يحمل قرابينه أسرارا كثيرة استحقت أن اجعلها مهيمنة لدراستي المبنية على وجهات نظر وانطباع صرف:

فاجأته الذئاب بالدسائس فتأبط حرائقه

وقوله :

لي مدن من الألم اتابط بعضها

وقوله :

هو الآسر بطمأنينته وهو يتأبط القلق

وقوله :

وأطلق عليه فواخت عزائه فتأبط ذنوبه

ومن مرجعيات منذر المكشوفة للعيان الاعترافات الواقعية التي نخلص من أهدافها إلى قوة الفكر وصراحة المواجهة وسداد القول حيث قال الشاعر في اعترافاته"

- ارتعشت وهي تكتب اعترافا
- يغسل شاهدته ويسجل عليها اعترافاته
- مرة قدموا لي طبقا من اعترافاته
- رأيت في المرآة رجلا على هامته يرسم القمر اعترافا

ومن مرجعيات الشاعر الانسلاخ من القرية إلى المدينة بشكل واضح :

الغاز جاءت من قريته بأسماء غريبة
وما عاد يقطع الليل إلى قريته بالغناء
وتمتع بالرحيل إلى قريتك

وقد احتلت المدينة مساحة كبرى في قصائده لكنها كانت قلقة يحمل فيها روحا مهمومة وغضبا رافضا يصرخ بصوت عال :

يا وحشة هذي الدار
حين يرى سطوحها عشا للعناكب
وتنورها مكانا للفضلات

ولكنه حينما يفترض احتمالات الهروب نجده قائلا :

هاهو الهارب الأول يطرق بابك

وباتت موتيقة الألفاظ الخاصة بالمدينة نغمة مهيمنة في قصائده انظر تراصفها العددي :

- تقدمت مولعا بالمدن تلقى على الإسفلت
- سمعت نداءا فطويت المدن
- وخارطة تؤدي إلى مدن مأهولة
- وتعلقوا بغريب ذي مدن خربة
- ويرى الطريق إليك مدينة مضمدة
- إنني هكذا حملت خدوش مدينتي
لي مدن من الألم
نطقت شوارع وتآكلت مدن
استغاث بالشعر وضاع في غيابة المدن
سوى مدينة تبني من جراحها مآذن

ويزداد غضب الشاعر حتى يفترض ويقترح للمدينة موقفا :

المدن كلها ضعها في قنينة وارميها في ساقية

وأين يجد ضالته حين يجد المدينة ضائعة مثله,هكذا تكبر الصدمات والقهر في نفس الشاعر من المدينة الخربة الساقطة تحت سوط الخراب وهي تبعث روائح التخلف ,ومن مرجعيات الشاعر الطفولة الهرمة الممزقة تحت سوط الجلاد يبدأها بخط والده المرحوم حينما سجل تاريخ ميلاده في 13/5/1961 مؤكدا على الحرمان قائلا للناس :

ان ما خطه أبي مازال معتما
وحين دخل بلادا غريبة خلع ألقابه

وقد غدت الطفولة تضحك وتبكي عند منذر دون مغيث وهي تذبح في مهدها :

وانطفاء طفولته بين نخيلها

هنا يبدو التناقض بين نخلة تسقط ثمارها للوليد الآدمي عيسى وبين النخلة التي تنطفيء ثمارها أمام الوليد منذر انه روعة في التقارب وإصابة رائدة في التصوير ومااروع الصور المتلاحقة :

الذي غنى ألمه مبكرا وصام عن الطفولة

هذه شذرات منذرية رائعة في توصيف الصوم منقطعا ازليا حتى عن الطفولة في وطنه يبدو صائما عنها وقوله:

توزعت على ثلاث شموع الأولى كسرتها الطفولة

هذه مشاكسة وصفية مباشرة فمن اطفا شموع طفولته المسروقة ؟ ثم يصف ذاته معلقا على عمود الطفولة اعتزازا بها وهروبا من عمر يتلاعب به البحر وتزهق في أعصابه الريح"

وأنا معلق على عمود طفولتي

فكلنا يعرف المسيح معلقا على صليبه ومنذر معلق على عمود غربته وضياعه انه شعر يخلق شعرا وصور تخلق صورا في قوله :

ورملت الطفولة وألبستها الأسى

حقا انها لغة شاعر خلاق ومبدع في اقتناص الجديد فلا تكرار لدى منذر سوى نبضاته وكم أدهشتني هذه الصورة :

وزعي دمك على سواقي الطفولة

فكم قرأت الشعر العربي قديمه وحديثه لم أجد تناصا شعريا يلتحق بها أبدا
ومازال مصرا على تعرية حبل الغسيل كارها تلك الطفولة التي ألبسها الأسى وهي طفولة جمعية لا تخص ذاته انه لايتماهى لنفسه بل يعبر عن شعور جمعي وضياع دائمي يعيشه العراقي خاصة والإنسان في هذه الحياة أما الصمت فله موسيقاه عند منذر وله تفاعلاته وتشظياته ومواجعه :

- خلع ألقابه واكتفى بالصمت
- وحتى لايخطيء في صمته
- وتضيء مفاتن الصمت
- يطلقون الأسئلة متقصدة نحو صمتنا
- ناسيا حرائق موتاي ونذور صمتي
- ومساءات المثول أمام المشاجب وظهيرات الصمت
- قد كتبت حتى عنقي بيتا من الشعر يحفظ لي هيبة الصمت

هذه اللوحات ماذا اصنع بها كلها تقول أشياء وأشياء بتقابلات وتضادات فما علاقة الألقاب والمفاتن والأسئلة والنذور والظهيرات والهيبة إنها لافتات وتساؤلات تحتاج إلى إجابة مغلقة بذهن مفكر فقد يخشى منذر من الخطأ حتى في الصمت ويخشى من نسيان نذره صامتا

ومن افتراضات منذر تلك الرموز المتلاحقة التي تفضي عن احتراق وطني وشكوى غير منهية تحولت إلى لافتات حمراء دالة على استغراق في ضياع الحضارة والسؤال عمن أضاعها ورجوع الإنسان الى خيبته وفشله ضمن مفاتيح العزلة والغربة والدهشة :

اعطني يوما ليست فيه عربات أو دخان أو أرقام صفراء

لا يحتاج هذا النص إلى تحليل مطلقا فالوطن مزدحم بالعربات اللاهثة وراء الرزق هنا وهناك وهي تزيد ضجيج المدن ,قل الدخان المتصاعد من المعامل والآلات والسيارات كله يهدم بالبيئة وينقل الموت للناس مجانا أما الأرقام الصفر فهي دالة على التزوير والمغالطة والفشل في صنع القانون

أما في قوله:

هم يتسكعون تحت ناطحة السحاب

يفضي إلى حضارة تائهة بين ألاف المدن لافرق بين الظلام والضوء النفط يسيل والأنهار تتحدث ولكنه يتسول تحت ناطحات أعدائه

وفي قوله:

يختفي ساقاك بالمتسولين

سخرية واستهزاء من المفارقات البشرية بيننا وبينهم فهنا التسول معطى حضاري معتم فكيف يسير الفرد في الطريق وكيف يحفظ خطواته من زحمة المتسولين في الشوارع والمحطات والمرآب

وفي قوله  :

خذي منها صبر القضبان وعطب السقوف

إشارة إلى خراب المدينة النائمة في عتمة الخوف والجهل والضياع فما لها سوى عطب السقوف في الشتاء الممطر

وفي قوله:

انتظرت أن يأتي سائح ويرمي رسالة

إشارة إلى سقوط الثقافة وتدهور الفكر في وطن وجدت وخلقت فيه الثقافة هذه كلها رموز داخل المدينة الضاجة بتلك العجائب من البشر

واجزم ان قصيدة فطام في مجموعة قرابين تستحق الدراسة الأكاديمية بشكل مفصل لما فيها من رؤى فكر وقدرة شعر وصور مكثفة تختصر ولكنها تتكلم بالصمت خاصة ونحن نبحث عن خسائر الشاعر بعظمة لسانه يستخدم الفعل مهيمنة لذا أسميت بحثي افتراضات وقد وجدتها تسبح في لجج الرمل تغرق وتطفح وتغرق دون قرار

ساحكيني مفترضا لست من برج الثور

ينقلنا منذر الى ظل إنساني يلعب دورا في حياتنا وهو الحظ ويرى برجه عاثرا ولا يريد سوى القول بالأيمان بالمكتوب والقدر وهو يتأمل متسائلا عن بواعث الخير والشر في عمق الإنسان والبرج الثور ينص على قسمته ترابيا كان مائيا لا يدري كيف يؤمن به ويفترض مرة :

وافترض أيضا إنني لم ارتكب الشعر إلا عزلة

هنا قضية صارخة بالعنف فهو يحاكي أسباب موهبته وعزلته وهيامه وبلواه وسر ذبحه على منصة الحرمان انه الشعر داؤه ومرضه الذي لا شفاء منه أبدا

والافتراض الثالث يدخلنا في مفترق طرق وجدال عصيف يستحق التأمل حقا فكم اقرأ لنزار القباني مذابح وصراعا يوميا عن مفارقات قتل المرأة في حياته في شد وتعصب وابتذال ولكن منذر بشكل مكثف يوجز تلك النقمة البشرية في وضع النساء في مقصلة الموت والحكم الأبدي على ذبح النساء

وافترض حبيبات لم يتزوجن المطابخ
ولم يكنسن الأحلام بالخيبات
ولم تسرق المرايا الغنج من عيونهن
ولم تذبح الأمومة رفيفهن

حقا يقف النقد حائرا أمام فيض من الصور كلها تقول لا نرفع الأيدي احتجاجا على ظلم المراة التي يريدها منذر بريئة من القيد

كيف يبعد النساء من سجن المطابخ والحضارة وصلت إلى أين:
كيف يريد أن يبتعد النساء من كنس الأحلام بخيبة وفشل دائمين:
وكيف تلعب المرايا دورا في قتل العمر للنساء وقد كثرت التجاعيد ولم تقدر الأصباغ ان تغير ما أفسده الدهر ولا العطار بقادر على رسم العمر وخاصة قتل الحلاوة والغنج في الوجوه وماذا يفعلن وقد ذبحت الأمومة رفيف العمر,هذا شعر كبير برسم اكبر وقدرة شاعر مبدع بلا رتوش انه يفترض بل يقول الحقيقة ويتنبآ بل يقول الواقع

افترض أصدقاء طلقتها المقاهي

اهذا يحتاج إلى تحليل فالمقاهي دالة على الفراغ والحرمان من مباهج الأمل ونسيان العمر بالصفنات فالمقهى وضجيج الأصوات والألعاب فيها دالة على قتل العمر دون جدوى فلا مكان إلا المقاهي تلم شتات الضياع في الأزقة,والذي يدهشنا في منذر يضع افتراضات ونحن نضع الحلول فليس مطلوبا من الشاعر الإجابة عن التساؤل ابدا فما دور المتلقي وكم أتيه بمواقف رائعة عند منذر كلها تنقلني معه إلى طرائق قددا

خرجوا من الحرب بلا قرابين
ولم يطفيء العوق أمنياتهم فرسموا العالم على مقاعد الباص

انحتاج الى شرح وتعليل من هم الذين خرجوا خاسرين من الحرب وعوقوا بدمار الجسد بعد فناء الامل وانتهاء الرغبة والطموح والموت البطيء
وقوله :

كلانا يشم على جبينه الترقب
ويقطف النجوم لأمنياته
لذلك اخفي الصور

قد تجد تبريرا لائقا بلا خفاء والتماهي لكن الصورة تقول الأكثر والأحلى لو أمعنت النظر فيها
وقوله"

هو الذي خدش وجهه ليتأكد من لونه

قل انها بحث عن الذاكرة والاصل اليس مصدقا الانسان بهيئته وذاته انها اقسى حالات الدوار فيالصراع بين الحياة والموت(سكارى وما هم بسكارى)ولو تبحرنا في مدارات الشكل مثلا لا نلقى منذرا إلا مقتدرا في رصف صوره

دع الصيد في البرك

اهذه جملة انشاء ولكنها حكمة موجزة ثم يواصل قوله

وتأمل غناء الصياد
قل لجوعك عانق الوحشة
احفظه في حقل الروح
قل لنثارك قل لأصابعك وزعي دمك
دع الرسائل دع بريقهم دعهم وأطلق الألم

قد ترى افعال الأمر تضج بالكثرة قل دع تأمل ولكنها تقول شيئا أخر دال على الحركة والإيقاع والحركة الدائبة هنا وهناك فمن البرك إلى انتقالة أعلى للصياد ومن الجوع والوحشة إلى الدوار في حقل الروح ومن الأصابع التي توزع الدم ومن الرسائل التي تعبر عن الذكريات كلها روافد موحية للتخلص من بوارق الألم وإمطار الحيرة ودموع النسيان وقد تبغ الأفعال عددا لا نعقله ولكنها لا تخيفنا وهي تحافظ على وصف المشهد معتمدا على بنية القص:

سكب خشيته على السلالم
وانتشر في الأقبية
باحثا عن تجوال
غير مؤطر
وأوطان ترش أحفادها بالموسيقى

هنا أتوقف متسائلا لماذا يبحث عن أوطان لا يجدها وهي لاتسقي أناسها بالماء بل الموسيقى انه تلاعب بتراسل الحواس فالرش من الماء الحقيقي الى الموسيقى المنتقلة في أصداء الريح انه شعر يلقف شعرا وصور تكبر في رسومات رائعة

وصل رعاة إلى زهوري
فانطفأت في عيني سلالم السماء

مفارقة بين الانخفاض (الزهور والعلو السماء فماذا يفعل وقد وصل رعاة يرعون الجمال او الغنم ويلعبون في مقادير الورد الجميل لقد البس الشيء غير صاحبه بصورة مقلوبة حقا ثم تواصل في الطعنات مستهزئا

ويبقى النص مثيرا للمتلقي وهو يتابع قصا متلاحقا بالصور والخيال وهو يضع خاتمة لقصيدة متقصدا مرة وأخرى تأتي عفوية:

نرسم من الدموع خارطة للوطن
تقدم بعمى إلى الفرائس
يطرد الذباب عن التوبة

هذه سوداوية يريدها منذر وهو القائل:

اعطني يوما واحدا فقط لأثبت أن حياتي ليست سوداء

هكذا تستقر التعليلات وكانه يجيب على سؤال زمني فلماذا عدم النوم ولماذا ازهقت الراحة في الجسد؟

يحاذر أن ينام
أن يلوح للنوارس
أن يأتي لسائح

كل هذا الخوف لمن وممن هكذا تزداد حدائق منذر الشعرية بالكثير وقد رقص المجاز رقصا "والثمار المتدلية من سقوف الوعود من أين للوعود سقوف؟

لم يفتح الصهيل نوافذ لخرائبك
علق الأسئلة على مناديل فصوله
اختار مساءا ضاجا وقطع أوصاله

كل هذه تجسيدات رائعة فاحت بأريج ثقافة منذر وجهد وقراءته المتواصلة وحسن اختياره للصور فمن أين للضياع شرفات؟ومن أين للحيرة فضاء؟ كل فن شعري يقدم القرابين الشعرية للمتلقي على شكل شجر خصب لا توجد في مسامات جذوره صخور وحصى ولكن لابد للسنبلة أن تهزها الريح يوما فتحني رأسها تواضعا بالغم من حملها الكثير وهكذا كان منذر بحق خيام القصيدة العراقية

لقد رسمت رحلتي السريعة مع قرابين منذر وفيها الكثير لم اقله بعد ولا اعني اقتطافي أعواد سعف النخيل لأصنع منها خيولا اركض بها خلف شعره ولا اعني الاحتطاب في الظلام ولا انقل الماء إلى هجر حين يسقط الحجاب يبقى منذر منذرا بقول الشعر الرائع بتصوف عذري ومهنة شاعر متمرس غير نظام للكلام

قل أن القرابين كلها قرابين للعراق
قل أنها افتراضات ترسم العلاج الحقيقي للخراب الحضاري الذي سحقته خيول المغول
ماذا نقول للشعراء الكبار وماذا نرجم اللاشعراء
أنها افتراضات تسبح في لجج الرمل


* ناقد وشاعر
جامعة البصرة كلية التربية 23/9/2008م


 

free web counter